أول الكلام

كلمات إلى أبي (في عليائه)

بقلم غسان عبد الله

بين فصولٍ تأتي وأخرى تذهب.. بين أحلامٍ تعيش في داخلي وذكرى تنبتُ من زرع عطائكَ.. بين الرؤى الصافية تنعكس على مرآةِ صبركَ وأنت تكدُّ لأرتاح.. رؤى الابن المحب العاشق لحضور حبيبه.. وليس أَحَبُّ إلى قلب الابن من أبيه الذي يرعاه ويصنع من نقاءِ سيرتِهِ اسماً لأبنائه ليكون زينةً لهم وفخراً..

بين كلِّ التفاصيل التي لا أقوى على ذكرها الآن.. ولا تستحضرها مخيلتي.. أتأملُ مليّاً في مراحل عمري الذي أمضيتُهُ بحضن عطفكَ وأتذكرك يا أبي آتياً والتعبُ ينهش عينيك.. لكنك تبتسم.. جبينُكَ العالي الناصعُ مليءٌ بقطرات العرق لكن لمسك لشعري يعطيني برودةً وسط لهيب النهار.. أتكوّمُ في قاعِ الأمنياتِ لأسترجع كلمةً فات موعدها ولم أقلها في لحظةٍ كنتَ فيها منهمكاً بالعملِ تسابقُ عقارب الزمن..‏ وأتمتمُ باسمِ الحبِ طويلاً..‏ حتى يسلمني النعاسُ إلى النعاسِ،‏ وترتجفُ الأشياءُ لديَّ.. أزدادُ حماساً.. أتلألأ كمنارةٍ تسكن الشطآن،‏ وتنهمرُ الأضواءُ عليَّ.. أضواؤك الحميمةُ.. لا عيدَ في مفردات الأعياد التي أعدَّتها الكائناتُ للأب..

ترتَجِفُ الأشياءُ لديّ.. أعلِنُ في ساعةِ شوقٍ حارقةٍ،‏ أن غيابَكَ أعلن مذ رحلتَ بدايةَ تدفُّقِ الحياةِ في الذكريات.. قبعة القشّ وأنت تسير في شوارع بيروت تبيع الدُّخان تحت القصف العشوائي أيام الحرب.. الخيرة التي كنت تستخيرها وتتوكل على الله..  دعاء كُميل ليلَة الجمعة.. شرودَكَ على شرفةِ المنزل وأنت تصب لي كوب الشاي “أُكرُك عجَم”.. ترويقتك المؤلفة من صحن لبنة وشرائح البندورة التي “تشطُّ ريلتي” كلما تذكرتها.. نعتكَ إياي بكلمة “حج لِكْلِكْ” عندما أمازحكَ أو أزعبر عليكَ بلعبة الطاولة..

يا برزخَ العطاءِ.. تتجمَّعُ الأحزانُ والأفراحُ فيكَ.. وبُعْدُ الأسفارِ.. وأعانقُ فيك عشقي، أجمعُ من عينيكَ الزهرَ والعصافيرَ والشَّجرْ.. أًنشُدُ فيك صحوي.. وغفوتي.. وبرعُمَ أحلامي.. وما جُمِعَ للأحبَّاءِ فيكَ من صورْ.. يومُكَ والصَّلاة.. صوتُكَ والدُّعاءْ.. عمرُكَ والقمرْ.. سأترُكُ قلبي يُوقِدُ من نميرِكَ نبضَهُ آهٍ أبتاه.. كمْ عانيتَ وكمْ كابدْتَ.. وصارعتَ المرضَ بصمتٍ وخشوع واطمئنان.. وكنتَ مثالاً للصبر والعنفوان.. لا أملكُ اليوم سوى ما حمّلْتَني إياه من ذكرياتٍ جميلة.. ولا أستطيع أن أُمسكَ حدَّ الدمعةِ الآن وهيَ تُذرف.. لكنني فرِحٌ بما أورثتنا إياه من صبرٍ ودعاءٍ وصلاة.. وأقول لكَ في عليائكَ: “أبو حسان.. خلّفت فينا شيخاً حنوناً.. فاهنأ في برزخِكَ فلن تضيعَ السنون التي أودعتَها فينا حبَّاً وأماناً”.

هي مفرداتُ ولدِكَ الملتهبةُ روحهُ من شوقها إليك يا أبي..

فسلامٌ عليكَ حينَ وُلدْتَ وحين وفاتكَ وحين تُبعثُ حياً..

مشتاقٌ كثيراً إلى محيَّاكَ.. سأظلُّ أذكُرُكَ حين يكونُ الماءُ صفاءَ قلبكَ.. وحين تكون الكلماتُ دونَ مستوى الشوق.