أبحرتُ في كل الوعودِ لكي أردّكَ قبلَ ساعاتِ الغياب
بقلم غسان عبد الله
أبحرتُ في رؤيا صبابتِكَ الأبيةِ وانكفأتُ.. تهشّمَ الإبحار مسروداً على ظهرِ الزبدْ.. ناديتُ كي أدنو من ومضِ صوتِكَ الشفقيِّ فانشقَّ المرادُ من الصممْ.. يا أيها المظنونُ، كم ركضَ الفؤادُ على سهام الذعرِ كم ركضَ الصقيعُ يعيدني لأُجنَّ من وجلي ومن يأسي.. وأُفقد في الجحودِ.. أتيهُ ما بين الأصابعِ والنهمْ..
إني على مرمى قناديلٍ وأسمع ضوءها.. لكنني لا أبصرُ العتباتِ.. لا ألوي على قربٍ يرتّبُ من مجاهيلي خروجاً كي تحاولَني.. لأدخلَ ركنكَ الرقراقَ.. حاولْني.. لأخلُصَ من شُقَاقاتِ الضجيجِ تطوّفُ الزبدَ العجيبَ.. وخمرةَ الزمنِ العدمْ..
يا بردَ أنسِ هذا القلبِ ويا سلامَهُ.. بي من هواكَ تشافُقُ الأورادِ في قلبي وأُمطِرُ بالغسوقْ!.. هل أبدأُ الجرعات من كأسٍ أُداهِمُهُ بخيباتٍ وهزجٍ ورُقى وبعضِ دعواتٍ واستخاراتٍ.. كأسٍ يقتُلُ الوقتَ المرتّبَ لحظةً وتشربُهُ.. في آخرِ العمرِ يا أنسَ الصبابةِ وجليلَ الرؤى انحناءاتُ الوئام؟! مَنْ يخرِجُ الأمنياتِ مِنْ لجج الغموضِ ومن أصابعَ داجتِ الأبوابَ كي يصفو الضياعْ.. من ذا يُعِيلُ الماءَ هطولاً ليغْسِلَ تربةَ الصمتِ المغفّل بالسلامْ.. لمْ أسهُ عنكَ.. ولم أضعْ في السهوِ.. ها أنذا أعودُ لكي أحدِّثَ بصمتي على نوافذِ المساءِ وعلى دفتر اليوميات العجيبْ.. أو أنالَ حكايةً تتلو شجونَ نوافذٍ صَدِئَتْ على جدرانها.. وتصدّعتْ أنّاتها خوفَ انقراضٍ أو ذبولٍ يُبهتُ الوجعَ المديدَ.. ويصدي المدنَ التي بدأتْ تشطُّ وتستوي في اللهوِ ناسجةً مراميها.. وأوطارَ الفصامْ.. تسهو النوافذُ عن أحاديثِ النهارِ وتقتفي ظلَّ المساءْ؟! يسهو النهارُ عن التذكرِ والظهيرةِ والغروبِ وعن سرائرهِ المُصَاغَةِ بالمرارِ وطعمِ أقوالٍ مدجّنةِ النداءْ.. إلى قلائد زيّنتْ ظهرَ القوامْ! وأدمَنتْ رشفَ الهُيامْ.
صمتٌ.. وصمتٌ آخرُ.. يتوجّعُ الصمتُ المكدّسُ.. فوق ألسنةِ الملماتِ الوسيعةِ.. ها سماءُ الجرحِ ترمدُ من تعاطيها سحاباتٍ مكسرةً وأحلاماً تغورُ على دخانِ سلافةٍ لتصيرَ في طيِّ السقامْ.. إني أشاطِرُكَ البلاءَ، ولا أجيئكَ مثلما كان المجيءُ يرجُّني ويبيحني لخوائهِ المغدورِ.. ثم يعود يغفلني ليرجعَ مرَّةً أخرى.. ويرجوني الزحامْ!.. فرغَ المجيءُ من الخطا.. وتبوّأَ الزمنَ الهلاكُ.. صمتٌ.. وصمتٌ آخرُ.. ومشارفُ الأيامِ واطئةٌ وتعلوها ستائرُ طُرزتْ بعبابِ ديجورٍ غضاريّ الهوانْ.. أضحيتُ مثلكَ.. أو قريبكَ الملولَ أُرْكِنَ.. في ظلِّ عَدْوٍ حائرِ اللهثاتِ.. مفتوحاً.. على داءِ الغمامْ.. أنتَ الوقوفُ على مشارفَ لا تمل من النداءِ ولا تحلُّ صعودَهَا المجنونَ من جدلِ الغبارِ.. وقد تملَّكَتِ الحروفَ وأدخلتْ في أبجدياتِ النواحِ ضحكاتِ الفؤادِ.. وأدعيةَ السَّحرِ والسمرِ وذراتِ الكلامْ!.
أنتَ الوقوفُ على مشارفَ تطمسُ الأشياءَ في ليلٍ يصولُ على صباباتنا.. ويمعنُ في السُّقام.. أضحيتُ مثلكَ إنما… أبحرتُ في كل الوعودِ لكي أردّكَ قبلَ ساعاتِ الغيابِ، وقبلَ جدرانِ السكونِ.. وقبل هجعتِكَ الأسيّةِ قربَ غِمْدِ الرملِ محمولاً على خصرِ النواقيسِ الرجوجةِ والقتامْ.
صمتٌ.. وصمتٌ آخرُ.. وحريقُ ريحانٍ.. يغيّبُ وجنةَ الأفقِ القريبةَ من عيونٍ برعمتْ شوقَ الورودْ.. الصمتُ غابَ.. وعادَ ظلَّ سكينةٍ بيضاءَ أدخلتِ الوقارَ على ندائكَ وانفلشتَ على هزائمَ ضيّعتْ عنكَ الضفافَ وقوّستْ في لجُّكَ المخدوعِ أمواجَ الكلامْ.. آهٍ يا أنتَ هيامي، ويا لون الدعاءِ بظلِّ القبابِ وعندَ الأئمةِ في كلِّ مقامْ.. لأنتَ وَقْدُ هذي الحياةِ وصوتُ الصمتِ وبردُ الأُنس على القلبِ والسلامْ.