الإبداع.. بين العلم والفن
بقلم غسان عبد الله
دائماً كانت لغة العلم ولغة الأدب على طرفَيْ نقيضٍ، ففي الوقت الذي نستطيع فيه ترجمة الحقائق العلميَّة من لغةٍ إلى أخرى دون إضافة شيءٍ أو نقصانه، ﻻ نستطيع أن نترجم عملاً فنيّاً أو نصّاً أدبيّاً من لغته الأصلية إلى لغةٍ أخرى دون أن يفقد الكثير من الطابع الخاصِّ به، مهما حرص المترجم على توخِّي الحذر والدقَّة.
والتناقض بين العلم والفن لا يعني المفهوم الخاصَّ لكلٍّ منهما، ولا الفرق بين المحتوى، ولكنه يأتي أصلاً من منبع كلٍّ منهما، فالعلم هو لغة العقل، والفنُّ هو لغة الحدس الذي تلعب الرؤى الذاتيَّة الدور الأوَّل فيه، ومن خلال هذا التناقض البيِّن يأتي التحليل النفسيُّ للأدب والفن.
والتحليل النفسيُّ للأدب ﻻ يقوم على العمل الأدبيِّ، لأن هذه العملية قد خرجت تماماً من نطاق التحليل النفسي فالتحليل النفسيُّ ﻻ يملك أن يكشف عن طبيعة الموهبة الفنيَّة، وﻻ يستطيع أن يبيِّن الوسيلة التي يستخدمها الفنَّان، أما العمليَّة النفسيَّة فهي تُعنى بدراسة شخصيَّة الفنان/الأديب، من خلال إنتاجه بشكلٍ كليٍّ.
وبما أن العمل الفنيَّ مظهرٌ من مظاهر السلوك، فيمكن محاولة تفسيره بمفاهيم التحليل النفسيِّ، ومحاولة ربط شخصيَّة الفنَّان بأثره الفنيِّ، من خلال الطريقة الرمزيَّة التي يعبِّر بها في عمله، لا سيما عن بعض دوافع السلوك الشعوريَّة وغير الشعوريَّة، فالعلاقة المزدوجة بين الأديب وعمله ذات اتجاهين. إذاً يمكن من تحليل العمل وتفسيره إلقاء الضوء على بعض اتجاهات الأديب وصراعاته النفسية.
المبدأ الأساسيَّ في عمليَّة التحليل النفسيِّ للعمل الأدبيِّ هي حتميَّة السلوك، أي أن أفكار أيِّ شخصٍ وعواطفه وتصرفاته وأفعاله في لحظةٍ ما، تتوقَّف تماماً على تطوُّر دوافعه الشخصيَّة وتشكيلها، خلال الخبرات التي سبق أن عانى منها، كما أنها تتوقَّف على كيفيَّة إدراكه الموقف، وهذا المبدأ الأساسيُّ يؤدِّي إلى تأكيد الدور المهمِّ الذي تقوم به الطفولة في مراحلها الأولى. وتنقسم لنوعين أساسيَّين في تكوين الشخصية: فمن جهةٍ هناك النزعات الغريزيَّة، وأهمها العدوانيَّة والجنسيَّة، ومن جهةٍ أخرى طبيعة الموقف السيكولوجي والإنساني.
وعلى الرغم من اختلاف الآراء واتحادها في بعض النظريَّات، إلا أن علماء النفس أجمعوا على أنه يجب على العمل الإبداعيِّ أن يسمو بنفسه فوق حياة الفنان الشخصيَّة، لأنه رسالة تنبع من قلب وروح الفنان، وتتَّجه نحو قلب الإنسانيَّة وروحها. فالفنان في نظر علماء النفس ليس مخلوقاً عاديّاً، فهو يبدع أعماله عن قصدٍ وتفكيرٍ ورويَّةٍ، وتتحكَّم به أداةٌ لاشعوريَّةٌ عليا، هي اللاشعور الجمعيُّ، ولذلك فإن عمل الفنان ﻻ بدَّ أن يشبِع الحاجة الروحية للمجتمع الذي يعيش في كنفه، ويصبح بمقدوره أن يوظف آﻻمه ومعاناته في نتاجٍ إبداعيٍّ جيِّدٍ يقدِّمه للبشريَّة ويخلد فيها.