دوليات

بوتين في الصين.. أولوية تعميق العلاقات الاستراتيجية

بقلم: ابتسام الشامي

أعاد التذكير بموقف بلاده “المحايد” إزاء ما يجري، من دون أن يحول التزامه المعلن هذا دون استكمال مسار تطوير تحالفه مع روسيا باتفاقات وقعها مع نظيره فلاديمير بوتين في زيارته إلى بكين.

استقبال حار لشريك استراتيجي

حظي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستقبال لافت في الصين، زيارته الخارجية الأولى له منذ اعادة انتخابه رئيسا لولاية خامسة، انطوت في توقيتها ووجهتها، على الكثير من الدلالات. في الترحيب بالشريك الاستراتيجي، لم يكتف فريق التشريفات لدى الرئاسة الصينية بالسجاد الأحمر، كان لا بد من اضافة تعكس واقع الحال في مستوى علاقات الجانبين. خارج قاعة الشعب الكبرى في العاصمة الصينية، كان استقبال الضيف على أنغام موسيقية عسكرية، وتحية متعددة الأسلحة.

زيارة بوتين إلى الصين التي استمرت يومين تصدرها ملف توثيق العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين اللتين تواجهان التحدي الغربي ذاته، وإن بمستوى متفاوت من الضغوط الاقتصادية والعسكرية. وعلى وقع الهجوم التي بدأته القوات الروسية ضد مدينة خاركييف الاستراتيجية، لم يغب ملف أوكرانيا، حيث جدد بوتين انفتاحه على دراسة المبادرات الآيلة لإيجاد حل للوضع القائم.

وعشية الزيارة، قال الضيف الروسي في مقابلة مع وسائل الإعلام الصينية، إن الكرملين مستعد للتفاوض بشأن النزاع في أوكرانيا. ونقلت وكالة الأنباء الصينية الرسمية “شينخوا” عنه قوله: “نحن منفتحون على الحوار بشأن أوكرانيا، ولكن مثل هذه المفاوضات يجب أن تأخذ في الاعتبار مصالح جميع الدول المعنية بالصراع، بما في ذلك مصالحنا”.

وإذا كان الرئيس الروسي قد اكتفى بهذا المقدار من الحديث عن أوكرانيا، فإن خطاب نظيره الصيني، اعتبر دعماً لموقف قيادته، السياسية والعسكرية من الحرب. وخلال محادثاته مع ضيفه، قال “شي” إن العلاقات الصينية الروسية “صمدت أمام اختبار المشهد الدولي المتغير”، بما يوجب “الاعتزاز بها ورعايتها” من الجانبين. ووفقاً لبيان صادر عن وزارة الخارجية الصينية، وأضاف الزعيم الصيني أن بلاده “مستعدة للعمل مع روسيا للحفاظ على حسن الجوار، الصداقة الجيدة والشراكة الجيدة والثقة ببعضهما البعض، ومواصلة توطيد الصداقة الدائمة بين الشعبين، والسعي بشكل مشترك لتحقيق التنمية الوطنية والتنشيط ودعم العدالة والإنصاف في البلدين”.

بدوره، حرص الضيف الروسي، على التأكيد أن “العلاقات الروسية الصينية، غير انتهازية، وليست موجهة ضد أحد” مشيداً “بالتعاون العملي” بين البلدين. وبحسب وكالة تاس الروسية، فقد تحدث بوتين عن التجارة الثنائية القياسية بينهما العام الماضي وبروز الصين كشريك اقتصادي لروسيا، مشيرا إلى أن “الطاقة والصناعة والزراعة كانت من بين أولويات تعاونهما”.

وفي مقابلة مع وكالة الأنباء الصينية، قال الرئيس الروسي إن “العلاقات التجارية والاقتصادية بين بلاده والصين تتطور بسرعة”، وهذا برأيه يدل على “مناعة مستقرة في مواجهة التحديات الخارجية وظواهر الأزمات”. وخلال المقابلة ذاتها، كشف بوتين عن أن “حجم التجارة الثنائية بين البلدين وصل الآن إلى نحو 20 تريليون روبل أو ما يقرب من 1.6 تريليون يوان”، أي ما يقدر بنحو 219 مليار دولار.

وفي سياق متصل بتطور علاقات الجانبين، كان لافتاً حديث الرئيس الروسي، عن صمود الشراكة التجارية مع الصين، “على مدار 13 عاماً، حتى صعدت روسيا إلى المركز الرابع في ترتيب النظراء التجاريين للصين عام 2023” في إشارة ضمنية إلى تطور العلاقات خلال الأزمة الأوكرانية.

تعميق الشراكة الاستراتيجية

الشراكة التجارية، المعبر عنها بارتفاع أرقام التبادل التجاري إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ علاقات البلدين الممتد على مساحة 75 عاماً، وضعت نتائج زيارة بوتين إلى الصين مساراً لتطويره وتعميقه. إذ وقع الرئيسان الصيني والروسي، على بيان مشترك بشأن “تعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا للتنسيق من أجل حقبة جديدة”. إلى جانب توقيع مسؤولين من الجانبين على اتفاقيات تعاون ثنائي أخرى.

وبحسب الرئيس الصيني، فإن “التنمية المستقرة للعلاقات الصينية الروسية لا تتماشى فحسب مع المصالح الأساسية لكلا البلدين وشعبيهما، بل إنها تفضي أيضاً إلى السلام والاستقرار والازدهار الإقليمي وحتى العالمي.” مشيراً إلى أن البلدين يعززان علاقتهما باعتبارهما “جارين جيدين وصديقين جيدين وشريكين جيدين”، وكرر التزامهما “بشراكة بلا حدود” التي أبرماها عام 2022، قبيل بدء روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا.

وحول الوثيقة الموقعة، قال يوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي، للصحفيين إن التوقيع جاء تزامناً مع الذكرى الخامسة والسبعين لإقامة العلاقات، مشيراً إلى أنها وثيقة مفصلة تتضمن أكثر من 30 صفحة، و”تشير إلى الطبيعة الخاصة لعلاقاتنا الثنائية وتحدد المزيد من الطرق لتطوير مجموعة العلاقات الثنائية بأكملها، وتؤكد الدور القيادي لروسيا والصين في تشكيل نظام عالمي عادل وديمقراطي”

الزيارة في الإعلام الأمريكي

زيارة الرئيس الروسي إلى الصين في هذا التوقيت السياسي، حظيت بمتابعة اعلامية خاصة، لاسيما في الاعلام الأمريكي، الذي حرص على قراءة رسائلها. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن بوتين صوّر نفسه والزعيم الصيني على أنهما مدافعان عن الاستقرار العالمي والمساواة بين الدول ضد هيمنة الغرب”. ووفقاً للصحيفة الأمريكية، فإن هذه الزيارة تعطي لبوتين فرصة أيضاً “ليثبت للشعب الروسي أنه لا يزال لديه أصدقاء أقوياء، وهي رسالة غالباً ما يجري التأكيد عليها من قبل وسائل الإعلام الحكومية”.

بدوره رأى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة “جورج تاون”، أليكس فوغل، في حديث لموقع قناة الحرة: أن “الزيارة مهمة بشكل كبير، لأنها تؤكد على التحول الذي يشهده اقتصاد روسيا ومجتمعها”، مضيفاً أنه “لم يحدث قط، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، أن كانت روسيا بعيدة إلى هذا الحد عن أوروبا، ولم يحدث قط في تاريخها بالكامل أن كانت متشابكة إلى هذا الحد مع الصين”. وقال فوغل: “بعد عامين من الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية المؤلمة، يعترف بوتين بأهمية الصين بالنسبة لروسيا على مختلف المستويات”. مشيراً إلى أنه “في ظل انشغال العالم، تحديداً الولايات المتحدة، بالحرب الإسرائيلية على غزة، وتوجه الاهتمام الغربي إلى إسرائيل بدلاً من أوكرانيا، يحاول بوتين استغلال الوضع المتأزم عالمياً وتحقيق أكبر مكسب ممكن في الوقت الحالي”. جازماً بأن “بوتين يسعى للحصول على المزيد من الدعم الصيني، سواء على المستوى التجاري أو العسكري، والذي ساعد روسيا خلال الفترة السابقة على تخطي العقوبات الغربية لعزل موسكو بعد غزوها لأوكرانيا، في عام 2022”.

وفي سياق متصل بقراءة زيارة الرئيس الروسي إلى الصين، سلطت “نيويورك تايمز”، الضوء على تقارب علاقات البلدين خلال الحرب في أوكرانيا، مشيرة إلى “نمو التجارة، في عام 2023، بأكثر من 26% لتصل إلى أكثر من 240 مليار دولار، بزيادة أكثر من 60% عن مستويات ما قبل الحرب، حيث استحوذت الصين على 30% من صادرات روسيا وما يقرب من 40% من وارداتها”. وتحدثت الصحيفة الأمريكية، عما سمتها مؤشرات التأثير الصيني في معظم مناحي الحياة الروسية، موضحة أنه قبل الحرب، كانت تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي ضعف تجارتها مع الصين، والآن أصبحت أقل من النصف. وأصبح اليوان الصيني، وليس الدولار أو اليورو، الآن العملة الرئيسية المستخدمة في التجارة بين البلدين، ما يجعله العملة الأكثر تداولا في بورصة موسكو والأداة المفضلة للادخار. ووفقاً للصحيفة، فإن هذا الاعتماد الاقتصادي يتسرب إلى الحياة اليومية. مشيرة إلى انتشار المنتجات الصينية في كل مكان، حيث أن أكثر من نصف مليون سيارة بيعت في روسيا العام الماضي صنعت في الصين. كما أن أكبر ست علامات تجارية أجنبية للسيارات في روسيا أصبحت الآن جميعها صينية، وذلك بفضل رحيل الشركات الغربية التي كانت مهيمنة ذات يوم. وحدث بالمثل في سوق الهواتف الذكية، حيث تفوقت شركتا “إكسوامي” و”تكنو” الصينيتان على “أبل” و”سامسونغ”، وفي الأجهزة المنزلية والعديد من العناصر اليومية الأخرى”.

خاتمة

على الرغم من أن زيارة الرئيس الروسي إلى الصين جاءت في سياق دبلوماسي ربطاً بمرور خمسة وسبعين عاماً على اعتراف الاتحاد السوفياتي بجمهورية الصين الشعبية، إلا أن توقيتها وما رافقها من مواقف وتوقيع اتفاقات، انطوى على دلالات استراتيجية في مسار تطور علاقات البلدين وتناميها، بما يخدم مواجهة التحديات المشتركة، وفي مقدمها استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لتقوض نفوذ البلدين في لحظة تحول عالمية نحو نظام جديد.