إقليميات

سوريا بين النموذج التركي والدولة المدنية

بقلم توفيق المديني

لا يزال مفهوم الدولة المدنية حديث الاستعمال في الخطاب الفكري والسياسي العربي، فمفهوم الدولة المدنية طُرِحَ في سياق ما بات يُعْرَفُ بربيع الثورات العربية. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أنَّ مفهوم الدولة المدنية غير متداول في الأدبيات الغربية وليس له وجود في المعاجم والقواميس السياسية في الغرب، لذلك فإنَّ هذا المفهوم له مضامينه الخاصة في العالم العربي حيث طُرِحَ للتعبير عن تجربة خاصة بهذه المجتمعات العربية.

هل يحاكي أحمد الشرع النموذج التركي؟

إذا عرفتْ الفصائل الجهادية السورية بدعم من القوى الإقليمية والدولية كيف تسقط الدولة الأمنية التسلطية السورية، حيث آلتْ السلطة في دمشق  لهيئة تحرير الشام بزعامة  أحمد الشرع الملقب بـ “الجولاني”، فأيّ نموذج ستعتمده القيادة الجديدة لبناء دولة حديثة، وديمقراطية وقوية وفاعلة في محيطها الإقليمي، على أسس مغايرة لتلك التي كانت سائدة لعقود في المجتمع السوري، لا سيما أنَّ سوريا بحكم موقعها محكومة بالجغرافيا السياسية، أي أنَّ كل القوى الإقليمية والدولية معنية بما يجري فيها، وتتدخل بأجندات متعارضة ومتناقضة ليكون القرار السوري في النهاية لمصلحة تحالفاتها؟ وهذا هو التحدي الكبير أمام الشعب السوري في مواجهة العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية اللذين يستهدفان تقسيم سوريا على أسس طائفية ومذهبية وعرقية.

يعتقد المحللون والخبراء المتابعون لقوس الأزمات في الشرق الأوسط، أنَّه مع انهيار الدولة الأمنية الشمولية في سوريا، وعجز النسق السياسي الوليد في سوريا عن بناء قراراته السيادية الوطنية الخادمة للشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته، سيجعل الدولة السورية الضعيفة والهشة تسقط في اقتتال داخلي، أو ترتهن لنظام عسكري مستبد، أو تكون تحت وصاية كيان قوة إقليمية أو دولية، ولكن من دون أن يعرف أحد ماهية الدولة الجديدة التي ستولد. فهل يقتدي إسلاميو سوريا بالتجربة التركية الجديدة التي يقودها أردوغان “موديل 2011″، أم يختارون أردوغان “موديل1994” الذي كان ينبذ فيها العلمانية ويتوعدها بالويل والثبور، وكان يعارض العلمانية بالإسلام، والعلم بالدين، والحداثة بالأصالة، والمستقبل بالماضي، والديمقراطية بالشورى؟.

لقد حولت المؤسسة العسكرية التركية التي سيطرت على مقاليد السلطة لمرحلة تاريخية كبيرة، ورسمت السياسات الإقليمية لتركيا في اتجاه الارتباط بالغرب الأوروبي والأمريكي على مستوى السياسات الإقليمية والدولية، العلمانية إلى أداة لنفي الدين ومحاربته، بدلاً من الاكتفاء بالفصل بين المجالين الديني السياسي كما هو الحال في النظم الديموقراطية الغربية. بينما تعتبر العلمانية المنفتحة الحل الحقيقي لمسألة الأقليات في بلد مثل تركيا متعدد الأعراق، والمدخل الحقيقي للمواطنة وبناء الدولة – الأمة، الدولة الحديثة الديمقراطية، دولة الحق والقانون التي يستقل فيها الدين عن الدولة والدولة عن الدين.

ومع ذلك، فإنَّ تركيا الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي تبنتْ الحداثة الغربية بكل منطوياتها الإيديولوجية والثقافية، وأسستْ نظاماً سياسياً ديمقراطياً وفعّالاً، تعيش الآن في ظل حكم حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي المعتدل، الذي يرفض تجسيد القطيعة مع العلمانية الأتاتوركية، بل إنَّه يدافع عنها، ويقيم توازنات ناجعة بين المصالح والإيديولوجيا، وبين الإسلام والعلمانية، وبين الانفتاح على الغرب وعلى الشرق العربي والإسلامي، وبين الهوية الفردية والجماعية، والقومية وحكم القانون… إلخ. والحال أنَّ أياً من دول المنطقة، من المغرب إلى باكستان، لم ينجح مثلها على هذا النحو. فهل تستطيع تركيا قيادة المنطقة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، و بالتالي  تقديم النموذج في بيئة إقليمية تفتقر إلى مثل هذا النموذج.؟

تركيا القوة الإقليمية الصاعدة في الشرق الأوسط في عهد رجل الدولة القوي رجب طيب أردوغان لديها طموحات جديدة جيوسياسية تصبو إلى تحقيقها، انطلاقاً من النموذج الذي تقدمه.

ليس من شك أنَّ الهدف الرئيس للمشروع السياسي الإقليمي التركي هو قيادة دول المنطقة في ظل مشروع شرق أوسط كبير تقوده “إسرائيل”، باعتبار تركيا أبرز وكلائه، لتقديم نموذج مجتمعي حديث يوفق بين الحداثة الغربية والموروث الثقافي والديني لشعوب العالم العربي والإسلامي، وبين الإسلام والديمقراطية.

لقد أصبحت التيارات والأحزاب الإسلامية في العديد من البلدان العربية  تعتبر تجربة “حزب العدالة والتنمية ” في تركيا نموذجاً يحتذى به، ولا سيما أحزاب الإخوان المسلمين التي وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات في كل من تونس والمغرب، ومصر، وأصبحت تنادي ببناء الدولة المدنية، وتبنتْ الخطاب الإيديولوجي و السياسي ل”حزب العدالة والتنمية” عينه، وتقول إنَّها تريد أنْ تَحْذُوَ حِذْوَ “حزب العدالة والتنمية ” التركي، وأنَّ تجربة هذا الأخير تُظْهِرُ أنَّ دعمهم للديمقراطية على الطريقة الغربية حقيقيٌّ.

يطرح البعد العلماني من النموذج التركي معضلات كثيرة على هيئة تحرير الشام بزعامة أحمد الشرع، بحيث عليها أن تجد الجواب المقنع ما إذا كانت تؤمن بهذا الجانب العلماني من النموذج أم لا. وبالتالي ما إذا كانت بالفعل حركة لها صفة “الجهادية” أم أنها في طور التحول لتكون نموذجاً يحاكي النموذج التركي بالتفاصيل التي عرضنا، وبالتالي تعمل على بناء الدولة الديمقراطية التعددية في سوريا، التي لا تزال تشكل العلمانية ركنا أساسياً من أركانها.

تبقى أنَّ العلمانية مفهومة فهماً جدلياً صحيحاً هي المدخل الضروري تاريخياً لارتقاء سديم بشري من مستوى الانتماءات ما قبل القومية: العائلية، والعشائرية، والمذهبية، والدينية، والأقوامية إلى مستوى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في ظل سيادة الشعب، وسيادة القانون. والعلمانية بهذا الفهم، هي المدخل الحقيقي إلى بناء المواطنية الحقة، وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة التعددية، دولة الحق والقانون التي يستقل فيها الدين عن الدولة والدولة عن الدين.

في مضمون الدولة المدنية

تطرح الدولة المدنية كبديل من الدولة الدينية التي أثبتت فشلها في جميع التجارب المحيطة بنا. وهذا ما تم نقاشه خلال الإعداد لوثيقة الأزهر كما ينقل جابر عصفور، حيث تم الإتيان على ذكر الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة من دون اعتراض في البداية، ثم اكتشف البعض أن الإبقاء على صفة المدنية يحمل معاني سلبية واستشهد البعض بأن لا وجود لما يسمى الدولة المدنية في معاجم النظريات السياسية الغربية على الرغم من وجود ما يسمى مجتمع مدني. ورأى البعض الآخر أنَّ مفهوم الدولة المدنية غامض. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مفهوم الدولة المدنية نشأ في بلدان الربيع العربي كي لا يتم الخلط بين الدولة العلمانية الفرنسية المعادية للدين فيما الدولة في البلدان الاخرى وخاصة الانكلوسكسونية تستخدم مفهوم Secular State ويفهم منه الدولة المدنية كنقيض للدولة الدينية وليس كمعادية للدين كما يبدو عليه الأمر في فرنسا. انتهى الامر بالنقاشات في الأزهر إلى اعتماد كلمة الوطنية في الوثيقة المعلنة لتصبح دولة وطنية ديموقراطية حديثة دون أن تكون معادية للأديان.

يعرف مفهوم الدولة المدنية، المتداول حديثاً، بالدولة الديموقراطية التي تحافظ وتحمي جميع أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والعرق والدين والمعتقد. هناك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي لا يمكن ان تتحقق بغياب أحد الشروط عنها، أهمها:

أولاً – الدولة المدنية هي الدولة التي تؤمن حرية المعتقد والمساواة والمواطنة، فالفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بماله أو بسلطته، ولكن يُعرّف تعريفا قانونيا بأنَّه مواطن، أي أنَّه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.

ثانياً – الدولة المدنية يجب أن تقوم على دستور ومنظومة من القواعد التشريعية والتنفيذية، فالدستور يبلور جملة القيم والأسس التي ارتضاها أفراد المجتمع لبناء نظامه السياسي والاجتماعي.

ثالثاً – الدولة المدنية هي أيضا دولة مؤسسات، وتقوم هذه المؤسسات على مبدأ التخصص فهي تمارس أعمالها بشكل مستقل وفق ما يعرف بمبدأ فصل السلطات، بحيث تقوم كل سلطة بممارسة مهامها ضمن مجالها المحدد ولا تتجاوزه الا في حدود ما تقتضي ضرورات التعاون والتكامل بين هذه السلطات. إذ إن السلطة العليا في الدولة المدنية هي سلطة القانون الذي يلجأ إليه الأفراد من أجل حفظ حقوقهم من الانتقاص والانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع أي طرف من تطبيق أي شكل من أشكال العقاب بأنفسهم. النظام العام هو الذي يحمي المجتمع.

رابعاً – الشرط الأساس لقيام الدولة المدنية المطلوبة اعتماد الديموقراطية كنظام سياسي لها، وأهم شروط النظام الديموقراطي تقوم على فصل السلطات والانتقال السلمي للسلطة، والوصول الى الحكم من طريق انتخابات حرة ونزيهة.

خامساً – من المعالم الأساسية للدولة المدنية وجود مجتمع مدني فاعل ومؤسسات مدنية فاعلة للنهوض بمستوى الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع والمساعدة في فهم الواقع السياسي والاجتماعي فهماً صحيحاً والمشاركة في بناء مؤسسات ديموقراطية وممارسة الرقابة عليها من خلال التنظيمات المدنية المختلفة والوسائل الإعلامية والرقابية المتاحة.

الدولة المدنية هي استعادة حقيقية لبناء الدولة الوطنية والارتقاء بها إلى دولة ديمقراطية، أي إعادة إنتاج الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون المعبرة عن الكلية الاجتماعية والقائمة على مبدأ المواطنة. وتشكل سيادة الشعب، العامل الحاسم في سيرورة التحول الديمقراطي في نطاق الدولة الوطنية.

وتكمن المقدمة الأولى للدولة الوطنية وضمان تحولها إلى دولة ديمقراطية، في تحرر الأفراد من الروابط والعلاقات الطبيعية ما قبل الوطنية كالعشائرية، والعرقية، والمذهبية، والطائفية، واندماجهم في فضاء اجتماعي وثقافي وسياسي مشترك هو الفضاء الوطني.

فالدولة المدنية لا يمكن أن تكون إلا دولة ديمقراطية التي تقوم على ما يلي: احترام حقوق الإنسان أولاً، وحقوق المواطن ثانياً، وفكرة الأكثرية الانتخابية الحرة التشكيلية، ثالثاً، وضمان التداول السلمي للسلطة على جميع المستويات وفي كافة مؤسسات الدولة، رابعاً.

إنَّ الدولة المدنية ليست بدولة عسكرية، وليست أيضاً بدولة دينية، لكنَّها ليست بالضرورة أن تكون دولة علمانية بالمعنى الغربي للكلمة. فالدولة المدنية ترفض الدولة الدينية ” الثيوقراطية”، وتستبعد إسناد عملية الحكم إلى فئة من رجال الدين أو الفقهاء لأنَّ السياسة والإدارة والقانون والاقتصاد هي تخصصات يؤهل لها من يمارسها تأهيلاً خاصاً كما يؤهل رجل الدين أو الفقيه أو العالم بالقضايا الشرعية في المعاهد والكليات الشرعية ولا يمكن لأحد أن يحل محله في الإفتاء والاجتهاد في القضايا الشرعية وكما نعترف لرجل الدين بعلمه وكفاءته في الإفتاء في الأمور الدينية فيجب أن نقر لرجل الاقتصاد والقانون والإدارة والسياسة بخبرته وتأهيله للقيام بالعمل الحكومي وبالتالي فإن الدولة المدنية لا تقبل بأسناد عملية الحكم للفقهاء أو رجال الدين لمجرد أنهم علماء  بأمور الدين ويرتدون عباءة الفقيه.

فالدولة المدنية لا ترفض الدين ولا تعادي الدين ولكنها ترفض استغلال الدين لأغراض سياسية فهي ترفض إضفاء طابع القداسة على الأطروحات السياسية لأي من الفرقاء في العمل السياسي أو تنزيه أي رأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات عن النقد أو النصح والتوجيه. فالإسلام يفرق بين الوحي وبين الاجتهاد في فهم وتفسير الوحي فلا يعطي لهذه الاجتهادات لذاتها قداسة وإنما يقبلها بقدر ما تقدمه من حجج على صحة فهمها وتفسيرها للكتاب والسنة. ومن جانب آخر فإن الدولة المدنية ترفض نزع الإسلام من ميدانه الروحي ومن مجاله المقدس والزج به في المجال المدنس الذي هو مجال الصراعات والمؤامرات وألاعيب السياسية.

الدولة المدنية من هذا المنظور هي دعوة للانفتاح ودعوة لاستيعاب تراث فكر الحداثة الغربية، لا سيما في مجال قضية حقوق الإنسان، باعتبارها القضية المركزية في نسق الحداثة وفي منظومتها القيمية، وفي الثقافة الديمقراطية سواء بسواء. ولا يمكن فصل مقولة الحرِّية أو مشكلة الحرِّية، بتعبير الفلاسفة، عن قضية حقوق الإنسان وكرامته. ومن المهم أن نلاحظ أنَّ قضية الحرِّية كانت غائبة عن الثقافة العربية وعن الفكر السياسي خاصة، و لا تزال غائبة، ولذلك من السهل تذويب الفرد في العشيرة والطائفة والجماعة الإثتنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *