أول الكلام

كلُّ شيء في لحظةِ الانفجار يرتجف

بقلم غسان عبد الله

من كلِّ شيءٍ أنهضُ وأتناوبُ مع المنكوبين؟‏ لنسكبَ أحلامَنا‏ التي تتشابهُ مع أوهامِنا بأن الأمان سيأتي بُعيدَ وباءٍ مميت.. نسكُبها على بيوتٍ جدرانُها من أكاليلٍ وأضرحة..‏ من الوصايا‏ كان المساءُ‏ ومن الأطلالِ‏ كانت أطرافُهُ التي وصلت إلى آخرِ مويجةٍ من البحرِ على الطرف الآخرِ من المتوسط.‏. أنّى يكون الليلُ‏ تكون الأعراف؟‏!.

تخلصتُ من عواطفي‏ لأسمعَ ما يقولُهُ الإعلامُ في بلدِ النَّكباتِ عن كلماتٍ ضدَّ بعضِها البعض.. هنا‏ صارتْ أصابعي تلاحِقُ المساءَ‏ من أجلنا..‏ وأمامَ هذا النشيجِ صنعتُ اقتراباً‏ من أجلِهم‏.. فقط‏ ليكونَ الغموضُ بسيطاً‏ وبذكرياتٍ‏ معبَّدةٍ بالثواب.‏. من يَعْرِفُ المقبرةَ.. عليه‏ أن يكون قد رآني‏ ومنْ لم يعرفْ ماذا تعني كلمةُ أسلحةٍ‏ تكونُ المعركةُ‏ قد حدّدتْ وجودَها فيها‏.

أيها الأصدقاءُ هيّئوا الضوءَ للفضائِحَ‏ وأجسادَكَم‏ للبرهنة..‏ والموائدَ‏ لبلادٍ حذفَت مواليدَها‏ والفكرَ العائدَ‏ من ذكرياتِهِ المطلقة.‏. ليتني كنتُ أتكلَّمُ مع ظلامٍ يخصّني‏ وما أريدُ أن أقولَهُ‏ أنّ نسبةَ الصراخِ التي أمتلِكُها‏ تساوي‏ كميةَ الدماءِ التي تتدفق أثناءَ الحرب‏.. يا إلهي‏ حاولتُ أن أقترِبَ جيداً‏ من كهفٍ ضاع في حلمْ.. (فقد) انخسفتُ في سبيلهِ‏ ودوَّنْتُ في راحةِ اليدِ رجفةَ لقمةٍ‏.. 

أيها الكلامُ المكبوتُ.. ياآآآآآآآ صراخَ الذاكرةِ..‏ منكَ‏ ينبجس كلُّ شيء‏.. وفيكَ‏ يكونُ الإيقاعُ الذي تريدهُ‏ مؤجلاً‏.. وأمامَ الأبديةِ‏ فقط‏ تكونُ أنتَ‏.. ووحدكَ‏ تظلُّ وراءَ الزمانِ‏ وأفواهُنا‏ تظلُّ موازيةً للدهشاتِ‏.. هكذا أيها الكلامُ!!‏.. بُعيدَ انفجارٍ وفاجعةِ وباء تسكُنُ في القلبِ رجفةٌ وفي الحلقِ غُصةٌ تكادُ تودي بالنبض إلى منتهاه!!.. وأنت أيها الدويُّ المَقيتُ يا أيها المتكوّنُ من مؤامرةِ باخرةٍ رمتْ أحمالها في عنبرٍ لا يُطيقُها ومعشعشٍ فيها اختفاءً ومتلفِّعٍ بالصمتِ على سماسرةِ الموت المقيتين..‏ عُدْ إليَّ بصمتٍ قليلاً‏ لأعيدَ إليكَ موسيقاكَ التي فَقَدْتَها‏ منذُ أن تكوَّنَتْ‏ جلالةُ التاريخ‏. 

النافذةُ الضخمةُ تهشَّمت لكي تكونَ الرؤيةُ في غايةِ الوضوحِ.. ولكي تتوضَّحَ الجاهليةُ أمامَ ذاتِها‏ من أجلي؟‏ مررتُ أمامَ الخطأِ المزعومِ لأوقِظَهُ‏ ولأكتَسِبَ من البحرِ بدايَتَهُ‏ وكيف تكوَّنَتْ هذه الهاويةُ الممتلئةُ بالنذالةِ‏.. فانْتَظِرْني‏ لأتعرّفَ بكَ‏ وانهضْ معي‏ لأكرّس للضوءِ كثافةْ‏.. ولكي أنتمي‏!.. سأكّونُ خراباً للسماسرةِ وعصفاً لمن خزّنوا هذا الموتَ في عنابرنا.. وما يهمني من الدخانِ المتصاعِدِ‏ وضوحُ المؤامرةِ وهبوطُها الدائمُ.

كلُّ هذا‏ من أجلي‏ ومن أجلِ بيروتَ الثكلى..‏ لأن الأجنحةَ‏ خَوَّضَتْ بالهواءِ‏ لتفترِسَها حجارةُ سِجّيلِ والنيترات المخزّنةُ‏ وتجعلها كعصفٍ مأكول.. وأيضاً‏ لتستنهِضَ كلَّ شيءٍ داخلَ الجواهِرِ‏ ولتستردَّ للحقيقةِ‏ شكلَها الأولَ‏ وشكلَ البؤساءِ والمنكوبين..‏ وشكلَ السيولِ المفتوحةِ من التُّهمِ الجاهزةِ لتحويلِ البوصلةِ إلى منْ سيلُ دمائهم سياجُ وطنٍ كان مفتوحاً على الدمار.. ومشرعةً على الليلِ‏ وعلى النهارِ‏ وعلى‏ ضميرٍ أمضى حياتَهُ نائماً‏ فوقَ سريرٍ منكسر‏.

مساءً.. مشيتُ أنا وداخلي‏ باتجاهِ فضاءٍ يُشْبِهُ الخريفَ في عزِّ لهيب آب…. تحرَّكْتُ بثقةٍ‏ وشهِدْتُ نحيبَ المرفأِ ومحيطه الملطخ بأشلاءَ متماهيةٍ مع هذا الترابِ المنشَقِّ وحَفَرْتُ كلَّ أسماءِ شهداءِ الوطنِ على بوابةِ العواصمِ وعروسِ المدائنِ قَتَلَتْ داخِلَها‏ بخارجِها‏ وفصَلَتْ خواطِرَها‏ عن أصولِها‏..

قلتُ لداخلي: إنني لا أؤمن بالضميرِ‏ قالَ لي:‏ ليس هذا المهم..‏ المهم‏ أنه يؤمن بك!!.‏.

مساءً.. أؤمن أن للَّيلِ عشَّاقاً للسمرِ.. ووروداً تذبُلُ لتعودَ أخرى أكثر وضوحاً.. ولكنني لا أُدرِكُ منه سوى الليل، ولا تُدرِكني النجومُ سوى بالوميضِ.. لكن ما يهمُّني فعلاً بُعيدَ هذا الوبالِ العظيم.. بعضٌ من الأنسِ وقليلٌ من الأمانِ وكثيرٌ من الدعاءِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *