فضاءات فكرية

التّربية الإيمانيّة (والإيمان بالآخرة) ودورها في بناء المسلم المتوازن والمتفاعل


بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

 أما التربية بالمعنى والاصطلاح الديني الإسلامي فهي تعني مجموعة القيم والأسس ومبادئ السلوك التربوية الروحية والعملية التي يجري بناء وتكوين وتنشئة الإنسان المسلم المتكامل عليها من جميع نواحيه المتعددة، الاعتقادية والروحية والأخلاقية والصحية والعقلية..

وأما الإيمان لغةً فهو التّصديق ضدَّ التّكذيب، حيث يقال: آمن به قومه، وكذبه قومه.. والإيمان اصطلاحاً هو قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وله أسسه والتزاماته، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .

وبالمحصلة نعرف التربية الإيمانية بأنها تنشئة المسلم على العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتعميق أصولها ومرتكزاتها في روحه نفسه من خلال العمل بمقتضياتها على مستوى الحضور العملي في علاقاته وتفاعلاته في جميع نواحي حياته.. وهذا كله يتحرك ويجري في ظل أساليب وطرق التربية الإسلامية الحقيقية.

والإيمان بالآخرة هو جزء من منظومة الاعتقاد الإسلامية.. وهو إيمان بالغيب.. ومما لا شك فيه أنّ موضوعَ الإيمان بالغيب هو قضية جوهرية ومركزية في الدين الإسلامي والعقيدة الإسلامية.. وهو – بحسب ما جعله الله تعالى – من أهم صفات المؤمنين المتقين (الشخصية الإٍسلامية التقية المتوازنة)، حيث جاء في مطلع القرآن الكريم، قوله تعالى: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِين*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة/2-3).. وهذا الإيمانُ بالغيب الزماني والمكاني هو من أساسيات الإيمان، والإيمان بالآخرة جزءٌ رئيسي وأساسي منه، وهذا الإيمان لا تقوم العقيدة الدينية الإسلامية إلا به، حيثُ يطمئنُ قلب المؤمن وتأنس روحه ويحلو عيشه وتطيب حياته.. وكل من يفقده أو يتركه تتحول حياته إلى مجرد عبث وفوضى وتهتك اجتماعي، مما يدخله في مزالق الدنيا من حيرة واضطراب ومصادمة الفطرة النقية.. ويقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء/19).. حيث يربط الله تعالى بين الإيمان بالآخرة وسعي المؤمن في الدنيا.. فيعتبر أنّ سعيه لن يكون موضع شكر وتقدير وعرفان من قبله تعالى إنْ لم يقترنْ بالإيمان بالآخرة..

إنَّ الإيمانَ بالغيب والآخرة كعقيدة في صُلب وعي الشخصية الإسلامية، يشكل أساساً لتحقيق التوازن الحياتي الخاص والعام لهذه الشخصية على مستوى علاقاتها، وكل ما يتعلق بمختلف مفردات عيشها..

وللإيمان بالآخرة كتربية منشودة لبناء الشخصية الإسلامية، الأثر الأكبر في سير هذه الشخصية على طريق العمل الصالح، وما فيه من خير وعطاء وإنسانية واحترام حقوق الآخرين، لأن هذا الإيمان ينمّي في الشخصية الفضائل والأخلاقيات والقيم الدينية الخيرة.. فالدنيا مزرعة الآخرة بحسب ما تحدث الرسول الكريم(ص)، بمعنى أن ما يفعله المرء في دنياه سيلقى حصاده ونتائجه في الآخرة جزاءً وعدلاً.. ولهذا ينبغي أن يكون العمل والفعل في الدنيا خيّراً وطيّباً وصالحاً حتى يعيش الإنسان في دنياه حياةً طيبة معطاءة متوازنة ومسؤولة في كل ما يتصل بحركته ووجوده وعلاقاته، يعكس فيها إيمان الإنسان بآخرته وبدينه ككل.. يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل/97).. والعمل الصالح هنا هو العمل الذي يقوم به الإنسان في علاقاته ومعاملاته الخاصة والعامة في ظل إيمانه بالله تعالى ومرضاته تعالى، والالتزام بأحكام شرعه وقيمه الدينية مخلصاً لله فقط.. أي العيشُ في ظل حالة الرضى بقضاء الله وقدره.. قال تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران/145)، خصوصاً مع علم الإنسان المؤمن مسبقاً وقناعته الإيمانية الذاتية أن كل مَقاليد أمُور الخَلق، وَتصاريف وجودهم وكل أقدَارهم هي بَيد العَادل العظيم سبحانه وتعالى.. فإنْ رَضي المَرء بقضَاء الله بمَا فيهِ مِن عُسرٍ وَيسر، خَففّ الله مَصابه وَهمّه، وأذهبَ حَسرات نَفسه، وعاش في دنياه حياة صالحة، بسط الله تعالى له فيها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً، وبشّره بحياة طيبة صالحة.. وهذا الإيمان بالقضاء والقدر هو معلم من معالم الحياة الطيبة الهانئة في الدنيا.. قالَ الله تَعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ (الحج/34)، أي المُطمئنين، والرَاضين بقضَاء الله، والمُستسلمينَ لأمرِه..

جاء عن الرسول الكريم(ص): “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا“… وجاء عن الإمام علي(ع) أنه قال: “نعم الطارد للهم، الرضا بالقضاء”. وجاء في رواية عن الإمام الصادق(ع): “ارضَ بما قسمَ اللهُ لكَ تكنْ غنيّاً“.

لقد حضّ الإسلام – في قيمه التربوية الأخلاقية (تربيته الإيمانية) – على ضرورة أنْ يقومَ تعامل المسلمين مع بعضهم ومع غيرهم على الأخلاق الحسنة والنوايا الطيبة وبما يكون لله فيه رضى، وجعلَ ذلك عنواناً بارزاً على صحة إيمانهم، ومعلماً من معالم حياتهم الطيبة وإيمانهم بعقيدتهم.. ومكارم الأخلاق الدالة على الأعمال الصالحة كثيرة، وهي من أولويات تعاليم الإسلام.. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (النور/55-56).

– وجاءَ في الروايات أنَّ النّبي الكريم(ص) قالَ لأبي ذر: “يا أبا ذر اتّق الله حيثما كنتَ، واتّبع السّيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن“.

– ويقول أمير المؤمنين الإمام علي(ع): “مكارم الأخلاق عشر خصال: السخاء، الحياء، الصدق، أداء الأمانة، التواضع، الغيرة، الشجاعة، الحلم، الصبر والشكر“.

فالبُشرى للمؤمن الذي جعل الخير والأخلاق غايةً في حياته، والويل والثبور للكافر الذي سار على طريق الشر ومحاربة قيم الله وسعى ف الأرض خراباً وإفساداً.. والجزاء لا يتحقق كله في الدنيا بل في الآخرة، بمعنى أنّ الحياةَ الطيبة الكاملة والمطلقة في خلودها لا تتحقق إلا في الدار الآخرة، حيث العدالة الكاملة ثواباً وعقاباً.. إضافة إلى أن بعض الأعمال الصالحة، والطالحة جزاءً، لا يسع له – بحسب الشيخ جعفر السبحاني – نطاق هذا العالم. فمثلاً هناك من ضحّى بنفسه في سبيل الحق والخير والقيم الدينية والعقيدة الإسلامية، وأيضاً هناك من خضب الأرض بدماء المسلمين.. ولهذا لا بد من وجود عالم آخر يتحققُ فيه العدل الإلهي الكامل في ضوء الإمكانات غير المتناهية.. كما قال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص/28).. ويقول أيضاً: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ (يونس/4).

إذاً الإيمانُ بالآخرة – وما يترتبُ عليه من التزامات وسلوكيات – هو القاعدة الأساس لبناء حياة طيبة صالحة في الدنيا، تتأسس على وجود فاعل حياتي هو الشخصية الإسلامية.

وما تقدّمَ يجعلُنا نأخذُ فكرة أساسية عن أثرِ التربية الإيمانية (والإيمان بالآخرة) في استكمالِ بناء الشخصية الإيمانية على قيم الخير والإنسانية وقيم العمل الصالح، والتي يأتي على رأسِها العمل على إقامة العدل والقسط الفردي والمجتمعي، وفي السبيل نفسه تكون التربية الأخلاقية وتزكية النفس، يقول أمير المؤمنين الإمام علي(ع): “من تذكّر بعد السفر، استعدْ“.. والاستعداد هو الالتزام بقواعد السلوك الديني أي بقيم التربية الإيمانية والعمل والالتزام بأسسها ومرتكزاتها.. ويقول(ع) أيضاً: “واذكرْ قبركَ، فإنَّ عليه مَمرّك“.. ثم يقولُ مخاطباً مالك الأشتر: “ولنْ تحكم ذلكَ من نفسك حتى تكثرَ همومكَ بذكرِ المَعاد إلى ربّك“.. وفي المقابل فإنّ من أهم آثار نسيان المعاد هو الضلال والظلم الفردي والاجتماعي.. يقول الإمام علي(ع): “لا يؤمن بالمعاد من لا يتحرج عن ظلم العباد“.

إن الحياة في كافة مناحيها الدنيوية والأخروية مرتبطة ببعضها بعضاً، والشخصية الإسلامية المتوازنة لا تتحقق من دون إيمان وسلوك والتزام بقواعد هذا الإيمان في الدنيا، وهو إيمان يجب أن يتمثل ويتجلى في فعل الإنسان وسلوكه وعلاقاته الخاصة والعامة.. حيث يدفعه هذا الإيمان إلى أن يبقى مراقباً نفسه على الدوام، فيقبل على فعل الطاعات والخيرات، ويجتنب فعل القبائح والمنكرات، ساعياً في طريق الله.. في حين أن من لا يؤمن ولا يلتزم بهذا الإيمان لا يتورع عن الخوض في القبائح والشرور، ولا شيء يمنعه من فعل المظالم والإفساد في الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *