ماذا عن الدعوة إلى الحوار الوطني في سوريا؟
بقلم توفيق المديني
مع انهيار الدولة البوليسية التسلطية السورية، وانتصار تنظيم هيئة تحرير الشام ونجاحها في إسقاط نظام الأسد، والوصول إلى القوة أو السلطة، على الأقل راهناً، برزت قيادة سياسية جديدة في سوريا بزعامة أحمد الشرع (أبي محمد الجولاني سابقاً)..
هذه القيادة الجديدة تعمل على طيّ صفحة الماضي، وقيادة المفاوضات مع باقي الفصائل المسلحة الحليفة لهيئة تحرير الشام بهدف الوصول إلى تفاهمات مشتركة يمكن أن تؤدي إلى اندماج الفصائل المسلحة بالجيش السوري، ومن ثم سيكون الانتقال لمرحلة جديدة، قوامها اعتماد خيار إعادة بناء الدولة الوطنية السورية، من خلال التأكيد على أنّ سوريا بصدد مشروع للتسوية السياسية، والتي يمكن تعريفها، بأنها المرحلة التي يتم فيها التوافق على الحوار الوطني الشامل في العاصمة السورية دمشق.
الفصائل المسلحة بقيادة أحمد الشرع الملقب بالجولاني
تشكلت إدارة العمليات العسكرية من عدة تنظيمات سوريا مسلحة، من أبرزها هيئة تحرير الشام، وتعد من أقوى الفصائل المسلحة، التي أُعلن عن إنشائها عام 2017 بعد طلاقها مع تنظيم القاعدة، وضمت في صفوفها مجموعة من الفصائل المسلحة، منها “جبهة فتح الشام”، و”لواء الحق”، و”جبهة أنصار الدين”، و”جيش السنة”.
أما ثاني الفصائل التي انضمت لإدارة العمليات العسكرية فهي الجبهة الوطنية للتحرير، وتضم مجموعات وفصائل من الجيش الحر. وشارك في عملية “ردع العدوان” جيش العزة، وحركة أحرار الشام، وصقور الشام، وكتائب نور الدين زنكي، والجيش الوطني السوري، وهو تحالف لمجموعة من الفصائل المسلحة.
إضافة إلى تلك الفصائل والتنظيمات التي شاركت في إسقاط نظام الأسد، يتواجد على الساحة السورية تنظيمات وحركات مسلحة عديدة.. ففي جنوب سوريا تتواجد فصائل ومجموعات مسلحة، شاركت في عملية ردع العدوان في إطار ما يعرف بـ “غرفة عمليات الجنوب”، وهي أول فصائل المعارضة التي دخلت إلى العاصمة دمشق، وفي شمال شرق سوريا تتواجد “قوات سوريا الديمقراطية.. قسد” التي يقودها الانفصاليون الأكراد، وتصنفها تركيا إرهابية.
المعارضة السياسية
وينضوي تحت مسمى المعارضة السورية بشقها السياسي، هيئات وأطر سياسية تشكلت في الخارج بعد 2011، منها “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، الذي تأسس عام 2012، ويضم في صفوفه قوى واتجاهات سوريا معارضة. وما زال الائتلاف قائماً في إسطنبول ويرأسه هادي البحرة، وتأسست كذلك “الهيئة العليا للمفاوضات” عام 2015، وعرفت نفسها بأنها “كيان وظيفي مهمته التفاوض مع النظام السوري ضمن مسارات ترعاها الأمم المتحدة”، ويرأس الهيئة الدكتور بدر جاموس.
الدعوة لحضور المؤتمر الوطني
تعتزم الإدارة السورية الجديدة في دمشق الدعوة إلى عقد المؤتمر الوطني في الخامس من يناير/كانون الثاني2025، وحسب تصريح المنسق للمؤتمر الوطني المرتقب الدكتور مؤيد قبلاوي لصحيفة العربي الجديد بتاريخ 30ديسمبر 2024، قال هذا الأخير أنَّ اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني ستُعلن قريباً، وذلك استعداداً لهذه الفعالية المهمة التي من المقرر عقدها في الرابع والخامس من الشهر الأول من العام الجديد.
وبحسب قبلاوي، فإنَّ المؤتمر الوطني سيجمع حوالي 1200 شخصية سوريا، وذلك من داخل البلاد وخارجها، مع التركيز على دعوة الأفراد، وليس الكيانات أو الأحزاب السياسية، ليضم أوسع شريحة ممكنة. ويتوقع أن يتم تمثيل كافة الشرائح السورية في هذا الحدث، إذ ستُدعى بين 70 إلى 100 شخصية من كل محافظة للمشاركة.
كذلك أشار قبلاوي إلى أنه من ضمن القرارات المهمة التي ستتم مناقشتها خلال المؤتمر حل مجلس الشعب وهيئة تحرير الشام والفصائل العسكرية السورية، وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد من خلال المؤتمر، في إشارة إلى كونها خطوة جوهرية لإعادة هيكلة النظام السياسي في البلاد.
وسيشهد المؤتمر تشكيل هيئة استشارية للرئيس المؤقت، تضم مستشارين من كافة الأطياف السورية وذلك بناءً على الكفاءة، مع إمكانية تشكيل حكومة جديدة خلال شهر عقب انعقاد المؤتمر. وسيمثل الشعب السوري خلال المؤتمر فئات من الشباب والنساء ورجال الدين، إلى جانب ممثلين عن المجتمع المدني، في إطار السعي لتحقيق معالجة شاملة للقضايا الوطنية. ويعتبر انعقاد المؤتمر خطوة في مسار التسوية السياسية ضمن سوريا، لتحقيق الاستقرار عقب سقوط نظام بشار الأسد.
شروط الحوار الوطني
لا تستقيم الدعوة إلى الحوار الوطني في سوريا من قبل القيادة السياسة الجديدة في دمشق، إلا إذا عادت الحياة السياسية السليمة وأصبحت السياسة من إنتاج المجتمع السوري في كنف من الحرِّية، والتي تحتاج إلى تعددية سياسية، أي إلى أحزاب سياسية متنوعة ومتنافسة ومتنازعة ولكنَّها متكاملة، بمعنى أنَّ تنافسها / تنازعها يحقق طبيعة الديمقراطية ذاتها، إذ لا ديمقراطية حيث لا حياة سياسية. ذلك أن مشاركة الطبقات والفئات الاجتماعية في السياسة، وممارسة مختلف أشكال النشاط السياسي، تتطلب درجة عالية من المؤسساتية الفاعلة بوصفها قنوات يتم التعبير من خلالها عن هذه المشاركة السياسية.
كما يستلزم نجاح الدعوة إلى الحوار الوطني في سوريا مجموعة شروط على المستوى الداخلي، هي:
حدوث توافق بين القوى الداخلية حول مبدأ الحوار الوطني ذاته، وكذلك متطلباته، وكيفية تحقيقه، والاستعداد لتحمل تكلفته، ولن يتأتى ذلك إلا بعد إنهاء الصراع الداخلي على المستويين الفعلي والنفسي، أو الإجماع على ضرورة إنهاءه، على أقل تقدير.
المعضلة تكمن هنا في عملية التزام الفصائل المسلحة، وفي طليعتها “هيئة تحرير الشام” بمنهجية جديدة ذات طابع سوري، أي الالتزام بخط أيديولوجي وسياسي جديد، مختلف تماماً عمّا هو مطروح في أدبيات الحركات العالمية كلّها (القاعدة وداعش). ففي مقابل الاتجاهين السابقين والانشقاق الأيديولوجي والتنظيمي عنهما، بدت الهيئة معجبةً ومؤيّدةً لنموذج مختلف تماماً، وهو نموذج طالبان في أفغانستان، التي أعلنت منذ عودتها إلى حكم أفغانستان، استقلاليتها عن القاعدة والجهادية العالمية، بل قامت “طالبان الجديدة” بعملية استدارة كبيرة في علاقتها بالعالم، من خلال اتفاقها مع الأمريكيين (في مفاوضات الدوحة، قبل وصولها إلى الحكم) عن عدم استخدام أراضيها ضدّ مصالح الولايات المتحدة والغرب، وهو الالتزام الواضح أنّ الحركة ملتزمة تماماً به.
إذا أرادت هيئة تحرير الشام أن تكون مُكَوِّناً أَسَاسِياً من مُكَوِّنَاتِ المجتمع المدني الحديث، وتساهم من منطلق الإحساس بالمسؤولية الوطنية للخروج من الأزمة السياسية التي تعاني منها سوريا في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، فعليها، أن تقبل بتشكيل حكومة كفاءات وطنية غير متحزبة. كما أنها مطالبة أيضاً، بما يلي:
أولاً: أن تجسد قطيعة منهجية سياسية وأيديولوجية مع الجماعات السلفية الجهادية، ومع الميليشيات المرتبطة بها، باعتبارها جماعات تمارس العنف السياسي ضد المجتمع، وتشكل خطراً حقيقياً على الديمقراطية.. فالمشروعية السياسية المطلوبة يجب أن تقوم على فلسفة التوافق بين جميع مكونات المجتمع السوري. وعلى الحكومة التوافقية أن تعمل من أجل بناء أجهزة أمنية جمهورية، لا حزبية خاضعة لمصالح الفصائل الجهادية ومخططاتها الأمنية المتناقضة مع المجتمع الذي يرفض الاغتيالات السياسية وكلّ ما له علاقة بالعنف من قريب أو بعيد.
ثانياً: الشّروع في توسيع نطاق المشاركة السّياسيّة إلى أبعد حدّ من الآن في هذه المرحلة الانتقالية لجهة تشكيل حكومة كفاءات وطنية غير متحزبة، تنجز الدستور الديمقراطي، وتحدد موعداً صريحاً ونهائياً للانتخابات المقبلة، وتعمل على إقامة المؤسّسات الدّيموقراطيّة الجديدة الّتي يطمح إليها الشّعب السوري التي قامت الثّورة من أجلها.
ثالثاً: العمل على تحييد الوزارات السيادية جميعها، الداخلية والخارجية، والعدل، واتّخاذ التّدابير السّياسيّة والعمليّة اللازمة في نطاق سنِّ قانون مؤقت للنظام الوقتي لضمان الاستقرار اللازم واستقلال السّلطة القضائيّة استقلالاً تاماً.
رابعاً: أن تحدِّدَ الفصائل الجهادية مواقفها بشكل واضح وصريح من طبيعة الدولة المدنية الحديثة، باعتبارها أهم هدف تسعى الثورة السورية لتحقيقه، إذ برزت تساؤلات في المعارضة الوطنية والديمقراطية السورية، وفي أوساط المجتمع المدني السوري، عن أنموذج الحكم الذي سيطبّقه الإسلاميون بين مقتضيات الدولة الحديثة وشعاراتهم الانتخابية المعروفة، بدءاً من تطبيق الشريعة ومروراً بأسلمة الدولة وانتهاءً بالعودة إلى فكرة الخلافة. ففي سوريا اليوم يحاول العلمانيون والإسلاميون اختبار طريقة للتعايش معاً، كما يحاولون إقامة نوع من الديمقراطية التي تتلاءم مع الإسلام الليبرالي، غير أنَّ الجماعات السلفية تريد إقامة دولة إسلامية، ولو تطلب الأمر التدرج، بينما يريد مختلف أطياف المعارضة بناء دولة ديمقراطية تعددية على الطراز الغربي، والانقسام بينهما كبير وعميق.
معايير نجاح الحوار الوطني في سوريا
لن يكتب للحوار الوطني النجاح إلا إذا توصلت الأحزاب السياسية المشاركة فيه إلى الاتفاق على معايير محددة، أهمها:
أولاً: أن يكون الحوار سوريّاً سوريّاً، ومن دون إقصاء أي طرف سياسي، ومن دون تدخلات خارجية إقليمية ودولية.
ثانياً: أن تكون جميع مكونات المجتمع السوري الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية ممثلة في هذا الحوار الوطني بما يعكس حجمها الحقيقي المجتمعي، فضلاً عن تمثيل كافة المناطق السورية بما يضمن عدالة التوزيع الجغرافي، والتنوع الاجتماعي بتمثيل الفئات الاجتماعية المختلفة (شباب، نساء، مهنيون، نقابات، مجتمع مدني).
ثالثاً: توافر الكفاءة والخبرة في التكوين الأكاديمي والمهني، وفي مجال الحوار السياسي.
رابعاً: التمتع بالاستقلالية المالية، وعدم الارتباط بأجندات قوى أجنبية، وعدم التورط في جرائم ضد الشعب السوري، وبالنزاهة الشخصية وخلو السجل من أي انتهاكات لحقوق الإنسان، أو جرائم حرب.
خاتمة: نحو خريطة الطريق
إن الحوار الوطني بحاجة إلى بلورة خريطة طريق تعكس التوافق على أهم القضايا الأساسية التي يريدها الشعب السوري:
أولاً: مراعاة المصلحة الوطنية العليا، ومحدداتها الأساسية تكمن في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وصيانة السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، ورفض كل أشكال الهيمنة الغربية، ومواجهة الاعتداءات الصهيونية، والعمل على تحرير الأراضي السورية المحتلة، لا سيما في هضبة الجولان، وتعزيز التماسك المجتمعي بين كافة المكونات، وحماية الهوية الوطنية السورية وتنوعها الثقافي.
ثانياً: تحديد معنى المعارضة، تتحدد المعارضة بالسلطة نفسها، وتحمل أهم خصائصها، وإلا لما جاز أن تكون سلطة بالقوة. ويؤكد لنا التاريخ السياسي الحديث في العالم العربي أمثلة عديدة على إنتاج السلطات الاستبدادية الحاكمة معارضات من نوعها، أو على صورتها وشاكلتها. ولكن بم تتحدد السلطة؟ لكي نفهم المعارضة يجب أن نفهم السلطة. إن فهمنا السلطة هو الذي يزيح اللثام عن وجه المعارضة القائمة في أي بلد عربي.
ثالثاً: بما تتحدد السلطة؟ تتحدد السلطة السياسية سلباً وإيجاباً بثلاثة عناصر أساسية:
1- بمستوى تقدم المجتمع أو تأخره، أي بمستوى نمو المجتمع المدني أو ضموره.
2- وتتحدد بالنظام الدولي الجديد، ولا سيما في عصرنا، حيث لا سلطة خارج هذا النظام.
3- وبنسبة القوى الاجتماعية السياسية.
هذه العناصر التي تحدد السلطة هي التي تحدد كذلك المعارضة، وبقدر ما تعي المعارضة هذه المحددات، ترتقي إلى مستوى معارضة حديثة وعقلانية، أي معارضة تضع برنامجها وتحدد مهماتها بدلالة المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، وليس بدلالة السلطة فحسب.
رابعاً: الإصلاح السياسي والدستوري عبر صياغة دستور ديمقراطي للجمهورية السورية الثانية على أساس مدنية الدولة والسيادة الوطنية وكونية حقوق الإنسان، والعمل على إعادة البناء الاقتصادي والتنموي، بوضع خطط إعادة الإعمار، وتحقيق التنمية المتوازنة، ومعالجة قضايا المُلكية والتعويضات، وتطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمساواة الفعلية بين النساء والرجال.
خامساً: رسم خطة لإنهاء المرحلة الانتقالية وضبط مقتضيات إدارتها سياسياً واجتماعياً وذلك بتحديد رزنامة المواعيد الانتخابية بصفة مدقّقة وتهيئة شروط قيامها، وسن قانون انتخابي جديد توافقي، وتوفير مناخ سليم يضمن شفافية ونزاهة هذه الانتخابات، والإسراع في وضع آليات العدالة الانتقالية بتأسيس آليات للعدالة الانتقالية، ومعالجة ملف المعتقلين والمفقودين، وجبر الضرر وإنصاف الضحايا، وتعزيز المصالحة المجتمعية.
سادساً: تركيز الهيئات العليا المستقلة للقضاء والإعلام والانتخابات، وضمان حياد الإدارة ودور العبادة عن التسييس والنأي بها عن التجاذبات السياسية التي من شأنها زرع الفرقة والتباغض بين المواطنين، وصيانة المكاسب الحضارية للشعب السوري والمتمثلة بالخصوص في وحدة المنظومة التعليمية، والمطالبة بضرورة اتخاذ الإجراءات العاجلة للحد من ارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية والقطع مع منوال التنمية الذي عمّق أزمة البطالة ووسّع دائرة تهميش الجهات الداخلية.
