فضاءات فكرية

ذكرياتنا الدينية بين المبدأ والتطبيق واقعة كربلاء نموذجاً

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

 ولعل الضرورة تستوجب، والواجب يقتضي أن نستذكرَ في تفاصيل الذكرى، أنه استُشْهد مع سبط الرسول الكريم(ص) الإمام الحسين(ع) الكثيرُ من أنصاره وأصحابه وأهل بيته وأقاربه والمدافعين عنه.. ويذكر التاريخ لنا أنّ أول من قُتل من الأتباع الكرام، “مسلم بن عقيل بن أبي طالب”، الذي كان أرسله الإمام الحسين(ع) إلى الكوفة لمقابلة أنصاره، والعمل على شرح الموقف الإسلامي الحقيقي آنذاك، في ضرورة التأثير في القلوب والنفوس، ومحاولة حشْدهم في انتظار قدومه عليهم؛ لكنّ والي الكوفة تنبّه إلى قدومه فقبضَ عليه وقتله بلا رحمة..!!. فالقتل كان ديدناً وعادة، وكأنهم –في طغيانهم وعتوّهم- يقتلون أي كائن آخر قرباناً على مذبح مصالحهم وشهواتهم.. إذ لا قيمة لجَسد إنسان حتى لو كان مسلماً مثلهم، ولو بنطق الشهادتين فقط..!!.

وأما في ساحة المعركة وميدان القتال نفسه، فقد قُتل العديد من أبناء إمامنا الحسين وإخوته وأقربائه، كباراً وصغار سن.. وكان من أشهرهم أخوه “العباس بن علي”(ع)، الذي كان يُعرف بقمر بني هاشم.. وقد تناول – الأديب والمؤرخ التراثي أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “مقاتل الطالبيين” – قصة مقتله أثناء قيامه بواجب إحضار للماء لسقاية الحسين، عندما تحرك جمع من الأمويين، فأحاطوا به، ومن ثم عملوا على تقطيع جسده، مبتدئين بيده اليمنى ثم اليسرى، ثم أجهزوا عليه كليةً، ليمنعوا إيصال قطرات ماء (هي الأغلى) إلى معسكر حفيد نبي الأمة(ص)، الإمام الشهيد الحسين بن علي(ع)..

كما ويعد “عبد الله” الرضيع، وهو ابن الإمام الحسين، واحداً من أبرز ضحايا مذبحة كربلاء.. ويسجل أبو الفرج الأصفهاني أيضاً أنّ أحد أفراد الجيش الأموي (ويُدعى حرملة) رماه بسهم وهو بين يدي والده فقتله.

ومن أنصار الحسين الذين قتلوا في تلك المذبحة أيضاً، “زهير بن القين”، الذي يذكر المجلسي في كتابه “بحار الأنوار” شجاعته وبأسه في قتال الأمويين، وأنه لم يُقتل حتى قَتَل جمعاً من رجالهم.. كذلك “الحر بن يزيد الرياحي”، الذي يذكر الطبري في تاريخه، أنه كان أحد قادة الجيش الأموي، فلما عرف نية عمر بن سعد في قتل الحسين وتأكد منها، انضم إلى الحسين وقاتل معه حتى قتل واستشهد بين زمرة أوليائه.

وأما من نجا من تلك المذبحة التاريخية – التي شكلت تحولاً في الاجتماع الديني والسياسي الإسلامي – فقد كان قليل العدد من أهل بيت الإمام الحسين، ومنهم أخته السيدة “زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب(ع)” وابنته “سكينة بنت الحسين”.. كما أنّ نجله الإمام زين العابدين “علي بن الحسين”(ع) كان الوحيد من أبناء إمامنا الحسين الذي ظلّ حياً بعد كربلاء.. والسبب في ذلك – بحسب ما يرويه “الذهبي” في كتابه “سير أعلام النبلاء” – أن علي بن الحسين كان مريضاً وقت المعركة، فأُجبِر على اعتزال القتال، فبقي مع النساء والأطفال.. ولما هجم الأمويون على معسكر الإمام الحسين قبضوا عليه وأخذوه أسيراً، ومن ثم أرسلوه مع الباقين إلى الكوفة.. وقد تعرّض الناجون من تلك المذبحة إلى المهانة والذل على يد “عبيد الله بن زياد” والي الكوفة، فدخلوا إلى المدينة مكبلين بالحديد والأصفاد، واقتيدوا – كما يقتاد الأسرى والعبيد – إلى قصر الوالي، وكأنهم غرباء في مجتمعهم، وأعداء مع قواعدهم، وهم أشرف الأشراف وأطهر الناس.. فسلام على الحسين يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً…

هذه هي الذكرى في مختصرها الذي يروى سنوياً في مراسم عزاء عاشوراء، وهي ذكرى لا يرغب البعض من بني أمتنا، (أو ما تبقى منها، فقد تشتت وتبددت وانزاحت عن أخلاقياتها الرسولية بإرادة طغاتها ومستبديها)، في شرح تفاصيل الذكرى الأليمة، وبيان دقائق أمورها فيما حدث من ذبح وقتل وتشريد، فالماضي مضى، وإثارته فتنة..!!.. مضحك ومبكي جداً هذا الانفلات الفكري والقساوة الروحية.. عن أي فتنة تتحدثون يا سادة.. هل الإشارة للحق والحقوق فتنة؟ وهل إظهار حقائق التاريخ يؤجج صراعات وفتن ويشعل حروباً؟ وهل مجرد ذكر بعض وقائع حادثة كربلاء – بحسب ما وردت في كتب أدباء المسلمين ومؤرخيهم ومفكريهم وعلمائهم، والتي استشهد فيها الحسين وكوكبة من أبنائه وأسرته وأقاربه على يد جلادي وطغاة ذلك العصر – هو دعوة فتنة وإعلان حرب؟ وهل تعتبرون أن احتفالات المسلمين بهذه الواقعة التاريخية المهمة، (لأخذ العبر والدروس من أجل منع حدوث فتن أو وقوع مآسي جديدة، والوقوف في وجه إثارة فتن جديدة في حياتهم الحالية والمستقبلية)، هل تعتبرون هذا النضج الفكري والوعي التاريخي، فتنة؟ إذاً كيف لكم أن توجهوا الاتهامات من دون وعي وتحليل وتأمل؟! وكيف تطلقون أحكاماً جزافية اعتباطية من دون تدقيق في الأفكار والوقائع والذكريات في ماهيتها وطبيعتها وتحليلاتها؟!..

نعم، نحن نؤكد على ضرورة أن نكون دعاة للمحبة والتسامح والتوحّد وعدم إثارة الخلافات والانقسامات، وهذا ديدننا وعملنا واشتغالنا المعرفي منذ زمن طويل.. ولكن هذا لا علاقة له بالحديث عن مناسبة دينية تاريخية باتت في ذاكرة – معظم المسلمين من كل المذاهب والملل والطوائف – محطةً لأخذ العبر والدروس الإيجابية على مستوى قيمة التضحية والكرامة، وإعلاء كلمة الحق والوعي والمسؤولية، والوقوف في وجه الظلم والظالمين..!!. وهذه بالأساس هي قيم ديننا الحنيف الذي يقول نصه المقدس: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾ (الحديد/25).. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ﴾ (المائدة/8)..

وهكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) – وهو نجل الإمام علي، وحفيد الرسول الكريم(ص) – في وعي كل المسلمين من كل المذاهب، فهو (عليه السلام) لم يكن يمثل مذهباً أو طائفة بذاتها، مثلما أن قاتله لا يختص بطائفة ولا يمثل مذهباً.

وبطبيعة الحال، يعطينا الإمام الحسين(ع) – في كل حركة التاريخ – دروساً عملية كبرى في الحفاظ على القيمة، والتضحية في سبيل بقائها شعلة تنير دروب الأجيال اللاحقة.. بالتالي هذا ما بقي منه(ع).. إنها الروح والفكرة و”القيمة – المبدأ”.. إنه المنهج العملي الذي سلكه(ع) في إظهار الإسلام، قيماً ومبادئ إنسانية رائعة، وعدم التنازل لجبهة الباطل، وإلا كيف يكون النموذج الحسن والقدوة الصالحة، وما معناها إن لم تتمسك بالقيم والحقوق والفضائل لتكون رايةً محلقة في كل فضاءات الزمن القادم؟!.

لقد كانت كربلاء محطةَ انطلاق نهضوية كبرى في وعي الأمة – كلّ الأمة – عبر العصور على الرغم من كل مما أثير حوله من قبل بعض أشباه العلماء والمثقفين؛ وهي لم تتوقف عند لحظتها الأولى، بل استمرت فكرةً حية ومنهجاً حركياً في العمل، لتأسيس وعي رسالي دائم يتقوم بالعدل والحرية والكرامة ورفض الخضوع إلا لله عز وجل.. وهذا ما أراد الإمام الحسين (عليه السلام) إيصاله عملياً.. أنْ يبني للأمة – في امتداد وجودها وأجيالها اللاحقة – وعياً رسالياً، ينبض بالعزة والكرامة وقيم النهوض من خلال النداء الأبدي: “كل يوم عاشوراء، وكل مكان كربلاء”.

واليوم تتعرّضُ مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لما هو أبشع من سرقة مواردها ونهب خيراتها والتلاعب بمقدراتها، وتحولها إلى مجرد ساحة مستباحة – من قبل حفاري القبور الجدد – بالفتن والحروب والدمار والخراب.. إنه التسلط والطغيان والإفساد والعدوان اليومي على الناس في حاجاتها وحقوقها، وإلغاء وجود الإنسان المسلم ذاته، وتهشيم صورته، وتحطيم هويته، والتلاعب برأسماله الرمزي التاريخي، وتقديمه كمجرد كائن عضوي (فزلجي!) خالٍ من الروح والوعي والقوة والعزيمة والإرادة.. ومحاولة تشويه صور نماذجه الرسالية العالية، وإظهار الدين على أنه فكرة مضت وانتهت حتى بشخوصها ومعانيها ورموزها..!!.. وهنا مكمن الخطورة.

من هنا نحن نعتقد أن هذه الذكريات باقية باقية شئنا أم أبينا، بل أضحت جزءاً راسخاً وعميق التأثير، من تراث وذاكرة شعوب ومجتمعات ومذاهب تعتنقها كعقيدة ومبدأ في أفكارها، ونموذج مثالي في شخوصها ورمزيتها العملية.. وبالتالي الناس على استعداد أن تضحي بالغالي والنفيس في سبيلها.. يعني لا يمكن محوها، بل يمكن تنقيتها وتوجيهها الوجهة العقلانية الصحيحة بما يخدم دور ومسؤولية الإنسان المسلم اليوم وفي المستقبل..

طبعاً، كلّ الأمم والمجتمعات لديها ذكريات تشكل الهوية الثقافية الحضارية لها.. وتكون عبارة عن الإطار النفسي والفكري العام الذي يعبّر عن وجودها الاجتماعي، وحراكها السياسي العملي حتى غير الظاهر في الصورة الخارجية الحقيقية.

وهنا نحن نتحدثُ عنها – عن تلك المناسبات والأحداث – من موقع العقل والفكر والمسؤولية وليس من أي موقع آخر، حتى في إظهارنا لتفاصيها، وتبيان حقيقة ما جرى فيها من وقائع وأحداث.

وهذا – بطبيعة الحال – دورنا كمثقفين نتطلع لكي يكون للدين – بمختلف حمولاته ووقائعه ومعاييره – تأثيره الإيجابي وحضوره الواعي والفاعل البعيد عن العنف والتطرف والإقصاء، على طريق استعادة دوره ومكانته كنبع للقيم الإنسانية المشرقة، أفكار وقيم العدل والحرية والمساواة، وإعادة بناء الذّات الفاعلة والحاضرة، وهي ليست عملية صعبة التّحقق، إذا ما توافَرت الإمكانات والموارد والكفاءات والخطط العلمية، والأهم: توفُّر الإرادة الفاعلة.

والبداية تنطلق من بناء هذا الإنسان – في بعده النفسي والمادي – على أسس ومقومات المواطنة الصالحة، وإعطاؤه حقوقه، وهذا هو أهم عمل نقوم به وتقوم به مؤسسات أية دولة، بل هو جوهر وجودها.. فالإنسان هو قدس الأقداس في ضرورة منحه حقوقه (عدل ومساواة وو)، التي هي مقدمة لتمثله معاني الفضيلة والأخلاق وقيم الخير والمحبة والتشارك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *