إلى سيدتي زينب(ع) …
بقلم غسان عبد الله
من أين أبدأ الكلام؟؟ فثمَّة كلمةٌ لا بد منها.. أراها في لطْم الجموع.. أو في جداول الدُّموعْ.. هناك.. في تلك البقعة الخالدة من المكان.. أراكِ سيدتي زينب.. أرى طيفكِ النُّورانيُّ.. أو أرى بعضاً منِّي لا يصل إليكِ ليعلن أن الكلمات نَضُبَتْ في حضرة كلامكِ العظيم.. وخطابكِ الجليل.. ولأنني أراكِ أمامي.. سأبقى أتلوَّى بحسرتي وألوب بلوعتي..
أيا سيدّة الصبر الجليل………… سلامٌ عليكِ.. تجمَّدَ في الحزن المسارْ.. وأضحت اللَّحَظاتُ بلا ومضٍ كالقفارْ.. وفي كلِّ جراحٍ تُقْبلينَ (قبل انبجاس الجراح).. أهبُّ إليكِ سريعاً كومضٍ.. كملهوفٍ شفَّه الشَّوقُ.. أناديك شوقاً وعشقاً.. لكنْ.. في كلِّ حرفٍ تفور جراحْ، وأمضي إلى زين العباد.. أمضي.. ليهربَ مني السَّراب، أسابقُ حزن روحي، أرجوه كتم أنَّاتي.. ولجْم بكائي.. أقولُ لذاتي: “خيرٌ لمن استبدَّ بمنافذه الأسى أن يعيش بلا ذكريات..” ثمة كلمةٌ لزينبَ.. لوشاحها في الحزن يَبرقُ ضوء إباء، دونها العمرُ متاهاتٌ وأحجياتْ، ودونها لا قبْلُ ولا بَعْدُ.. تساوى زمنُ الموتِ دونها.. والحياة.. ساقطٌ كلُّ ادِّعاءٍ دون انتماءٍ للحسين، والشعرُ حييُّ منكِ يا شامخةً مثلَ صلاة.. أسترجعُ دمعكِ، لأني لا أعرفُ كيف أغادرُ جرحي، وصوتُكِ في التواريخِ أذهلَ في الروح كل المفردات.. والكلامُ.. الكلامُ.. لم يعرف نضوباً منذ وِقْفَتِكِ في مجلس العتاة.. الكلامُ يبُكيني- سيِّدتي -، أقرأُ بين الأحرف قصائد لم يكتبها الشعراءْ، وتاريخاً يتوهَّجُ.. يمسحُ الأزمنة ليبدأ من عندك اللحظات.. كلماتٍ وفواصلَ وتواريخ.. يكتبها من توسَّدوا جرح أخيك سيفاً لا يدركُهُ “يزيدُ” ولا يزَّلزلُ تحت جنون الطعن من كل الجهاتْ.
ماطرةٌ عيناك سيِّدتي، وهذا الليل منحدرٌ إليكِ كما الشجر الأسود.. بلا استئذانْ.. تنهمرين على الليالي العشْرِ حديقة ألوان، تستدرجين الإشراق وتنغرسين بكل الأجفان..
يحترقُ الحرفُ.. يجفُّ ضَرْعُ الكلمات.. وتنتهي الأوراقْ، تُغِيرُ عليكِ سنونواتُ الحسين، ويفجِّرُ صمتَنا صوتُك يا أم الصبر، يا أجمل الأسماء.. حنانيكِ مولاتي أتعبني الترحال إليكِ بغير الكلمات، ضاعت وسط لجَّة الغرق مني الشطآن، والطَّفُ بعيدٌ كالسِّر. من أين أجيئكِ.. من أين؟؟.. يحاصرني الشَّوقُ وتبارحُ الأحلامُ مؤرَّقةً الأجفانْ، من أين أبدأ وهَجَ الحديثِ لأعود إليك كطيرٍ عائدٍ إلى حقلٍ ماج بالأحزانْ؟؟ تراودني الكلمات.. وأسمعُ صوتَكِ في الرُّوحِ، أُدْرِكُ دمعكِ خلف الزَّمانْ، أعرف أني شراعٌ وأنك بالصَّبرِ تصنعينَ البحرَ ولأوزانْ، وأني بلا قصائدَ.. خالٍ تماماً من الشعرِ، وأنك روحُ القصيدِ.. أصلُ الشعر ووقدةُ الإنسان، أهيمُ بوجهي صوبكِ، إخالُ أنَّ صفَّاً من الأنبياء يواسي جرح كلماتي، ذو النون ينادي في الظُّلُماتْ “سبحانكَ إني من الباكين على الحسين” ذو الكفل، واليسع، يرتِّبان مكاناً على بارقة الدهر لحزنٍ يسَعُ الكائنات، زكريا إذ نادى ربَّه نداءً خفيا “ربِّ إني وهنَ الدمعُ مني بكاءً لوحشة الحوراء” ويحي، وإسحق، وإسماعيل، وإبراهيم، ونوح، وكلُّ ما لم تسعْهُ في البشر المخيِّلاتْ كلٌّ.. إخالهم يصنعون أولى قصائدي، وها أنتِ تطلِّينَ الآن، عند أوَّلِ بادرةٍ للدمع على الحسين، تُطِلِّينَ مولاتي.. ولا شيء.. لا شيء سوى جرح الكلمات!.