بشرٌ خارجٌ عن ولادات كلِّ البشر
بقلم غسان عبد الله
محمدٌ رسول الله بشر.. نعم هكذا قال لنا القرءانُ الكريم ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾.. إذاً، هو بشرٌ!! لكن ما الذي تعنيه ولادةُ هذا البشريِّ العظيم؟؟ هو بشرٌ لكنَّ ولادَتَهُ خارجةٌ عن ولادات البشر.. فَرَادَتُهُ أنه خارجٌ بولادته ليولدَ الإنسانُ من خلال وحي ربِّه.. الإنسانُ العظيم الذي سيباهي به الأممَ يوم القيامة..
إنه يوم ولادةِ النور.. ووفادةِ الخير على البشريةِ جمعاء.. وتحارُ في هذا اليوم ملائكةُ العرشِ بأي زينةٍ ستُحيي هذا اليوم.. تتلاحقُ انفاس الزهر اليوم في هذا الربيع الوافدِ كي تعطي أفضل ما لديها من عطورٍ احتفالاً بهذا الوافد العظيم.. وأسرابُ الطيرِ ألَّفَتْ جوقاتٍ من الأفراحِ وأعراساً وأعياداً من اللحنِ على وقعِ تسبيحِ الكائنات تمجيداً لعظمةِ خلق الله في ولادةِ خير البشر.. هو بشرٌ خارجٌ عن ولادات كلِّ البشر.
هو محمدٌ العربي المكّي القرشي التهامي.. هو المتعبِّدُ في غار حراء، صاحب الشريعة الغراء، والملَّة السمحاء، والحنيفية البيضاء، وصاحبُ الشفاعة والإسراء، له المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، هو المذكور في التوراة والإنجيل، وصاحب الغرةِ والتحجيل، والمؤيدُ بجبريل، خاتمُ الأنبياء، وصاحبُ صفوة الأولياء، إمامُ الصالحين، وقدوةُ المفلحين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. ما أحسنَ الاسمَ والمسمَّى، وهو النبي العظيم في سورة عمّ!.. إذا ذكرتَهُ هلَّتِ الدموعُ السواكبْ، وإذا تذكرتَه أقبلتِ الذكرياتُ من كلِّ جانبْ.
تُنْظَم في مدحه الأشعار، وتُدَبّج فيه المقامات الكبار، وتُنْقَلُ في الثناءِ عليه السِّيَر والأخبار، ثم يبقى كنـزاً محفوظاً لا يوفّيه حقَّهُ الكلامُ، وعَلَماً شامخاً لا تُنْصِفُهُ الأقلام، إذا تحدثنا عن غيره عصَرْنا الذكريات، وبحثْنا عن الكلمات، وإذا تحدثنا عنه تدفق الخاطر، بكل حديثٍ عاطر، وجاش الفؤاد، بالحب والوداد، ونسيتِ النفس همومها، وأغفلتِ الروح غمومها، وسبَحَ العقلُ في ملكوت الحب، وطاف القلب بكعبة القرب، هو الرمز لكل فضيلة، وهو قبة الفلك للخصال الجميلة، وهو ذروة سنام المجد لكل خلال جليلة.
مرحباً بالحبيب والأريب والنجيب، الذي إذا تحدثنا عنه تزاحمت الذكريات، وتسابقت المشاهد والمقالات. صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه، وسلم الله ذاك الوجه ما أبهاه، وبارك الله على ذاك الأسوة ما أكمله وأعلاه، علَّمَ الأمةَ الصّدقَ وكانت في صحراءِ الكذب هائمة، وأرشدها إلى الحق وكانت في ظلمات الباطل عائمة، وقادها إلى النور وكانت في دياجير الزور قائمة. كانت الأمة قبله في سباتٍ عميق، وفي حضيضٍ من الجهل سحيق، فبعثه الله على فترة من المرسلين، وانقطاعٍ من النبيين، فأقام الله به الميزان، وأنزل عليه القرآن، وفرَّق به الكفر والبهتان، وحُطِّمت به الأوثانُ ولاذ منه خوفاً الطغيان.
للأمم رموزٌ يخطئون ويصيبون، ويسدّدون ويغلطون، لكنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم معصوم من الزلل، محفوظ من الخلل، سليم من العلل، عُصِمَ قلبُهُ من الزِّيغِ والهوى، فما ضل أبداً وما غوى: ﴿إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾.
للشعوبِ قادةٌ لكنّهم ليسوا بمعصومين، ولهم سادةٌ لكنّهم ليسوا بالنبوة موسومين، أمَّا قائدُنا وسيدُنا فمعصوم من الانحراف، محفوف بالعناية والألطاف. قُصَارَى ما يطلبه ساداتُ الدنيا قصورٌ مشيَّدة، وعساكرُ تَرفعُ الولاءَ مؤيِّدة، وخيول مسوَّمةٌ في مُلْكِهم مقيدة، وقناطيرُ مقنطرة في خزائنهم مخلَّدة، وخدمٌ في راحتهم معبدة.
أما محمّد عليه الصلاة والسلام فغاية مطلوبِه، ونهاية مرغوبِه، أن يُعبَدَ الله فلا يُشرَكُ معه أحد، لأنه فرد صمد: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لهُ كُفُواً أحَد﴾. يسكن بيتاً من الطين، وأتباعه يجتاحونَ قصور كسرى وقيصر فاتحين، يلبسُ القميصَ المرقوعْ، ويربط على بطنه حجريْن من الجوعْ، والمدائنُ تُفتَح بدعوته، والخزائن تُقْسَمُ لأمته.
ماذا أقول في النبي الرسول؟ هل أقول للبدرِ حُييتَ يا قمرَ السماء؟ أم أقولُ للشمس أهلاً يا كاشفة الظَلماء، أم أقول للسحاب سَلِمْتَ يا حامل الماء؟.
اسلُكُ معه حيثما سلك، فإن عترَتَهُ أهلَ بيتِهِ هم سفينةُ نوح، مَنْ ركب فيها نجا ومَنْ تخلّف عنها هَلَكْ، نَزَلَ رداءُ رسالته في غار حراء، وبِيع في المدينة، وفُصِّل في بدر، فلَبِسَهُ كلُّ مؤمنٍ فيا سعادةَ مَنْ لَبَسْ، ويا خسارةَ من خَلَعَهُ فَتَعُسَ وانتَكسْ، إذا لم يكن الماءُ من نهر رسالته فلا تشربْ، وإذا لم يكن الفرَسُ مسوَّماً على علامَتِهِ فلا تركب، بلالُ بن رباحٍ صار باتِّباعه سيداً بلا نسب، وماجِداً بلا حسب، وغنيّاً بلا فِضَّةٍ ولا ذَهَبْ، أبو لهبٍ عمُّهُ لما عصاه خَسِر وتبَّ، (سيصلى ناراً ذات لهب)..
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، وإنك لعلى خُلُق عظيم، وإنك لعلى نهج قويم، ما ضلَّ، وما زلَّ، وما ذلَّ، وما غلَّ، وما ملَّ، وما كلَّ، فما ضلَّ، لأن الله هاديه، وجبريل يكلِّمُه ويناديه، وما زلّ لأن العصمةَ ترعاه، والله أيده وهداه، وما ذلّ لأن النصرَ حليفَهُ، والفوزَ رديفُهُ، وما غلّ لأنه صاحب أمانة، وصيانة، وديانة، وما ملّ لأنه أُعطي الصبرَ، وشُرِحَ له الصدر، وما كلّ لأن له عزيمة، وهمة كريمة، ونفساً طاهرة مستقيمة.
فيضُ المشاعرِ ها هنا ينهمرُ عليَّ غيثاً فكيفَ أستطيعُ أن أحمي قلبي من خفقٍ مَوْسَقَهُ حبُّ محمد؟؟.. إننا اليوم وفي هذه الأيام نحتاجُ إلى ما دُعينا إليه من خلال رسالة هذا النبيِّ العظيم.. الوحدة.. الوحدة.. نحتاجُها احتياجَ العَطاشى لشربةِ ماء.. نحتاجها لفكِّ ما نرسفُ به من قيودِ الفتن.. ومُلمَّات المِحَنْ.. نحتاجُها.. احتياجَنا إلى الأنفاسِ يومَ تضيقُ بصدرِ اللاهثين الأنفاس.. تعالوا جميعاً.. منذ الآن.. لا بأس.. تعالوا نَشْبكِ الأيدي على حبِّ محمدٍ وآل بيت محمد وصحبه الطيبين.. أن نشبُكَ الأيدي على عهدِ أصحابِ محمد لنبيِّهم العظيم.. فلنلتقِ.. ولتتعانق النفوسُ ولتخفقِ القلوبُ بنبضٍ واحدٍ لنعيش دنيانا في رضى الله كما علمنا رسولُ الله.