قال الورق.. معجمُ الوجودِ كتابٌ للخلق!
بقلم غسان عبد الله
أوقفني الورقُ الأبيضُ، وقال لي: أشكو إليكَ من يعكّرونَ صفوي، ويسيئون إلى نظافتي.. والذين يفعلون ذلك أنا براءٌ منهم، وهم براءٌ منّي.. أغريتُهم بنقائي، وتحدَّيْتُهُم بإشراقي، وأريتُهم في ملامحي أطيافَ الألوانِ جميعاً، لأزدادَ بهم نقاءً وإشراقاً، فسوَّدوا وجهي.
وقالَ لي: بياضي براءٌ من صورِ الملوكِ والأمراءِ والقادةِ والزعماءِ ومن خطاباتِهِم وكتّابِ تقاريرِهم وما تناسَلَ منها أو تناسَخَ عنها براءةَ دماءِ أطفال اليمنِ من سوادِ نفوسِهم وحقدهم.. فأبْعِدْهم عن بياضي أو أبعدني عن سوادِهم، أو ارفعْ قلمَكَ عن بياضي، فلا أنا منك، ولا أنت منّي.
وقال لي: اقرأ بياضي في سوادِ ما تكتب، فإذا وجَدْتَني من قَبلهِ ومن بعدهِ وفيهِ ومعه، وإلاّ فما أنت بقارئ.
وقال لي: أتعرف ما الهراء؟.. الهراء هو المنطق الفاسد الذي لا نظام له: فتدري ما صلاحُهِ من فسادِه وما نظامُه من عشوائه شيئاً غير انبثاث بياضي فيه.
فلا تَهْرأ الكلامَ، ولا تكن رجلاً هُرَاءً. ولا يخدعنّكَ في الكلام تراتبُ مقدّماتهِ ونتائجه فـ (الصدق) المنطقيّ غير الحقّ و (ما صدقه) غير الكذب.. واعلم أن الإعلام اسمٌ ظاهرُهُ مشتقّ من العلم، وباطنُهُ من الإعلامِ بمعنى رفْعِ الأعلام فهو أقربُ إلى بُهرجِ الزينة والدعاية وتحسين القبيح.. وما الإعلامُ العربيُّ في مجملِهِ إلا سوادٌ على بياض سريرةِ الشعوب التّواقة للحرية.. إعلامٌ يرفعُ أعلام هؤلاءِ الذينَ يُشيعونَ أن الشرفاءَ الأبطال الذين أتعبوهم في اليمن همْ إرهابيون ومخرِّبون.. إعلامٌ صهيو/خليجي…
وقال لي: “الهراء اسم شيطان موكّل بقبيح الأحلام” – لسان العرب -.
أوقفني الورق وقال لي: أصلٌ اسمي من ورقِ الأشجار، وقولُهم عنّي أنّي ما انبسطَ وتبسّطَ توصيفٌ ميتٌ لسطحي، فعامِلْني بأصلِ اسمي فهو حيٌّ من ماءٍ وهواءٍ ويخضورٍ وشمسٍ، وانظرْ إلى ما تكتُبُه عليّ فإذا وجَدْتَهُ يهتزُّ ويربو ويزهو ويُزهر، فقد عَرِفْتَني وعرّفْتَني.
وقال لي: تأمَّلْ صورَ ما كُتِبَ عليّ قبل قراءةِ كلماتِهِ فإذا رأيتَ في الصورِ جبالاً وأنهاراً وأشجاراً وأحجاراً ورجالاً ونساءً وسهوباً وأودية، فاسرِ فيها سريانَ الألِفِ في الأحرف، وسريان النقطةِ في الألفِ، فمعجمُ الوجودِ كتابٌ للخلق.
وقال لي: لا تقرأ إذا رأيت على سطحي قبوراً، ولا تنبشْ جثثَ المعاني من مدافِنها، ودعهم يتناقلونها مَيْتاً عن مَيْت.
وقال لي: أتدري ما سأفعلُ بمن يجعلونَ صفحاتي مقابر؟!.. سأميد بما يكتبون، فأسوّيه بأرضي، فأنفُضُهُ عني، فلا كان، ولا كانوا.
وقال لي: أأنت القائل: “ورقٌ على ورقٍ وأقلامٌ تخطُّ ولا بيانُ، عُطِفَ الزمانُ على المكانِ. فما الزمانُ وما المكانُ؟ لكليهما أسبابُ وحشتِهِ إذا فَرْغَتْ دنانُ.. وكلاهما بُعدٌ غشيمٌ غامضٌ لا يُستبانً.. لولا القليلُ من الحنانِ: وما القليلُ وما الحنانُ؟ نحن ابتكرنا في العلائق أن يكون البيلسانُ وصفيرُ قاطرةٍ وركّابٌ ملائكةٌ وجانُ.. لمديح مَنْ نهوى، وما كان القطارُ ولا الدخانُ”.
قلت: أجل.
قال: هذا تجميلٌ للعدم، ولولا ما فيهِ من شبهةِ العقلِ وألمِ الوجوِد لسوّيتُه بأرضي، ونَفَضْتُه عني.
وقال لي: أسعد ما أسعدَني أولادٌ يصنعونَ مني طائراتٍ لأحلامهم وقواربَ لأسفارِهم. وأسوأ ما ساءني حكامٌ وتجّارٌ صنعوا مني ما يسمّونه المال. هؤلاء لن يعبؤوا بدم أولئك إذا جدّ الجدّ.