إقليميات

آن الأوان لوقف الحرب الأهلية في السودان

بقلم توفيق المديني

وتوضح الأرقام الرسمية أنَّ هذه الحرب في السودان خلفتْ أكثر من 150 ألف قتيل، وشَرَّدَتْ أكثر من 14 مليون شخص، فيما يواصل ملايين آخرون الاعتماد على المساعدات الإنسانية. وتسبّبت بما وصفته الأمم المتحدة بأنّه “الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم”. وعلى الرغم من التحذيرات الدولية، لا يزال القتال محتدماً، مع استمرار وقوع فظائع واسعة النطاق، تشمل العنف الجنسي كسلاح حرب، واكتشاف مئات المقابر الجماعية. ومع ذلك، لم يُدْرِكْ المجتمع الدولي حجم الأزمة بشكلٍ كافٍ، وفي ظل هذا الإهمال يُغَذي الانقسام بين الأطراف المتحاربة الخوف بين المدنيين.

دور الأطراف الإقليمية في دعم قوات “حميدتي”

من أكثر الأطراف الإقليمية ضلوعاً في تغذية استمرار هذه الحرب الأهلية، يبرز اسم دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تُعَدُّ الداعم الرئيسي للحرب في السودان، عبر إمداد المليشيا بالأسلحة والتمويل، وهو ما تنفيه أبو ظبي بشكلٍ قاطعٍ. وتنحدر قوات الدعم السريع من ميليشيات الجنجويد التي استولى عليها نظام الرئيس السابق عمر البشير منذ عام 2003 لقمع جماعات قبلية في دارفور.

في البداية كان الروس – عن طريق قوات فاغنر والدولة – هم الداعمين. أما الآن، فالإمارات هي من تدعم قوات “الدعم السريع”، إِذْ تقوم العلاقة بين الطرفين أساساً على المصالح المالية، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على مناجم ذهب ضخمة، بينما تشكّل الإمارات مركزاً عالمياً لتجارة الذهب. وفقاً لشهادة المحللين المتخصصين في نزاعات القارة الإفريقية، تهبط الطائرات في مطار نيالا بجنوب دارفور محمّلة بالأسلحة القادمة من الإمارات، كما تصل شحنات جزئياً عبر مطار أم جرس في تشاد. كما إنَّ كثيراً من هذه الطائرات مرتبطة بعمليات تهريب السلاح، فالأمر ليس أكثر من علاقة مالية. المليشيا تسيطر على مناطق الذهب، والإمارات هي السوق.

فقد تبنى الرئيس الإماراتي محمد بن زايد نهجاً أكثر هجومية وقسرية، حيث ربط استثماراته بتوافق رؤساء الدول الإفريقية مع مصالحه، وكثيراً ما فضل دعم المؤسسة العسكرية المعادية للإسلاميين، فمثلاً: في ليبيا دعم الجنرال خليفة حفتر حتى حدوث انقلاب في الوضع في سنة 2019، في مصر وموريتانيا وتشاد وخاصة في السودان.

وهكذا؛ وعلى مدى أكثر من عقدٍ من الزمن، دعم محمد بن زايد وشقيقه منصور بن زايد، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بكل قوةٍ محمد حمدان دقلو، الملقب بـ “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، المنظمة شبه العسكرية، التي تخوض حرباً منذ نيسان/ أبريل 2023 ضد القوات المسلحة السودانية، الجيش النظامي التابع لعبد الفتاح البرهان.

وفي سنة 2019، قام الشيخ طحنون، مستشار الأمن القومي الإماراتي، شقيق محمد بن زايد والذي يعتبر “سيد الأعمال” في إفريقيا، بتوفير طائرة خاصة من شركته “رويال جيت” للجنرال حميدتي حتى يتمكن من السفر في القارة وإضفاء الشرعية على معارضته للبرهان.

ومع ذلك، فإنَّ قوات الدعم السريع مسؤولة عن العديد من المذابح وغيرها من الفظائع في السودان ودارفور، وعن نزوح 3.5 مليون شخص؛ كما أنَّ أكثر من 400 ألف منهم فرُّوا إلى تشاد. وتحت غطاء مهماتٍ إنسانيةٍ، بحسب تقرير للأمم المتحدة، سلمت الإمارات أسلحة لقوات الدعم السريع، عبر مطار أمدجراس، وهي بلدة في تشاد قريبة من الحدود السودانية، ما سمح لهم بمواجهة طيران القوات المسلحة السودانية.

أما حميدتي، فقد أصبح أغنى رجل في السودان من خلال تزويدِ الإماراتِ بآلافِ المرتزقةِ في حربها في اليمن، ثم للمشير حفتر في ليبيا. وتسيطر عائلته، عشيرة دقلو، على مناطق تعدين الذهب في دارفور.

ويتم بيع غالبية هذا الذهب بشكلٍ غير مشروعٍ لمصافي التكرير في دبي، حيث يقيم شقيق حميدتي الأصغر، المسؤول عن إدارة ثروة العائلة. ومع ذلك، تنفي الإمارات أي تدخلٍ، وبحسب الخبير الدولي كاميرون هدسون، فإنَّهم “يفعلون ذلك من خلال إنفاق الكثير من الأموال على جماعاتِ الضغطِ والعلاقاتِ العامة والبرامجِ الخيريةِ، خصوصاً في السودان ودارفور لتنظيف صورتهم”.

من جهته، قدّم قائد استخبارات في “القوات المشتركة” (وهي مجموعة من مقاتلي الحركات المتمردة السابقة الذين سلّحهم الجيش لقتال الدعم السريع) معلومات إضافية عن مسارات التهريب. وأكد أنَّ السلاح يعبر من مدينة أبشي التشادية مروراً بمعبر أدري وصولاً إلى غرب دارفور، حيث استولت قوات الدعم السريع على الجنينة بعد مجازر دامية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. كما أشار إلى أن الدعم يصل أيضاً عبر مطار أم جرس شمال تشاد نحو قاعدة الإمداد الرئيسية للدعم السريع في بلدة زوروق، وأن رحلات جوية متكررة من الإمارات إلى المطار وثّقت بشكل مستقل.

وبحسب معلومات استخباراتية محلية، فإن القوات تستخدم هذه الشحنات لتعزيز حصارها على مدينة الفاشر، إذْ يُعَدُّ الفاشر آخر مدينة رئيسية تحت سيطرة الجيش في دارفور، ويعيش نحو مليون شخص في الفاشر تحت حصار خانق منذ 16 شهرا، بسبب حصار قوات الدعم السريع الذي أدَّى إلى انتشار المجاعة وقطع المساعدات الإنسانية، وترافق مع قصف يومي بالطائرات المسيّرة والمدفعية، بينما أقامت قوات الدعم السريع سواتر ترابية لعزل المدينة بالكامل، وفق صور أقمار صناعية نشرها معمل ييل للأبحاث الإنسانية.

ووثّق باحثون ما لا يقل عن 86 رحلة جوية من الإمارات إلى مطار أم جرس بحلول كانون الأول/ ديسمبر 2024. كما وجّهت السلطات السودانية في رسالة لمجلس الأمن بتاريخ 4 أيلول/ سبتمبر 2025 اتهامات بوجود 248 رحلة إضافية بين تشرين ثاني/ نوفمبر 2024 وشباط/ فبراير 2025 بطائرات استأجرتها الإمارات، لنقل مرتزقة وأسلحة ومعدات عسكرية إلى السودان. وفي تقرير نشرته صحيفة الغارديان في نيسان/ أبريل 2025، جرى تسريب وثيقة من الأمم المتحدة كشفت نمطاً متكرراً من رحلات شحن جوي بطائرات “إليوشن” تنطلق من الإمارات إلى تشاد، كثير منها حاول التملص من الرقابة الجوية. وأشارت الوثيقة إلى احتمال وجود ثلاثة مسارات برية لتهريب السلاح نحو السودان، لكن لجنة الخبراء الأممية لم تجد أدلة قاطعة على طبيعة الشحنات، ولم تُدرج هذه النتائج في تقريرها النهائي.

استعادة الجيش السوداني العاصمة

بالمقابل، أعلن الجيش السوداني سيطرته على مواقع دفاعية متقدمة تابعة لـ “قوات الدعم السريع” في مدينة الفاشر مركز ولاية شمال دارفور غرب البلاد، فيما لم يصدر تعليق عن القوات التي يقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي”.

وقال الجيش في بيان الثلاثاء 13 تشرين الأول/أكتوبر2025، إنَّ قواته “نفذت عمليات خاصة اليوم تمكنت خلالها من تطهير بعض المواقع الدفاعية المتقدمة” من “قوات الدعم السريع” بالفاشر، بعد أن “كبدتها خسائر في العتاد والأرواح”. وعاد أكثر من 800 ألف شخص إلى الخرطوم منذ أن استعاد الجيش لعاصمة. وأطلقت الحكومة برنامجاً ضخماً لإعادة الإعمار، وتنوي نقل مقرّها إلى العاصمة من بورتسودان التي استقرّت فيها بشكل موقت بسبب الحرب. بيد أن الحرب دمّرت مساحات شاسعة من الخرطوم ما زالت محرومة من الخدمات الأساسية، ويعاني ملايين من انقطاع الكهرباء المتكرّر

ومنذ اندلاع الحرب في السودان في إبريل/نيسان 2023، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تشهد الفاشر تصعيداً مستمراً في القتال، إذ تسعى قوات الدعم السريع إلى السيطرة على المدينة لترسيخ قبضتها على الإقليم الغني بالموارد. ووُجّهت إليها اتهامات بارتكاب أعمال إبادة جماعية جديدة بحق سكان دارفور.

ومنذ أكثر من سنتين، فَرَّ أكثر من 600 ألف شخص من الفاشر والمخيمات المحيطة بها، وفق تقديرات الأمم المتحدة، فيما يواجه من تبقّى خطر المجاعة الحقيقية. وتشير المنظمة الدولية إلى أنَّ نصف سكان السودان – نحو 25 مليون شخص – يعانون من الجوع، في ما يُعدّ إحدى أسوأ أزمات الجوع في التاريخ الحديث. الأسواق والمتاجر في الفاشر فارغة. المواد الغذائية نادرة وباهظة الثمن، ما يدفع السكان، ومن بينهم الصحافيون، إلى البحث عن أي وسيلة للبقاء.

ومنذ أغسطس/ آب 2025، تكثّف قوات الدعم السريع قصفها المدفعي وضرباتها الجوية بواسطة المسيّرات على الفاشر، وتمكّنت من السيطرة على أجزاء منها، بينما يواصل الجيش الدفاع عن مواقع محدودة داخل المدينة. وتُظهر صور الأقمار الاصطناعية التي حللها مختبر البحوث الإنسانية في جامعة ييل الأمريكية أن قوات الدعم السريع أنشأت سواتر ترابية تمتدّ لنحو 68 كيلومتراً حول المدينة، تاركة ممراً وحيداً بطول أربعة كيلومترات تقريباً للخروج من الفاشر، يتعرّض فيه المدنيون للابتزاز مقابل السماح لهم بالعبور.

وتُحذر الأمم المتحدة من أن الأوضاع في الفاشر باتت تُنذر بكارثة إنسانية كبرى، مع اقتراب عدد المحاصرين من نصف مليون شخص يعيشون بلا غذاء أو مياه شرب نظيفة. وقال مارتن غريفيث، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، إن السودان يواجه “أكبر أزمة نزوح في العالم حالياً، وأحد أسوأ سيناريوهات الجوع التي شهدناها منذ عقود”.

هل من نهاية لهذه الحرب القذرة؟

على الرغم من تزايدِ أعدادِ الضحايا من المدنيين يومياً خصوصاً في إقليمَي دارفور غرباً وكردفان جنوب وسط السودان، ومواجهةِ طرفي هذه الحرب الطاحنة بين الجيش وقوات الدعم السريع، اتهاماتٍ بالمتاجرة بدماء السودانيين والاستمرار في القتال إلى جانب رفض التفاوض ووضع حدٍّ لمعاناة الناس التي قاربت ثلاثة أعوام، وخضوعِ البرهان وحميدتي لعقوبات فرضتها الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 2025، على خلفية الحرب، فإِنَّ الأطراف الدولية والإقليمية العديدة بينها الولايات المتحدة والسعودية ومنظمة إيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية، وهي منظمة إقليمية في أفريقيا) واللجنة الرباعية (المكونة من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر)، لم تنجح في  إعادة الطرفَين لطاولة المفاوضات . ولم يتعرضْ طرفَا الحرب الأهلية حتى اليوم لضغوطٍ حقيقيةٍ تجبرهما على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ويعود السبب في ذلك إلى علاقة كل منهما بأطراف دولية وإقليمية تدعم موقفه وتتيح لهما المراوغة والمزايدة في وقت يدفع الشعب السوداني وحده ثمن صراع كل منهما على السلطة.

 ويتوقع المحللون والخبراء أن تتزايد الضغوط الدولية وتتوجه الأنظار نحو السودان عقب توقف الحرب في غزَّة، وإجبار الطرفين على القبول بخريطة الطريق التي أعلنتها اللجنة الرباعية أخيراً. وكانت اللجنة الرباعية، طرحت في 12 سبتمبر/أيلول 2025 خريطة طريق لتسوية الأزمة في السودان، ودعتْ إلى هدنةٍ إنسانيةٍ لمدة ثلاثة أشهر، تعقبها عملية انتقالية شاملة في البلاد تُختتم خلال تسعة أشهر، كما شددت على أنه لا يوجد حل عسكري قابل للتطبيق للصراع، محذرة من أن الوضع الراهن يخلق معاناة غير مقبولة ومخاطر على السلام والأمن.

خاتمة

في السودان، الذي يشهد صراعاً أهلياً دامياً على السلطة، كلا الطرفين ارتكبا مجازر بحقِّ المدنيين بوصفهم الضحايا الحقيقين، إِذْ أصبحتْ هذه الانتهاكاتِ وسيلةً للمزايدة ولتصفية الحسابات، وبالتالي تطورتْ إلى جريمةٍ مستمرةٍ بحق الدولة والمجتمع.

يحتاج السودان إلى اجتراحِ عمليةٍ سياسيةٍ وطنيةٍ تُنهي الحرب لصالح دولة المؤسسات، لا لصالح أي طرف مسلح، وليس المطلوب أن ينتصر طرف على آخر، بل أن تنتصر الدولة السودانية على منطق المليشيا والحرب. فما من بلدٍ عربيٍّ حكمهُ العسكر إلاَ وَخُرِّبَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *