بين الجديد والقديم
بقلم غسان عبد الله
لماذا الصراع بين الجديد والقديم؟؟.. ألم يكن “القديم” في حينه “جديداً”؟.. هل الزمن هو المتحكم أو المعيار الوحيد في جدة شيء وقدمه؟.. هل كل قديم مرفوض ومنبوذ ولم يعد ساري المفعول كبضاعة فسدت وانتهت مدة صلاحيتها؟.
ثمةَ نغمة تتردد أن القديم مرفوض جملةً وتفصيلاً وبلا نقاش.. هي نغمة متجنّية.. غير عاقلة ولا حكيمة ولا متّزنة، فلا يزال الكثير من القديم صالحاً للاستعمال على الصعيدَيْن المادي والمعنوي، بل إن الكثير من القديمِ المرفوض لمجرّد أن عجلاتِ الزمن مرت عليه، كامنٌ في الجديد بنحوٍ أو بآخر.. هو أصلُهُ وجذورُه.. هناك ترابطٌ جدليٌّ أو تداخلٌ بين القديم والجديد.
قد تستغربون إذا قلنا إنه ليس هناك جديد بالمعنى المطلق للجدّة والحداثة، إنما اللاحقون هم الذين يضيفون ويحسنون ما فعله وصنعهُ السابقون.. القديمُ متضمّنٌ في الجديد بصورةٍ جنينية، كما تؤكّد الدراسات الخاصة بالتجديد.
فلنقرأ تاريخ المصريين القدماء قبل خمسة آلاف سنة، سنجد أنهم عرفوا الكثير من الأشياء الحضارية التي مكّنتهم من إدارة الحياة إدارةً تصل أحياناً إلى درجة الدهشة.. أتعلمون مثلاً أن الفلاحين المصريين القدامى قد عرفوا المشرَف أو المرشد الزراعي، حيث يقومُ موظّفٌ مسؤولٌ هو (كاتبُ الحبوب) بالإشرافِ على عملية البذر.. وأن عقود الزواج كانت عندهم موثّقةً ومكتوبة، وإنهم قاموا بتجارب لمعرفةِ نوع الجنين قبل ولادته، قبل (الإيكو) وأجهزة الاختبار الأخرى بآلاف السنين؟!. وأنهم اعتمدوا النظام الفيديرالي في إدارة الولايات المصرية، حيث كان لكل ولاية حاكم يتمتع بسلطات واسعة ويدين بالولاء والطاعة للسلطة المركزية؟!.
بالعودةِ إلى وثائق الحضارة السومرية باعتبارها أقدم الحضارات وأعرقها والتي سادت في بلاد ما بين النهرين (العراق)، نتعجب إذا ما عرفنا أن اختراعاتهم للتقويم، الدولاب، والمحراث، وصناعة الآجر، والكتابة المسمارية وتقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، والدائرة إلى 360 درجة والقضاء على ظاهرة التصحر بنقل الفائض من مياه دجلة والفرات إلى المناطق العطشى وإحالة الصحاري إلى جنان خضراء، وإنهم كانت لديهم (برلمانات) مجالس شعبية، وإن (شريعة حمورابي) في الحضارة البالية والمتضمنة لـ (285) مادة قانونية نظّمت شؤون البلاد والعباد مختلف القضايا، وإن (شريعة أورنامو) أسبق وأقدم منها بثلاثة قرون ولعلّ تلك صدى لهذه.
وقد لا ينقضي عجبنا إذا عرفنا إنهم برعوا أيضاً في الكيمياء وتركيب الأدوية وتقطير العطور، فقد عثر على لوحةٍ تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وضعها طبيبٌ سومريٌّ سجّل فيها أكثر من إثني عشر وصفة لمعالجة الأمراض المختلفة، وفي ذلك يقول المؤرخ (كرايمر): إن علم الكيمياء عند تدوين اللوحة في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، كان قد سار شوطاً بعيداً في التقدم والتطور!!.
هنا، ترتسم وترتفع علامة الاستفهام التالية: ألم تكن بعض مساحات التأريخ ومقاطعه شهدت حضارات غاية في الرقي والتطور؟.
قرآنياً يمكن أن نستدل على ذلك ببعض الشواهد:
حين خلق الله آدم (ع) علمه الأسماء كلّها.. علمه علماً لم يكن الملائكة يعلمونه.. آدم الذي نبّأهم به.. وقيلَ في مضمون هذا العلمِ أنّه علّمه كل الأشياءَ التي تحيطُ به بما يمكنُه من التعاملِ والتعاطي معها إيجاباً أو سلباً، ولا بد أن تكون عملية تعليم الأسماء مرافقة لمدلولات وأغراض تلك الأسماء!.
وحين يحدثنا القرآن عن ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (*) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (*) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾، ﴿وَأَثَارُواْ ٱلْأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾.. نعرف أن حركة التأريخ موجية فعلا.. فيها ارتفاعات وفيها انخفاضات.. مدٌّ وجزر.
هل لنا أن نتصور ملك سليمان وكيفية النقل الأسرع من السريع: ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾.. ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾.. كيف كانت الريح بساطاً يسابق أحدث طائرات العصر فيسبقها. ألا يحق لنا إزاء ذلك أن نتساءل: هل توجد أفكارٌ يمكن أن يقال عنها إنها (بِكرٌ) فعلاً؟!.
الاكتشافات على عظمتها وجلالةِ ما قدّمَتْهُ من خدمةٍ للإنسانية، تقول لنا: كنتُ موجودةً قبل اكتشافي وراءَ ستار.. ما قام به المكتشفونَ هو إزاحةُ الستارِ فقط!.
ذات يوم قام رسام يوناني برسم ستارة ودعا رساماً ينافسه ليراها ويحكم على عمله.. قال الرسام الثاني: “طيب.. أزح الستارة ودعني أرى اللوحة؟!”.. قال الفنان صاحب اللوحة: “الستارة هي اللوحة.. ستارة الجبال والأشجار والمحيطات والبشر..”!.
الجاذبيةُ كانت موجودةً منذُ أن كانتِ الأرضُ ولكن (نيوتن) كشفَ عنها، وربما هناك من كشَفَها قبلُهُ ولم ينقلْ لنا التاريخَ الطبيعيَّ اسمُه.. والإزاحة موجودة منذ أن خلق الله الماء والسفن.. ولكن (أرخميدس) التفت إليها.. والعالم الجديد كان موجوداً منذ أن خلفه الله في الطبيعة، وكان البحارةُ المغاربةُ يعرفونه؛ لكنهم لم يجرؤا جرأة كريستوف كولمبس.. والشريعة موجودة والفقهاء يستنبطون أحكامها.. ولا زال في الكون المليء بالأسرار والعجائب الكثير من الأسرار والعجائب التي تنتظر من يلتفت إليها ليزيح الستارة.
هل ناقضنا أنفسنا بين قولين: أن ليس هناك فكرة بكراً، وإن مقولة لا جديد تحت الشمس خطأ، أبداً، فقد يُصاغ القديم بقالبٍ جديد، وإضافاتٍ جديدة، وتحسينات تدخل عليه بين الحين والآخر لتطور من أدائه.
وحتى على صعيدِ الأفكار والحكم والأمثال الرؤى والنظرات.. اقرأ كتب الفلاسفة اليونان والرومان والفرس والهند لترى أن الكثير مما تضمنته كتبهم جاء في الرسالات السماوية، ما يعني أن العقل كان مبدعاً منذ أن خلقه الله ومتأملاً ومتبصراً ومتبحراً في آياتِ الكونِ والإنسان.