دوليات

صراع النفوذ يحتدم في القارة الافريقية.. أمريكا مطرودة من النيجر

بقلم: ابتسام الشامي

النفوذ الاستعماري إلى أفول

تحجيم النفوذ الغربي في البلاد وصولاً إلى تحريرها منه، كان في قائمة أولويات القيادة العسكرية للنيجر بعد نجاح انقلابها على حكم الرئيس المخلوع محمد البازوم في السادس والعشرين من تموز الماضي. البداية كانت مع طرد الفرنسيين من أقدم مستعمراتهم في غرب افريقيا. آنذاك عاند الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قرار المجلس العسكري مغادرة السفير الفرنسي نيامي بادعاء أن حكومة المجلس العسكري غير شرعية، لكن انتهاء المهلة المعطاة للسفير للمغادرة، بالموازاة مع تنامي مظاهر العداء للفرنسيين في الأوساط الشعبية النيجرية، اضطرت الإليزيه لتنفيذ القرار صاغرة، فغادر سيلفان إيتي البلد الأفريقي، قبل أن تتبعه القوات العسكرية في انسحاب تدريجي وصل إلى محطته الأخيرة في الثاني والعشرين من كانون الأول الماضي، لتُطوى بذلك صفحة من النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية بعد طيّ صفحتين مماثلتين في مالي وبوركينا فاسو.

وخلال مخاض إنهاء الوجود العسكري الفرنسي الممتد على مدى عقد من الزمن بذريعة محاربة الجماعات “الارهابية” حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على الصمت إزاء ما يجري، وفضلت اعتماد الديبلوماسية الناعمة عبر فتح حوار مع السلطات الجديدة، بهدف التأثير في الخيارات الاستراتيجية لنيامي من جهة والحفاظ على قاعدتها العسكرية القائمة في منطقة أغاديس من جهة أخرى. ومع أنها حاذرت استفزاز السلطات العسكرية في مواقفها المعلنة من الانقلاب وما تلاه من قرارات اتخذها المجلس العسكري في إطار استعادة السيادة على القرار السياسي للبلاد، إلا أن “مقام” قواتها في النيجر لم يطل كثيراً بعد الفرنسيين. ففي منتصف آذار الماضي، أعلن المجلس العسكري إنهاء اتفاق التعاون العسكري مع واشنطن. وفي خطاب للمتحدث باسم النظام العقيد أمادو عبد الرحمان، في السادس عشر من الشهر ذاته، لم يكتف الجنرال بإعلان إنهاء “الاتفاق العسكري” الموقع بين البلدين بشكل فوري، بل وجّه انتقادات لاذعة لواشنطن و”تواجدها العسكري غير الشرعي في النيجر نتيجة اتفاق فرض” على البلاد وفق تعبيره. وفي سياق خطاب إنهاء اتفاق التعاون العسكري، اتهم نائبة كاتبة الدولة للشؤون الأفريقية في الإدارة الأمريكية، مولي في، التي ترأست البعثة الأمريكية إلى النيجر، بالتعالي، منتقداً في نفس الوقت “إرادة أمريكا لتجريد الشعب النيجر السيادي من حقه لاختيار شركائه”.

روسيا الرابح الأكبر

ومع فشل المحاولات الأمريكية التأثير في قرار طرد الأمريكيين من النيجر، أعلنت واشنطن “موافقتها” نهاية الأسبوع الماضي، على سحب قواتها، البالغ قوامها أكثر من ألف جندي من النيجر، بناء على رغبة سلطة نيامي العسكرية. وفي ما تجدول القوات الأمريكية انسحابها من البلد الافريقي، فإن قرار الطرد جاء معبّراً عن التحولات التي تعيشها القارة السمراء في مواجهة الإرث الاستعماري، الذي لم يكتف بنهب ثرواتها وإنما صادر قرارها في بناء منظومة علاقاتها مع الخارج، و”هندس” تحالفاتها السياسية والعسكرية، بما يديم سيطرته عليها. وإذا كان ما يجري في النيجر اليوم يُعدّ وجهاً من وجوه المواجهة مع الغرب الاستعماري، فإن ما ساعد في هذه المواجهة، إلى ضعف الأنظمة المرتهنة للاستعمار، دخول قوى جديدة إلى ساحة المنافسة على القارة الافريقية، وفي مقدمها روسيا والصين. وفي مؤشر بالغ الدلالة على ما تعيشه أفريقيا من تحولات وصراع نفوذ متنام بين القوى المشار إليها آنفا، أن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية “موافقتها” على سحب قواتها من النيجر، جاء بعد أيام قليلة من وصول “فيلق أفريقيا”، الذي شكلته موسكو بعد إعادة تنظيم صفوف مجموعة “فاغنر”، إلى النيجر. وما بين وصول قوات الفيلق، وإعلان مغادرة القوات الأمريكية وقبلها الفرنسية، فإن ما جرى خلال الأيام الماضية اعتبر “انتصاراً” لروسيا في معركة صراع النفوذ. وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية أن قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من النيجر يعدُّ بمثابة نصر استراتيجي آخر لروسيا. وجاء في تقرير للصحيفة حول الموضوع “أن رحيل الجيش الأمريكي يعد انتصاراً استراتيجياً آخر لموسكو في منطقة الساحل”، مشيرة إلى أن عدداً من الدول الإفريقية بدأت بشكل متزايد في تجنّب الاتصالات مع الشركاء الغربيين، وبدلاً من ذلك بدأت بزيادة وتعزيز التعاون مع روسيا.

بدورها، نقلت صحيفة بوليتيكو، عن مسؤولين أمريكيين ادراكهم، أن استراتيجيتهم العسكرية في إفريقيا غير ناجحة، لأن بعض دول القارة سئمت من محاولات فرض الديمقراطية عليها وهي في الوقت ذاته بدأت تعتمد بشكل متزايد على مساعدة روسيا. وقالت الصحيفة الأمريكية، إن واشنطن بدأت تدرك عدم نجاعة استراتيجيتها المتمثلة في الضغط على النيجر وغيرها من الدول الإفريقية، من أجل دفعها “لقطع العلاقات مع موسكو وقبول المعايير الديمقراطية”. ونقلت الصحيفة عن كاميرون هدسون، الضابط السابق المتخصص بالشؤون الإفريقية في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قوله “بعد أن قامت هذه الدول التي شهدت انقلابات عسكرية، بطرد الفرنسيين وانغلقت على نفسها، حاولنا إعادة تنظيم الأمور على أمل أن نتمكن من الحفاظ على وجودنا هناك. ولكن من الواضح أن كل هذا لا يعمل.. لقد غادرنا والآن دخلت روسيا. الزعماء الأفارقة يقولون للدبلوماسيين الأمريكيين إنهم يريدون الحفاظ على العلاقات مع واشنطن لكنهم يرفضون الاقتراحات بأنه يجب على بلدانهم اعتماد الديمقراطية بشكل كامل”. وفي كلام معبر جداً عن صراع النفوذ على أفريقيا، يقول الضابط الأمريكي “لفترة طويلة قام الغرب بتلقين دول إفريقيا كيف يجب العيش، لكنها الآن تقول، لقد طفح الكيل. زعماء هذه الدول يؤكدون أن موسكو يمكنها تقديم مساعدة أمنية سريعة عندما لا تستطيع واشنطن تقديمها”.

خاتمة

على مضض تغادر الولايات المتحدة الأمريكية النيجر، مستجيبة لقوة التحولات في القارة الأفريقية، حيث تتمدد رقعة طرد الاستعمار القديم، وهي إذ تبرّر خروجها الاضطراري بدعوى عدم التزام نيامي وصفة “الحكم الديمقراطي” على الطريقة الأمريكية، فإنها تواجه تحديات مماثلة في دول أفريقية أخرى، حيث دعتها تشاد الأسبوع الماضي، إلى سحب قواتها من قاعدة عسكرية تقيمها على أراضيها. الأمر في أفريقيا ينبئ أن الوصفات الأمريكية في “الدمقرطة” وكذلك في محاربة التنظيمات “الإرهابية”، انتهت مدة صلاحيتها، والكلمة اليوم لصحوة التحرر التي تتنقل في أرجاء القارة السمراء.