الرجل المقدسي.. والنسيان!
بقلم غسان عبد الله
أفواجٌ من رياحٍ اختلفت مهابُّها تتهاوى نحو مدينةٍ ساحليةٍ.. ومن المسجدِ يتلاحَقُ تدفُّقُ الدعواتِ.. تلتَحِفُ القدسُ بعباءِةٍ صافيةٍ من الأصواتِ الليليةِ المبهَمَةِ، وتتنهَّدُ خارجةً من سحابةِ النهارِ.. حولَ سريرِهِ القريرِ يتحلَّقُ الليلُ، يغمغِمُ بأغنيةٍ قدسيةٍ وانيةٍ، وغيرَ عجلانٍ يُغْلِقُ عيونَ النوافِذِ بآخِرِ لمسةِ سَهَرٍ، فتُلقي القدسُ رأسَهَا على وسادَةٍ وثيرةٍ من النسيانِ العَذْبِ.
عندما راحتِ المدينةُ تسحبُ لونها عن الأرصفة، وصوتَها من الشوارعِ والأسواقِ، بدأ الرجلُ المقدسي على المساءِ يجرُّ قدميهِ نحو بيتِهِ المجاوِرِ للمقبرَةِ المسوَّرَةِ، قريباً من الحارةِ التي لم يَشْمَلْها المخَطَّطُ التنظيميُّ بعدُ.. كانت أجنحةُ عصافيرِ المساءِ الجبليِّ تندسُّ فَزِعَةً في غصونِ أشجارِ الليمون، ومع زفيرِ الأقصى كانت أوراقُ الشجرِ ترتعِشُ وتذوبُ في سقسقةِ العصافيرِ الصغيرةِ.. وكان الرجلُ المقدسي ما يزالُ يزحفُ كالتثاؤبِ نحو بيتِهِ.. وهو رَجُلٌ لا تعتريه الدهشةُ، ولا ينتابُهُ التحمُّسُ لشيءٍ.. رجلٌ تخطاهُ الفرزُ والاختيارُ، وضاقتْ به ثيابُ العُجْبِ، ومن يومِها زَهِدَ في الألوان.. رجلٌ تلقَّفَتْهُ مداخلُ التجاربِ، وخلَّفَتْهُ مخارجُ المحاولاتِ صمتاً لا يلتفِتُ إلى الخلف… ليس النومُ مطلباً معلناً عنده، ولكنه – لو تحققَ على أصولِهِ – لَبَدَأ ملاذاً معقولاً في زحمة اللامعقولِ.. لِلْعصافيرِ الشجرُ، وللسفنِ الموانئ، وللمدينةِ الليلُ.. وقد يكون للنفوسِ والأممِ حالةٌ مشابهة…!!
في ذلك المساءِ الواعِدِ بمطرٍ ليليٍّ عاوَدَ الرجلُ المقدسيُّ النَّظَرَ إلى ما حوله في تلك الغرفةِ المليئةِ بما يذكِّره بأن الحياةَ بالنسبةِ إليه العمل من أجل القدس: لم يجد بين شفتيهِ كلمةً يقولُها.. وما اعتراهُ أيُّ شعورٍ بالطُّمَأنينةِ أو بالخوفِ.. وهو أصلاً لا يتكلمُ في أمورٍ كهذه، ولا في غيرها.. بل يرى أن الناسَ استَهْلَكوا أنفسَهُم وطاقاتِهم وأفكارَهم في كلامٍ يكثُرُ ويُعَادُ بغير جدوى، في محاولةٍ للتخلُّصِ من سوءِ الفَهْمِ..
رنا الرجلُ إلى ما حولَهُ.. ثم أَوى إلى غرفةِ نومِهِ في هدوءٍ مألوفٍ.. في فِراشِهِ الدافئِ راحَ ينصتُ لصوتِ الريحِ تلهثُ في فُتْحاتِ النافذةِ، كبُحَّةِ محزونٍ يغنِّي، واستَعْذَبَ صبيبَ المطرِ المتمَهِّلِ فوقَ صفائحَ معدنيةٍ في الجِوَارِ.. شَدَّ ما تَحلَّى هذه النومةِ في طفولَتِهِ!! تلك الطفولةِ العصيةِ على الغيابِ.. غاصَ في فِرَاشِهِ أكثرَ وأَغْمَضَ عينيهِ، وراحَ ينسى: من البحرِ البعيدِ المستريحِ عند ساحل غزّةَ كانت تُنْشئُ قيامةُ الغيمِ والموجِ حبالاً من مطرٍ تتخاصر بالريحِ وتتوالى كملايينَ من السنابِلِ تتمشَّطُ بالريحِ نفسِها.. وفي المدى البحريِّ الوسيعِ تخفُقُ أجنحةُ نوارسٍ بيض، وتتناهى إلى الذاكرةِ أغانٍ قادمةٌ من حقولٍ بعيدةٍ… تلك افتتاحيةُ سَمَرٍ للروحِ والنسيان، وفلواتٌ تفتحُ المطويَّ، وتسحبُ الأرَقَ من تحتِ الوسائِدِ…. تلك سانحةٌ مواتيةٌ للنومِ الهنيءِ، والرجلُ المقدسي يزدردُ صوتَهُ.. ويفتَتِحُ نومَهُ مع بدءِ رحلةِ الليلِ.. ينسى ذكرياتِ الطفولةِ التي لا تُنسى، يُرِيحُ نَفْسَهُ من عناءِ التفكيرِ في مفهومِ “المستجداتِ” و “المتغيراتِ” يتجاوَزُ ما كان يكدِّرُ ليلَهُ من أزماتٍ خانقةٍ ويسترخي، يتخلى عن غيظِهِ الكظيمِ، وتأزُّمِهِ النفسيِّ وإخفاقِهِ في الحصولِ على حقوقِهِ الإنسانيةِ التي سُلِبَها مراراً بغيرِ حق.. كان المطرُ السخيُّ يواصِلُ تَسْكَابَهُ، والليلُ يزدادُ وداعةً وقراراً، والرجلُ المقدسي يمعنُ في الارتياحِ والنسيانِ، خليَّاً كالناسِ المُنَعَمَّينَ كان يتنهَّدُ، وخلفَ الذاكرةِ يرمي أوجاعَ جراحِهِ النازفةِ.. ينسى كيف أتْلَفَ نفْسَهُ في العملِ أملاً في أن يُقَدَّرَ، وتفادياً لأي لومٍ أو انتقاد..
ينسى كيف أفنى عُمْرَهُ ليحظى الآخرون بقليلٍ من طمأنينةِ الليلِ وأمنِهِ، “المؤمنُ نفسُهُ منه في تعب والناس منه في راحة” ينسى ما عليهِ من ديونٍ وتَبِعَاتٍ، وما ينتظِرُهُ من مسؤولياتٍ لا سبيلَ إلى تجنُّبِها، ولا سبيلَ إلى حلِّها… ينسى مَرَضَهُ الذي كان يجدِّدُ تأجيلَ موعدِ التفكيرِ بمعالجتِهِ.. ينسى احتياجاتِ الراحةِ للحظاتٍ ليُنجزَ ما يعتبره أولويات.. بل راحَ ينسى تلك الشكوى المتكررةَ التي كانت تُلِحُّ على إيجادِ شكلٍ مقبولٍ لحياتِهِ المهدورةِ بغيرِ معنى: “أنت لست أكثرَ من منتظرٍ لقافلةِ الموت”…. وأوشك أن يردِّدَ: ولِمَ الاحتقانُ بِثِقَلِ هذا الشعور!؟ المقبرة ُقريبةٌ من البيت.. والدَّفْنُ مؤاجرةٌ.. إرادياً سينسى هذا أيضاً، سيتخفَّفُ من أَوْزارِ تقريعِ الضميرِ والندمِ لإهمالِهِ العنايةَ بأبَوَيْهِ، وهو-عملياً- غيرُ قادِرٍ على فِعْلِ شيءٍ مُرْضٍ لهما حتى الآن.. وسَيُبْعِدُ عن ذهنِهِ تلكَ الصورةَ الزاهيةَ لحبٍّ قد يكون – لو تمَّ – عزاءَ العمرِ كلِّهِ…
سينسى ذلك الإنذارَ الملعونَ بهَدْمِ البيتِ إن لم “.. سينسى هذه الهمومَ والمنغصاتِ الآخذَ بعضُها برقابِ بعض… بل سينسى ما حولَهُ من همومِ الناس، وهمومِ السياسةِ والمستقبلِ والوطنِ، وسيغفو.. سيستَسْلِمُ لنومٍ لذٍّ عميقٍ… ولكنَّ المنبِّهِ من هاتفه ينفجرُ بَغْتَةً برنينِهِ الملحاح… وحينَ يسكُتُ يصلُ إلى أذنيه وقعُ المَطَرِ الراتبِ فوقَ صفائحِ التوتياءِ في الجوار، ومن النافذةِ تبدو القدسُ مستحمةً بالنور والمطر.. سينسى الرجلُ المقدسي كلًّ شيءٍ.. سينسى أن ينسى.. ومتى سينسى!!!! لكنه حتماً لن ينسى قدر القدسِ عاصمةً للروح والوطن.