ما هي سُبل تحقيق أهدافنا وتطلعاتنا الكبرى؟!
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
مرَّتْ علينا – في اجتماعنا العربي والإسلامي – أوقاتٌ وأزمان ليست بالقصيرة، كافحنا وجاهدنا وناضلنا فيها (أحزاباً وجماعات وتيارات وحركات ومنظمات وتنظيمات) من أجل تحقيق شعارات وطموحات وغايات وعقائديات كبرى آمنا بها عن “قلب ورب” كما يقولون؛ وطرحناها –في مجالات عديدة – على دروب العمل والتطبيق، ودفعنا في سبيلها الغالي والرخيص من أجل محاولة إيجاد ولو فرصة واحدة لها نحو ميادين التطبيق وساحاته العملية الواقعية الممكنة تجسيداً للقيم والحقوق.
ولكنها للأسف الشديد لم تتحقق على الأرض إلا في نطاقات محدودة وضيقة، أو أننا لم نتمكن (لأسباب ذاتية وموضوعية عديدة) من تمثلها كواقع موضوعي في سياقات التطبيق العملية الممكنة، بالرغم من كل الأثمان الباهظة دماء ودموعاً ومالاً ومستقبل أجيال، والتي دفعت كلها على طريق التنفيذ..
وإننا إذا كنا نقدر ونجل ونحترم التّضحيات الجسام التي دفعناها جميعاً في بلداننا –مواطنين من كافة شرائح ومكونات ومستويات وفئات مجتمعاتنا- على طريق ذات الشوكة تلك، فلا أدري لماذا لم نقف وقفة تأمل نقدي لنسأل أنفسنا: لماذا عجزنا (أو فشلنا أو تأخرنا) عن تحقيق تلك المقاصد القيمية الحقوقية الكبرى، وهي بلا شك غايات وطنية نبيلة وسامية وإنسانية عظيمة كبرى؟!.. حيث أنه:
من منا لم تنزف – من بيته وأسرته – دماء شهيد على دروب الوطن والوطنية منذ حرب عام الـــ 48 في فلسطين وحتى الآن؟!..
ومن منا لا يرغب ولا يتمنى أن يعيش في ظل أمة عربية واحدة لها رسالتها الإنسانية الاسلامية الحضارية الخالدة؟!..
ومن منا لا يتطلّع إلى أن يكون العربُ قوةً متحدة متضامنة قلباً وقالباً مع بعضهم البعض، قادرين معاً ودوماً على مواجهة الصعاب والتحديات والمخاطر وعلى رأسها الخطر الوجودي المحدق ممثلاً في الكيان الصهيوني الإرهابي الذي يتهدد الحجر والشجر والبشر؟!..
ومن منا لم ينشأ وينمو ويكبر على مقولة (قوة العرب في وحدتهم) منذ أن كنا في مراحل الطفولة الأولى؟!.. ومن منا؟ ومن منا؟!… إلخ..
ولكن ربما في هذا الطريق الوطني والإنساني الصعب والشائك، ربما نكون (خاصة المسؤولين عندنا) قد نسينا أو تناسينا أن بناء الوطن الأم الداخلي أهم وأبقى وأرسخ، وهو الأساس لأي قيامة أخرى.. وأن نهضته وضمان أمانه ورسوخه الحقوقي – إذا صح التعبير – شرط أساسي وجودي لقيامة بلداننا جميعاً في نهضتهم وتقدمهم وإنتاجهم كرامة وجودهم وحضورهم الفاعل في ملفات الحياة والعصر.. أي قيامتهم من تخلفهم وكبوتهم واستتباعهم للخارج، وتآمراتهم على بعضهم البعض.. قيامتهم من رهانهم على الغريب (العدو) قبل القريب (الأخ)..!!.
وهكذا يمكن القول بأنَّ مشاكلنا وحروبنا وتحدياتنا وأزماتنا الخارجية، وعدم إدراكنا الواعي والحقيقي لقدراتنا وإمكاناتنا في تجاوزنا لحدود تطبيقها واستثمارنا لها، كل ذلك ربما كان قد أنسانا وأنسى مسؤولينا ونخبنا القابضة على صنع القرار والتحكم بدفة سير الأمة.. فأمراض الداخل الكثيرة في بلداننا – وقد كانت مجرد التهابات بسيطة – أصبحت (نتيجة تأخر العلاج، واتباع الأمل والهوى، ورفض التغيير الإيجابي الداخلي) أمراضاً خطيرة مزمنة شبه مستعصية على الحل..!!. بل باتت حجرة وعقبة كأداء أمام أي تحول إيجابي مستقبلي يضمن العيش الآمن المستقر والمنتج للناس التي هدها التعب وال..
من هنا، عندما يعجز الحزب أي حزب، أو عندما تفشل أية جماعة سياسية حزبية قائدة لبلدها ومجتمعها، عن تنفيذ وتمثل وتطبيق شعاراتها العليا الواسعة والطموحة على مدار عقود طويلة، وهي التي تشكل جوهر وجودها الرمزي والمادي، سيُصابُ الناسُ عموماً (التابعين لها، والمنضوين خلفها وتحت ظلها على وجه الخصوص) بالإحباط، واليأس، والقنوط.. بل ستتراخى قناعاتهم وقد تخف درجة إيمانهم بها إلى حدود – ليس فقط نسيانها – وإنما التحول نحو الجهة المقابلة في رفضها ومحاربتها، خصوصاً مع تصاعد موجات فكرية تاريخية تقليدية تؤمن بالعنف الأعمى وتريد فرض رؤيتها وقناعاتها التاريخية بالقوة كمقدس سياسي ومجتمعي على الناس جميعاً..
هنا الطامة الكبرى التي ابتلينا بها لاحقاً؛ فانتقلنا من فشل إلى آخر، ومن خسارة إلى أخرى، للأسف..
ولهذا لا بد أن يكون أوفياء لفكرنا النقدي (مبدأ لنقد والنقد الذاتي) لنقول ونؤكد على أن أمثال تلك الجماعات والرؤى الفكرية والعملية المتطرفة، قد خرجت من رحم أمراضنا التاريخية.. خرجت من رحم هزيمة المشروع التقدمي النهضوي الوطني والقومي الذي آمنا به كمشروع حضاري تغييري كبير، وانخرطنا في تنظيماته المتعددة كأحزاب طليعية تقدمية عريقة فكراً وتاريخاً وسياسةً عملانية، ولكنه استحالَ إلى تكلّساتٍ صنمية لا روح ولا حياة فيها نتيجة الانغلاق والفساد والتسلط ورفض الانفتاح..
نعم هناك أسباب ثقافية وتقليدية قديمة قائمة في بنيتنا التاريخية، ما زالت تتسبب (نتيجة هيمنتها العميقة) في استمرار بقائنا في مستنقع الأزمات.. فقد قامت “الدولةُ – القبيلة” المستندة لروح القهر والطغيان وعقلية التغلّب والغصب في عالمنا العربي والإسلامي -والتي مازالت مستمرة بصور وأشكال شتى حتى عصرنا الراهن- بتحقيق كثير من المنجزات (العظيمة!!)، نذكر منها هنا:
1- بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، والعمل على إحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع ككل، الأمر الذي حول الدولة العربية (التاريخية والراهنة) إلى دولة نخبوية فوقية.
2- عجز الدولة العربية عن إقامةِ علاقاتٍ قانونيةٍ وطبيعية متوازنة مع الناس وعموم الجماهير الواسعة المستبعدة.
3- انعكاس البنية الدولتية العربية الهشة على الحراك السياسي الخارجي لتلك الدول حيث تتجه الأمور على هذا الصعيد إلى مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
4- ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير ذاتياً وموضوعياً، وفواتها زمنياً.
ولكن كل هذه الأمراض لا تعفي من المسؤولية، وضرورة النهوض مجدداً.. فحتى تهزم المرض والتخلف ومعاناتك الداخلية المستمرة كما نقول، يجب أن تهزم فكر التخلف وقناعته ومنبته السيء وحاضنته الاجتماعية.. تهزمه بالعقلانية والتنمية والحقوق والعدالة ومكافحة الفساد بصورة جدية حقيقية لا ديكورية.. تهزمه بتوعية الناس على حقوقها وتنفيذ متطلباتها.. تهزمه بالتنمية الاقتصادية البشرية الشاملة المتوازنة.. تهزمه بتطبيق القانون والنظام.. تهزمه بمنع المظالم ومكافحة الفساد بطريقة حقيقة لا ديكورية.. تهزمه بتعزيز مناخ الحريات وإعطاء الناس حقوقها.. تهزمه بإيقاف الاستغلال والاستثمار السياسي في الدين.
نعم تلك الشعارات الكبرى، الشعارات الوطنية – قبل القومية!! – لا تتحقق بالتغني بها، وجعْلها أغاني وأناشيد ثورية صباحية ومسائية ويومية ودائمية.. الشعارات تتحقق فقط بما يلي:
* العمل على إحداث اصلاح وتغيير حقيقي نوعي قبل الكمي في البلد يكون فيه الكل تحت سقف الوطن والقانون وليس فوقه، عملياً وليس نظرياً وكلامياً ولفظياً!!…
* الالتزام بالخيارات والثوابت الوطنية الداخلية الكبرى قبل الخارجية المكلفة والبعيدة المدى.
* العمل الدؤوب الصادق المنظم المسؤول على كل المستويات والأصعدة.
* احترام الصالح العام والنظام العام والقانون العام وتطبيقه على الجميع دون استثناء لأحد من أحد، وأعني به القانون المطبق المهاب من كل الناس، بقطع النظر عن انتماءاتهم ومشاربهم وقناعاتهم وعقائديتهم، رؤوساء ومرؤوسين.
* وقبل ذلك: (كما نقول ونؤكد دائماً) إعطاء الناس حقوقها، وتحقيق مطاليبها المحقة العادلة.. وأخذ ظلامتها ممن ظلمها ونهبها وسرقها، واستولى على ممتلكاتها، وحوّل الصالح العام إلى “صالح” خاص، ومزرعة له، يفعل بها ما يحلو له بلا قانون ولا خوف من ضمير أو رادع أخلاقي أو وطني أو ديني أو إنساني.
* جلب الفاسدين (الإرهابيين!!) الكبار إلى محكمة الشعب، وجعْلهم عبرةً لمن يعتبر..
وقد يكون هذا مجرد حلم، نعم مجرد حلم نحلم بتحققه يوماً ما على طريق حلم بناء الدولة الوطنية كأساس لبدء معالجة تحدياتنا الخارجية.. ولكنه لا بد وأن يصبح واقعاً في قادمات الأيام بفضل وعي ووطنية وإرادة الناس.. وبفضل وعي المثقف ودوره الفاعل في أن يكون متوازناً في شخصيته قبل أن يكون فعالاً في وعيه الفكري وتحليله ومنهجيته المعرفية..
طبعاً، الوعي لوحده شرطٌ لازم وغير كافٍ لتغيير مجرى التاريخ على صعيد الأوطان في مواقع البناء والنهضة والتقدم.. والوعي لا يفعل أي شيء من دون إرادة وقدرة عملية على الفعل والتأثير وإحداث صدمة التغيير. فالإرادة الحية (مع الوعي الفعال) هو ما يسهم في تغيير مجرى الأمور ومسيرة التاريخ.. ونلاحظ في كل شواهد التاريخ العالمي لكل الحضارات والقوى البشرية الكبرى، أنّ هناك كثيراً من المفكرين والعلماء والفلاسفة والحكماء امتلكوا الوعي بالواقع الذاتي والموضوعي، ولكنّهم افتقروا الإمكانية وافتقدوا الوسيلة وقوة الدفع، فلم يغيروا شيئاً.. نعم راكموه عبر عقود طويلة وربما قرون عديدة كما جرى في عصور الحداثة والتنوير الغربي.. لكن لا تغيير من دون امتلاك إرادة فاعلة وكتلة تاريخية صاحبة مصلحة بالتغيير.. تعي الحقائق وبنفس الوقت تملك إرادتها وأدواتها وتقبض على زمام أمورها.
إنّ تحقيقَ الشّعارات والأهداف والطموحات الوطنية النبيلة بالذات، كأساس لتحقيق الغايات القومية والإسلامية الكبرى، يتطلب الوعي والإرادة والتخطيط، وامتلاك حس المسؤولية.. فالبلدان والدول والامصار لا تتقوم ولا تبنى ولا تتطور بالخوف والامعية والاتباعية والهامشية، بل بالجرأة والشجاعة والنقد والمسؤولية، والاشارة الى الاخطاء صغيرها وكبيرها، وليسَ بمعلّقات المديح والاطراء والنفاق السياسي وغير السياسي..
.. وهل هناك شخصية أعظم وأرقى وأهم وأعلى منزلة من شخصية في حجم وعظمة شخصية الامام علي (عليه السلام) بعد رسول الله(ص)، ماذا كان يفعل بعد أن أصبح رئيس الدولة الإسلامية المترامية الأطراف لمدة خمس سنوات؟!.. انطلق لبناء وحدة الدولة داخلاً، ومعالجة أمراضها الاجتماعية والاقتصادية، وإيجاد حلول جدية عملية وواقعية لمشكلات الناس، بتطبيق العدل والمساواة.. قبل الانطلاق لبناء مواقع الخارج والتحرك في الفتوحات وتوسيع رقعة الدولة..
فهو كانَ مثالاً للحاكم العادل المسؤول “والديمقراطي جداً بلغة عصرنا”، حيثُ كان يتقبل نقد الناس له، ويقبل مشورتهم، وكانَ يصرُّ على عدم المديح والثناء عليه.. وحتى الخوارج (وهم من أجلاف العرب والمسلمين، وأكثرهم تجمداً وانغلاقاً في الفكر والسلوك، وقد كانت لهم قناعاتهم المتزمتة الصلبة) حتى هؤلاء الذين شتموا الإمام، ولاحقاً قتلوه، سمح لهم الإمام علي(ع) بالدعوة إلى قناعاتهم الدينية وأفكارهم وشروحاتهم ومعتقداتهم الخاصة، التي كانت بالأساس تتناقض مع بنية الدولة، ولكنه أعطاهم الإذن بالتعبير عنها، طالما بقيت في إطارها السلمي التنظيري.. لا بل وكان يقول لأصحابه وأتباعه وأركان دولته: “لا تقتلوا الخَوارجَ بعَدي، فليسَ منْ طَلبَ الحَقَّ فأخْطأه، كَمنْ طَلبَ الباطلَ فأدركَه“.. هم طلبوا حقاً لكنهم فشلوا فيه، فكراً ومنهجاً، أي كان(ع) يحاولُ إيجادَ المبرّر لهم ليستمروا في خضمّ الحياة السياسية وغير السياسية لدولته، فاعتبرهم مخطئين في التفسير والقناعات، لأنهم طلبوا الحقّ، ولكنهم أخطأوا السبيل والدرب، فما ذنبهم (وهم جماعة غير صغيرة) بجناية ما ارتكبه بعضهم من قبائح وشرور في الفكر والعمل..!!.
وهكذا نحن اليوم، علينا أن نعيد الاعتبار لقيم التشارك والاعتراف بالآخر، كشرط جوهري، للتغيير الداخلي وبالتالي لبناء أسس مواجهتنا لتحدياتنا الخارجية الكثيرة.. فالتغيير البنّاء والهادف هو من سمات وخصائص الأمم الناهضة التي تريد أن تتقدم وتتطور حياتها العمرانية البشرية والمجتمعية.