إقليميات

قمة السلام المزعومة مشهد مسرحي في مسار سياسي مفرغ من الفعل

بقلم زينب عدنان زراقط

التناقض السياسي والأخلاقي يسلط الضوء على غياب الأطراف الفلسطينية المؤثرة عن طاولة الحوار، مقابل وجود من يلطّخون أيديهم بالدماء وهم يحاولون الظهور كمنقذين.

فكيف يمكن الحديث عن “سلام” في قاعة تجمع بين من يموّل الحرب، ومن يصمت عنها، ومن يروّج لرؤية سياسية تتجاهل أساس الصراع؟.

في الثالث عشر من أكتوبر 2025، جمعت مدينة شرم الشيخ المصرية قمة دولية تحت عنوان “قمة شرم الشيخ للسلام”، عدداً كبيراً من القادة الإقليميين والدوليين، في محاولة لإنهاء الحرب المدمرة التي شهدها قطاع غزة على مدار عامين. وقد ترأس القمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. نعم في مصر، التي لا تزال تغلق “معبر رفح” ومنعت عبور قطرة الماء والدواء طوال فترة الحرب. وأمريكا التي استخدمت حق النقد “الفيتو” في كل جولات مجلس الأمن لإسقاط قرار “وقف إطلاق النار في غزة” وهي من اعطت الضوء الأخضر لاستمرار الإبادة. بينما نجد أن الدول التي ساندت وخاضت الحرب بجانب غزة واستبسلوا بالتضحيات وشن العدو الحرب عليهم أيضاً، وكأنّه قد أُنكِر جميلهُم!.

في هذا السياق نشرت صحيفة The Guardian مقالاً بعنوانٍ لاذع:

While the perpetrators of Gaza’s genocide pose as its saviours, survivors return home – to a wasteland

أي: “بينما الذين ارتكبوا إبادة غزة يتظاهرون بأنهم منقذوها، يعود الناجون إلى أرض يملؤها الخراب. وقد استخدمت الكاتبة عبارة جريئة من الأمثال العربية “حاميها حراميها”، للدلالة على التناقض الصارخ بين من يُفترض أنهم يحرسون السلام ومن هم في الواقع طرف في الإفقار والخراب. استخدام هذه العبارة في سياق قمة شرم الشيخ يضع المشاركين تحت مجهر المصداقية: كيف يُسمح لمن شارك في صُنع الأزمة أو في تغطيتها بأن يُكلف بالدفاع عنها؟. فماذا عن تصريحات الرئيس الأمريكي “راعي السلام”؟.

بحسب ما ورد من تغطيات، فإن ترامب خلال القمة:

1- قدّم نفسه كصانع سلام، رغم مواقفه المنحازة سابقاً.

2- أطلق تصريحات تتضمن مديحاً مبالغاً فيه لإسرائيل وقيادتها.

3- تجاهل، أو مرّ مروراً خفيفاً، على المأساة الإنسانية في غزة.

وعلى هامش الاتفاق، أدلى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بتصريحات أثارت جدلاً واسعاً، وصف فيها الوضع في لبنان بأنه “مستقر بعد تحجيم حزب الله”، مضيفاً أن “الخطر الذي كان يمثله الحزب أصبح من الماضي”، وأنه خلال فترة ولايته “تم تحييد التهديدات على ثماني جبهات خلال ثمانية أشهر”، على حد تعبيره. إلا أن هذه التصريحات قوبلت بتشكيك واسع من مصادر سياسية ودبلوماسية، اعتبرتها “مليئة بالمغالطات والأخطاء الجوهرية”، مشيرة إلى أن الواقع الميداني والأمني في لبنان يناقض كلياً الصورة التي حاول ترامب تصديرها. فمن غير المنطقي، بحسب المصادر، الحديث عن انتهاء تهديد حزب الله في وقت لا تزال فيه الضغوط الأمريكية والغربية والعربية تُمارَس على الحكومة اللبنانية لنزع سلاح الحزب، كما أن إسرائيل نفسها تواصل تهديداتها بشن حرب شاملة، وتنفّذ اغتيالات وضربات في العمق اللبناني تستهدف ما تصفه بـ “البنية التحتية الصاروخية والعسكرية” للحزب.

ويُنظر إلى خطاب ترامب ضمن إطار محاولة تسجيل “إنجازات سياسية وأمنية” قد تُستخدم لاحقاً في حملته الانتخابية 2026، عبر تصوير نفسه كصانع للسلام ومُنقذ لأمن إسرائيل، خصوصاً في ظل محاولاته المستمرة لاسترضاء قوى الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، كان لافتاً في خطاب ترامب في الكنيست الإسرائيلي، عندما أشاد بشكل صريح بالسيدة ميريام أديلسون (Miriam Adelson)، المانحة الكبيرة للدعم السياسي، مستخدماً عبارات مثل: “أنظروا إليها وهي تجلس هناك ببراءة” و”لديها 60 مليار دولار في حسابها، وهي تحب إسرائيل”. إشارة قوية على العلاقة بين المال والسياسة، وانخراط الممولين للانتخابات في قرارات السياسات ذات الأثر الكبير، ولهذا يُطلق عليها مُسمّى “امرأة الظل”.

إلا أن التناقض بين تصريحاته وبين الواقع القائم على الأرض، سواء في لبنان أو غزة، يطرح علامات استفهام حول مدى دقة هذه الرواية وجدّيتها. فالهدنة التي تم التوصل إليها في شرم الشيخ لم تأتِ نتيجة “تحييد” حزب الله أو اختفاء تهديداته، بل جاءت في ظل توازنات معقّدة تشمل الردع المتبادل بين الأطراف، وهو ما يضعف الطرح القائل بزوال المخاطر الأمنية في المنطقة. وعليه، فإن توصيف ترامب يُنظر إليه في الأوساط السياسية كجزء من سردية دعائية لا تنسجم مع معطيات الواقع، بقدر ما تخدم أهدافاً انتخابية داخلية.

تحديات ما بعد “قمّة السلام”

أ‌- عودة حماس إلى غزة… اعتراف ضمني بغياب البديل:

على الرغم مما بدا أنه انفراجة مؤقتة عقب إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، كشفت التطورات الميدانية عن هشاشة التفاهمات ومحدودية أثرها الفعلي على الأرض. ففي تحليل نشرته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، أُشير إلى أن عودة قوات حماس إلى الشوارع تمثل اعترافاً إسرائيلياً ضمنياً بأن الحركة لا تزال الجهة الوحيدة القادرة على ضبط الواقع الأمني والإداري في القطاع. هذا التحليل، الصادر عن مؤسسة إعلامية قريبة من دوائر صنع القرار، يُعدّ بمثابة تراجع صامت عن خطاب “ما بعد حماس” الذي ساد في بداية الحرب، والذي روّجت له جهات سياسية وأمنية إسرائيلية كأحد أهداف المعركة.

في ظل هذا الواقع، يبدو أن إسرائيل وجدت نفسها في مأزق غياب البديل، وهو ما جعل بعض المراقبين يعتبرون هذه العودة إقراراً عملياً بفشل الرهان على إقصاء حماس دون خطة واضحة لما سيلي ذلك. هذا ما يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كانت الاستراتيجية الإسرائيلية قد انتقلت من “القضاء على حماس” إلى “احتوائها ضمن شروط جديدة”.

ب‌- نزع سلاح حماس:

وتتجلى عقبة كبرى في المرحلة التالية من الاتفاق، والتي تنص على نزع سلاح حماس. هذا الشرط، بحسب مراقبين، قد يُفجّر التفاهم الهش إذا ما قررت الحركة رفضه، كما هو متوقع. الكاتب الإسرائيلي عاموس هارِل يرى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن يغامر بتحريك عملية عسكرية ضد حماس، طالما أنها لا تمثل تهديداً وجودياً لإسرائيل، مؤكداً أن الإدارة الأمريكية تفضّل تجميد الوضع القائم بدل الدخول في حرب جديدة. ويُضاف إلى ذلك أن إسرائيل ما زالت تُحكم سيطرتها على 53% من مساحة القطاع، بينما حماس تتحرك ضمن “مناطق ضيقة”، ما يُكرّس واقعاً جديداً على الأرض دون الإعلان عنه رسمياً.

ت‌- الوجود العسكري الإسرائيلي: انسحاب أم إعادة تموضع؟

وعلى الرغم من الحديث عن وقف لإطلاق النار، إلا أن الواقع العسكري يُكذّب الادعاء بوجود انسحاب إسرائيلي كامل. فقد أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تحذيراً واضحاً لسكان غزة من الاقتراب من “مناطق انتشار القوات الإسرائيلية”، ما يعني أن الاحتلال لا يزال قائماً، وإن بأشكال جديدة. تقسيم القطاع إلى مناطق نفوذ يعيد إنتاج شكل آخر من السيطرة، ويجعل من اتفاق وقف إطلاق النار مجرد ترتيبات أمنية مؤقتة لا ترتقي إلى مستوى تسوية حقيقية أو حل شامل.

بذلك، تكشف التطورات عن واقع مركّب: لا انتصار سياسي معلن، ولا انسحاب عسكري حقيقي، ولا بديل متفق عليه، في حين تبقى حماس فاعلاً حاضراً، وتبقى غزة مساحة اختبار معلّقة، بين تسويات دولية هشّة وحقائق ميدانية تتجاوز ما يُقال في المؤتمرات الصحفية.

ث‌- المحكمة الجنائية الدولية: العدالة لا تتوقف عند وقف الحرب.

على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار والمساعدات الأخيرة في غزة، أكد رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوزا أنّ القضية التي رفعوها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بشأن ادعاءات الإبادة الجماعية لا تزال مستمرة، وأن الاتفاق لا يُغيّر من موقف دولتهم القضائي.

على الرغم من المساعي السياسية الحثيثة لوقف القتال في غزة والتوصل إلى تهدئة، تسير تطورات القضاء الدولي في مسار مغاير يؤكد أن وقف الحرب لا يعني وقف المحاسبة. فالعدالة الدولية، التي تتجاوز حدود السياسة، تواصل ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم الجسيمة، وفي مقدمتهم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. ويتوقع خبراء القانون الدولي صدور حكم نهائي في القضية بحلول أواخر 2027 أو أوائل 2028، وإذا جاء الحكم ضد الاحتلال فقد يتضمن:

• الإقرار بوقوع إبادة جماعية

• إلزام إسرائيل بوقف جميع الأعمال ذات الطابع الإبادي

• تعويض الضحايا الفلسطينيين

• إحالة التنفيذ إلى مجلس الأمن

وفي حال تعطيل تنفيذ الحكم عبر الفيتو من بعض الدول الكبرى، من المتوقع تفعيل آلية “الاتحاد من أجل السلام” داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، كخيار بديل لتجاوز عرقلة مجلس الأمن.

في الخلاصةِ، على الرغم مما رُوِّج له من وعود ودعوات للسلام، خرجت قمة شرم الشيخ دون أن تُحدث أي فرق جوهري على الأرض. القصف لم يتوقف، والدمار في غزة مستمر، والضحايا ما زالوا يتساقطون. الكلمات الرنانة التي صدحت بها القاعة لم تكن كافية لوقف صوت الرصاص، ولا لإنقاذ من تبقّى تحت الأنقاض.

وما يزيد من قتامة المشهد أن القمة، بدل أن تُقدّم أجوبة حقيقية، طرحت مزيداً من علامات الاستفهام: مَن يمثل مَن؟ ومن يملك القرار؟ وهل كانت الغاية فعلاً إنقاذ المدنيين، أم إنقاذ مواقف سياسية؟

إن قمةً تُعقد بلا نتائج عملية، ولا آليات تنفيذ واضحة، ولا مساءلة للمتسبّبين في المأساة، تبقى مجرد مشهد مسرحي في مسار سياسي مفرغ من الفعل. وبينما تستمر الحرب، يزداد الشعور بأن هذه القمم تُعقد لتهدئة الرأي العام، لا لوقف نزيف الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *