الشّرعةُ الدَّوليّة ومنطقُ العدالةِ المَقْلُوب بناء القوة الداخلية كأساس للنصر والحسم الخارجي
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
قد يبدو سؤال الأخلاق – في بحثه عن معنى القيم الأولى والإصرار على تطبيقها في تجسّداتها البشرية في علاقات الناس، وعلاقات المجتمعات والدول والحضارات ببعضها بعضاً – قد يبدو هذا السؤال مجرّد نكتة سمجة لا قيمة لها في عالم السياسات الدولية ومؤامراتها وحبائلها ودسائسها ومختلف ألاعيبها التي تحاك ضد الدول والمجتمعات المستضعفة على وجه الخصوص.
بل باتَ الحديثُ عن موضوع حقوق الإنسان كمبادئ شرعية أممية في عالمنا العربي، بسبب السياسة الغربية الداعمة لجرائم الإبادة في فلسطين ولبنان، وفي نفس الوقت الداعية لاحترام حقوق الإنسان، مادة للتفكُّه والتندّر..!!. إذْ ما مَعنى العَدالة الدولية؟! ولماذا يتم تطبيقها وإجبار الدول على الخضوع لها بشكل انتقائي سافر وعدواني؟! ثم وبأي حق ومنطق وشرع وقانون، تحاصر أمريكا بلداناً وتعاقبها وتمنع عنها استثمار ثرواتها والانتفاع بها لتدبر شؤون أفرادها وخدمة شعوبها ونهضة مجتمعاتها؟!، وبأي شرع دولي وإنساني تصادر أمريكا حق الدول في بناء قدراتها وطاقاتها وتثير الفتن والحروب في وجهها، وتمنعها من الوصول لحساباتها في بنوكها؟!. ثم بأي حق وشرع تصدر أمريكا أحكامها القاطعة على هذه الدولة أو تلك وتقول بأنها إرهابية أو شريرة أو تصدّر الإرهاب؟!… ثم ما هو مفهومها للإرهاب؟ وما هي المعايير التي تقررها في هذا الصدد؟ وهل هناك تعريف محدد له؟ وهل مقاومة المحتل ودعم حركات التحرر ومساندة تياراتها وفصائلها هو إرهاب؟!
الإرهابُ بالمفهوم الأمريكي حكم قاطع يطلق على كل من يعارض السياسة العدوانية الأمريكية في المنطقة والعالم..!!… الإرهابي في نظرهم هو كل من يقول لا لمشاريع أمريكا القائمة على الهيمنة والنهب وإشعال الحروب والفتن والاضطرابات، والسعي لتغيير نظم وإقامة حكومات عميلة لها..!!.. والإرهابي هو كل من يدافع عن أرضه وحقوقه التي رسمتها وأقرّتها شرعة الأمم المتحدة نفسها.
واستدراكاً خصوصياً نقول:
عندما تفجّرت ثورة إيران الإسلامية، خاف الغرب منها، لأنها كانت ثورة شعبية ومعبرة بقوة عن غايات وتطلعات الشعب الإيراني في التحرر من التبعية ونهج طريق الاستقلال من ربقة المحتل الأمريكي الذي نهبَ خيراتها ومواردها عن طريق حكوماتها العميلة آنذاك (الحكم الشاهنشاهي).. من فورهم حرّكوا في وجه ثورة إيران الحروب العسكرية والحروب الاقتصادية والمالية، دفعوا عراق صدام حسين لإشعال حرب ضد إيران، ساندوه وفتحوا خزائنهم له، وأمدوه بكل أسباب القوة والمواجهة، واعتبروه حارساً للبوابة الشرقية، فقط ليشن حرباً امتدت ثماني سنوات ضد إيران بثورتها الفتية، ويمنع تمددها الشعبي إليهم.. خافوا من شعاراتها في التغيير وإقامة حكومات منتخبة، وأرعبتهم طروحاتها في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر..!!!..
وعندما حاولتْ هذه الثورة – بعدما تحولت إلى منطق الدولة منذ بداياتها الأولى – نَسْجَ علاقاتٍ جيدة وطيبة مع كثير من دول المنطقة، وتمثّلتْ قيمُها وشعاراتها كثيراً من حركات التحرر الوطني والإسلامي في لبنان والمنطقة، حاولوا – أمريكا والغرب عموماً – جاهدينَ بشتّى الطرق والسبل منع انفتاح إيران على تلك الدول، كما انطلقوا لإسقاط هذه الحركات التحررية وإشغالها بالصراعات الداخلية والحروب المحلية وإثارة حواضنها الشعبية ضدها عبر اتباع سياسات الفتنة وشنِّ الحروبِ التدميرية مثلما حدث في فلسطين ولبنان مرات عدة منذ عدة عقود، إلى يومنا هذا.
إنَّ جوهرَ مشكلة المنطقة يكمنُ في مسألتين:
الأولى- عدم إيجاد حلّ عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وبقاء الفلسطيني تائهاً غير مستقر على أرضه، يعاني بين كل وقت وآخر من الصراعات والحروب، فلا دولة تحتضنه ولا شرعية دولية تدافع عنه وتحميه من القتل والتدمير والإبادة الجماعية.. فهو واقع بين فكي كماشة حربية صراعية تسيل عبرها دماؤه على الدوام على الرغم من كل شعارات القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة..
الثانية- الحجم التدخلي الهائل لأمريكا في المنطقة، ودعمها اللا محدود للكيان العبري، ورفضها السعي لإقامة علاقات سلام دائم في المنطقة سواء بين الشعوب ونظمها، أو بين الدول مع بعضها بعضاً..
من هنا، لا يمكنُ عودة الهدوء والاستقرار الحقيقي والدائم إلى هذه المنطقة ما لم يتم التوصل إلى معالجة دائمة عادلة لأساس المشكلات وجوهر الأزمات وهو القضية الفلسطينية.. كذلك لا مفرّ من ضرورة السعي بكل قوة لإخراج أميركا من المنطقة… نعم هذا هو الهدف الحيوي القادم، وهو الثمن المقبول لدماء الشهداء.. أما أصابع أمريكا من الرجعيين وبقية الخونة والسفلة من أراذل الأعراب، فهؤلاء يسقطون فوراً بسقوط الهبل الأكبر (أمريكا) في منطقتنا هذه..!.
…نعم، يجب أن يدفع الأمريكان الثمن الكبير، ويجب إشعارهم (بالقوة) بما فعلوه ويفعلونه، ليس فقط من أجل دماء الشهداء، بل من أجل ما ارتكبوه من جرائم بحق بلداننا، من خلال نهبهم لثرواتنا ومواردنا، وما قاموا به من أعمال عدوانية علينا.. وعلى رأسها دعمهم لحركات الإرهاب التي قتلت ودمرت وفتكت بحياة البشر في عالمنا العربي بالذات..
نتحدثُ عن هذا الأمر، وأهمية السعي لإنجازه كهدفٍ جوهري على المستوى الخارجي، دونَ أن ننسى أنَّ قوةَ السّعي والحضور الفاعل على صعيد الخارج، مرهونٌ بقوة الداخل في مسؤولياتنا كعرب سواء كجماهير أو كنخب حاكمة، بما يفرض أن نقوم بمراجعة نقدية فورية للسياسات الحاكمة المطبقة في دولنا على شعوبنا، وضرورة إقامة حكم المواطنة في إعادة الاعتبار للفرد المواطن من حيث أنه أساس النجاح والانتصار في أي صراع أو حرب.. خصوصاً وأن تعقيدات المشهد العربي عموماً تأتي في ظل ما تعانيه دول هذه المنطقة من مشكلات سياسية واقتصادية بنيوية، جعلت الناس عرضة لشتى أنواع الحرمان والتخلف والاضطهاد، مع أنه لا يمكن لنا كعرب ومسلمين استعادة حقوقنا واسترجاع أراضينا بمواطن مقهور وهش وضعيف ومحروم، محارب في عيشه، ومنتهكة حقوقه وإنسانيته.
نعم، لا يمكنُ لأيّ فردٍ بشري أن يعيش وينتج ويتطور ويبدع – وينتصر في معاركه الخارجية – في ظل هيمنة اللا استقرار على حياته وسلوكه، واستمرار تحليق طائر الخوف فوق رأسه.. فمناخات القلق والاضطراب ومجتمعات الخوف -وبلداننا العربية على رأسها – لا تنتج سوى الأفراد المشوّهين (أشباه بشر وليسوا كالبشر)، العاجزين عن فعل أي شيء له قيمة وذو معنى.. والدليل هو أن تلك البلدان والمجتمعات (الخائفة والتي كانَ تعصُّبُها وتطرُّفها الشديد -في جزء كبير منه- رداً على خوفها) ما تزال متكورة على ذاتها، ومستهلكة لوجودها، وغارقة في الفوضى والتفكك واللا انتماء، وتتنقل من أزمة إلى أخرى أشد خطورة من سابقاتها..!!. ووصل الأمر معها أن فشلت في كثير من معاركها الخارجية.. حيثُ لم تتمكنْ مطلقاً من تحقيق أدنى شعار من شعاراتها وتطلعات شعوبها، بالعكس فقد انحدرت أمورها وشؤونها إلى الهاوية، وباتت مجرد مؤسسات جهازية وظيفية بيروقراطية إكراهية عقيمة تعتاش على الخارج، وتتعيش على حساب وموائد غيرها.. تُنتج التعصب، وتُولد العنف، وتغذي مواقع وأجواء الانقسامات الاجتماعية والدينية والسياسية، الأفقية منها والعمودية.
من هنا نؤكد على أنَّ نجاحنا في بناء الداخل العربي على أسس قوية من الوعي والمسؤولية، في تركيز واقع الحقوق والمبادئ الإنسانية في واقعنا الاجتماعي والسياسي، هو الوجه الأول من معادلة الانتصار على الخارج، وإلزام الآخرين (المُمسِكين بما يسمى بشرعية القانون الدولي) على احترام قضايانا، والسّعي بقوة لمعالجتها وفقاً للقانون الدولي ذاته، الذي شرّعوه هم بأنفسهم..!!.
نعم لا يمكن أن ينهض العرب ويتقدموا وهم يعاملون الفرد العربي كمجرد كائن وظيفي جهازي، أو كموضوع منفعل خالي من الإحساس والقيم، ولا حق له سوى الخضوع والخنوع وتنفيذ الأوامر الفوقية.
فالإنسانُ هو الجوهر وهو الفاعل وهو المعيار (في أي عملية إصلاح ونجاح وانتصار)، بل هو موضوع التغيير والبناء والازدهار، وهو غايته البدئية وعلته الأولى..!!.. بما يؤدي في النهاية إلى بناء مجتمعات وأوطان عربية مستقرة وناجحة تنموياً ومنضوية ضمن تكتلات سياسية اقتصادية ناجحة ومنفتحة على العالم.. أوطان تستثمر في شعوبها من خلال عقولهم وصحتهم وتنميتهم، ومن ثم نجاحهم في الانتصار على أمراضهم الداخلية، كشرط للانتصار على عدوهم الخارجي..!!.