أول الكلام

وغداً يومٌ آخر….

بقلم غسان عبد الله

تبحثُ في أدراج الطاولةِ‏ المزروعةِ بالأشكال الورَقيَّةِ،‏ عن عمَلٍ يُلهيكَ.‏. وهذا العملُ اليوميُّ المفروضُ عليكَ‏ سَحابٌ مُغْبَرٌّ،‏ لا يُمطِرُ غيرَ السَّأَمِ.‏. تكتبُ صفحاتٍ زائفةَ المعنى،‏ تصنعُ منها بوقاً أبْلَهَ،‏ يُنفَحُ فيه،‏ فينزَلقُ الصوتُ إلى الآذانِ،‏ وتَلفِظُه ذائقةُ الأذهانِ.‏. عيالُكَ ينتظِرون ضَروراتِ العيشِ،‏ فلا بأسَ إذا ما تكتُبُ،‏ حتى تصعَدَ من حبر القلمِ‏ رائحةٌ تملأُ صدرَكَ‏ بالشجَنِ المنهوكِ وبالسَّأَمِ.‏. سأمٌ يهبِطُ منكَ إلى الكُرْسِيِّ،‏ وينهضُ من بين قوائمِه سأَمٌ،‏ يَنْبُشُ في الوجدان مخالِبَهُ،‏ حتى تخرُجَ من نافذة القلبِ المضطَرِمِ‏ دَفَقاتٌ آهِلَةٌ بشَميم الزَّفَراتِ،‏ وترحلُ في أنهار الجسمِ‏ صلاةٌ طافحةٌ بالأَلَمِ.‏

ماذا يبقى من يومِكَ..!!؟.‏. أَمْضَيْتَ نهارَكَ،‏ تَنْصاعُ يميناً وشِمالاً،‏ وتُكَدِّسُ بين قوافيكَ عناءً يتَطاوِلُ..‏ يرغَبُ أن يصْعَدَ نحو أَنينِ الإيضاحِ،‏ فتُضْمِرُه تحت سِماتِكَ محتَقَناً‏ في قاعاتِ الصمّتْ.‏. هي بِضْعةُ ساعاتٍ،‏ يقْرِضُها الليلُ بظُلْمَتِهِ،‏ والظُّلْمَةُ عاتِيَةٌ كجنونِ البحرِ‏ تحاولُ أن تترامى وادِعَةً‏ في بَوْتَقَةِ الإيهامِ،‏ وأنتْ‏.. روحٌ،‏ يتَأَرْجَحُ فيكَ الوَسَنُ السِّحْرِيُّ..‏ يغوصُ إلى رؤياكَ،‏ وأنتْ‏.. جسدٌ تتخَدَّرُ أضلُعُهُ،‏ وتنوسُ قناديلُ مشاعرِهِ،‏ حين تدورُ على مَهَلٍ مروَحَةُ الوقتْ،‏ وتجيئُكَ شُعْلَةُ أطْيافٍ،‏ تتواثَبُ فيكَ،‏ وتخرجُ منكَ،‏ وترتَدُّ إليكْ.‏

يتَلَقّاكَ جوادٌ يصهِلُ مغترِباً،‏ فتطيرانِ معاً،‏ وتمُدّانِ رجيعَ الحزنِ إلى الآفاقْ.‏. تندهِشُ عفاريت الجنِّ،‏ وتنفُثُ غَيْمَةَ نارٍ في مسْراكَ،‏ فتنسَرِبُ الرِّئتانِ إلى شُرُفاتِ الموتِ،‏ وتلقى نفْسَكَ مهجوراً‏ بين عَزيفٍ في البيْداءِ،‏ وبين حفيفٍ يَغْزِلُه مُجتَمَعُ الأوراقْ.‏. ينغلِقُ المشهدُ..‏ تهبِطُ قربَكَ، من أعلى، كرَةٌ جَوْفاءُ،‏ فتَلْمِسُها بيدَيْكَ،‏ فتنفتِحُ الأبوابُ، وتدخُلُ،‏ تنغَلِقُ الأبوابُ،‏ وتجري الكرةُ الجوفاءُ على زَبَدِ الموجِ‏ نهارَيْنِ وليلَيْنِ.‏ ومن ثَمَّةَ تُلقيكَ إلى أَنْأى جُزُرِ اللهِ‏ عن الناسْ‏ وعنِ الوَسْواسِ الخَنّاسْ.‏ وهناك تعيشُ على ما تُنتِجُه الأدغالُ‏ مَديدَ العُمْرِ.. فريداً،‏ حتى تصبحَ لِحْيَتُكَ البيضاءُ‏ تُلامِسُ قدَمَيْكَ،‏ وحتى تَعجَزَ عن حَمْلِ الكَفِّ‏ مع الكفِّ‏ وتسْنُدَ ذاكَ الراْسَ على حجَرٍ،‏ وتظَلُّ زماناً مسلوبَ الإحساسْ.‏

ينغلِقُ المشهَدُ..‏ يأتيكَ جَوادُكَ ثانيةً..‏ ترتَدُّ بكَ الأزمانُ إلى وجَعِ الشرقِ‏ النائِمِ في كَهْفِ أهالي الكَهْفِ.‏. ألا.. ليتَ إذنْ،‏ ينسكِبُ الضَّوْءُ على الأرضِ،‏ ويسحَبُ أذيالَ الوَهمِ‏ سَرابُ الصيفِ عن الأحداقْ،‏ وتميلُ تضاريسُ بلادِكَ طائعَةً نحوَكَ،‏ حين وقفتَ،‏ وحين مَشَيتَ،‏ فتَنْهَدُّ جبالٌ لتعودَ سُهولاً،‏ وتقومُ وِهادٌ..‏ فتكونَ روابِيَ شامِخَةَ الأعناقْ.‏ تشْخَصُ قُدامَكَ ألواحُ الحاضرِ والآتي…‏ تُغريكَ على أن تقرَأَ ما هو منقوشٌ.‏. فاقرَأْ..‏ وانسَخْ بمِدادِ فؤادِكَ،‏ ما تُبْصِرُ من أسرارٍ عاصِيَةٍ،‏ عَلَّكَ تعرفُ كيف يمُدُّ العَرْشُ قوائمَه،‏ حتى يشْمُلَ سُكّانَ الحاضِرِ والبادي،‏ ويصيرَ غُرابُ البَيْنِ رسولَ الأشواقْ.‏ ولَعَلَّكَ تعرِفُ كيف تُوَزَّعُ،‏ بين غَرابِينِ الدنيا،‏ قائمةُ الأرزاقْ.‏ وأوانَ ابْتَدَتْ تُشْرِقُ روحُ العُرْفانِ،‏ وتُنْبِتُ وَحْياَ نَبَوِيّاً،‏ تنطَلِقُ سِهامٌ رَعْناءُ،‏ وتَقْطُنُ بين الخاصِرَتَيْنِ،‏ فآ…. هْ.‏ تسقُطُ صرَخَتُكَ الكَلْمى‏ من شَفَق القلبِ‏ على هيئةِ طيرٍ مُغتالٍ،‏ فتُرَفرِفُ أجنِحَةُ الوَلَهِ الأخضرِ‏ عند قِبابٍ خضراءَ..‏ فآ….هْ.‏ تنفتحُ الأبوابُ القُدْسِيَّةُ..‏ في البيتِ القُدسِيِّ‏ ويرْتَعِشُ الطيرُ ويدخُلُ مِحْرَابَ اللهْ.‏ وترى أنّكَ تستيقِظْ من حُلمِكَ،‏ حين يَدٌ حانِيَةٌ تلمِسُ وجهَكَ،‏ والأُخرى تحملُ فنجانَ القهوَةِ.‏. تُدرِكُ أنّ حياتَكَ‏ تستقبِلُ يوماً آخَرَ،‏ فانْهَضْ حتى تلقاهُ،‏ وتعرِفُ كيف تراهْ،‏ فلعلَ مفاتيحَ مناهِلِه‏ تتوَرَّدُ بين خُطاكَ،‏ وتُصبِحُ بين يديكَ مرايا الأرضِ‏ سفينةَ كشْفٍ بارِقَةً،‏ تسبحُ وادِعةً في مَجْراهْ.. وغداً يوم آخر لا تعرفُ ماذا تنضحُ به خباياه.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *