من الوجد يا صديقي.. “ما بيننا كلُّ الذي ما بيننا”
بقلم غسان عبد الله
عمّ أحدّث يا صديقْ؟.. عن طفلٍ يطوي عليهِ الحزنُ أذرعَه.. ويلهو باقتناصِ الفوز من أترابِه.. يرفو به دمعٌ يلازمُه.. ويفتح قلبه للأمنياتْ.. تغوي نقاوتُهُ والطُّهْرُ البريءُ الثعالبَ والنسورْ.. فتصيرَ للأحلامِ جدرانٌ..
ويغزو الخوفُ عالَمَهُ الصغيرْ.. ويُخيفُهُ العاشقُ الذي في جسمه ينمو، ولا ستر يواري وهَجَهُ الدفّاقَ عن نهم العيونْ.. للبرد حين يقضقض الأطرافَ، والأمطارُ تجتاح السقوفَ تصبُّ في طهرِ المكان، والريحُ كابوسُ الشتاءِ، تخلِّعُ الأبوابَ.. تستعدي شقوقاً لا تُرى في الصيفِ، تجعلُها مساربَ للصقيعِ.
يا صديقي.. وشمٌ على الجلدِ الطريِّ يشفُّ عن قلقِ الضلوعْ.. تتعانقُ الأرواحُ باحثةً عن الدفءِ الخجولِ، ينزُّ من شُحِ المساءْ، تتداخلُ الأشياءُ والألوانُ.. يُمسي الكونُ بحراً من عَماءْ، وتظلُّ تقطفُ من عيونِ المتْرفينَ زهورَ إعجابٍ تزيّنُ شرفةَ البيتِ الصديعْ.. عمرٌ تنقِّبُ فيه عن فرحٍ يرشُّ جفونَك.. حضنٍ يلملمُ حزنَكَ المنسابَ في صمتِ النجومِ، قصيٌّ رغمَ الحضورِ المستطيع.. زهرُ الصبا الفضّاحِ يجتاحُ الربوعَ، فأين تُخفي ما يرون ملامةً؟؟ تترصد الطرقاتُ خطوتَك.. فتهرب من مفاتنِ عمرِكَ نحو الكِبَرْ.. من أين يأتيكَ الخطرْ؟.. هي زهرةُ الصُّبارِ حارسُكَ القَدرْ، وقفتَ على نزرِ الكلام مخافةَ التطوافِ في واحات صبوتِك.. وأوغلَ في تمنُّعه الظَّفَر..
تتقوضُ الأحلامُ من هولِ الحريقِ يزلزلُ الأركان، يقصفُ ما تبقّى من جذوعِ السنديان.. للبابِ واجهة الدخول.. فكيف يمكنكَ الخروجُ إلى فضاءِ الليل.. تحملكَ النجوم إلى عوالمها الخفية.. وملاذًك يمضي به الزلزالُ نحو شواطئ التوَّهم القصية.. لا الريحُ تحملُ صوتكَ.. لا الشمسُ تغزلُ ظلَّك.. أو يستفيق بك الصباح.. هي نكسةٌ أخرى تضافُ إلى دفاترِ حزنك.. فيضوعُ عمرُ الزّهرِ بالآلامِ والقلقِ الوجيع.. همسٌ يحدّدُ خطوَك.. تصغي لأغنيةِ الحقولِ تفوحُ من بين الشتولِ الخضرِ والزيتونِ والوطنِ الشهيِّ.. وظلالُ آفاقٍ تلوِّح بالمنى.. لهبُ السنابلِ حين يُثقلها الجنى.. تشتاقُهُ وهج السنى.. وترومُ في غسقِ الدموعِ طلاقةَ الأزهارِ.. تنسجُ عطرَها من بين ذرّاتِ الترابْ.. جذرُ الحياةِ يمورُ في الأرض اليبابْ.
ها أنت يا صاحبي قد شربتَ كؤوسَ الريحِ مترعةً بوهمِ الانتظارْ.. وتفتّقتْ سُحُبُ النهار عن المدى.. فرأيتَ سفينتَك على الشطِّ البعيدِ تُغري شَغافَ القلبِ بالنبضِ الجديدِ..
أنت شجرةُ الحلمِ العصّيةُ مهرجانُ الريحِ يشعلك.. أتكسرُك الحدودْ؟؟ تنسابُ في لحم الترابِ جذورُكَ لتمدَّ قامتَكَ مع الفجرِ الوليدْ.. ولسوفَ أقتطعُ البنفسجَ من يديك، أشدّه بيديّ تنخلعانِ في الأسحارِ كقلبِ طريدةٍ قُتِلَتْ عَشيّ النوءِ من شوقٍ إليكْ.. ولسوفَ أقتطفُ الثريّا من فيافيها لأنثرَها كما لقطِ الحصى تسعى إليكْ.. وأشيدُ مرساةً لدى أنأى البحارِ وأمتطي برقاً يقرّبني، إذا احتلك النوى، دوماً إليكْ... ما بيننا مدنٌ تراودُنا ونسألُ قلبها الصخريّ عن قمرٍ معلقةٍ ذؤابَتُهُ على جدرانِنا، صلفٍ كأنّ الأرضَ ما منحتهُ ما تعطيهِ أمٌ للرضيعْ..!! ، خاوٍ كما كهفٍ زاحمتْ قيعانَهُ الغبراءَ غيلانُ مخاتلةٌ تصفِّقُ عند رملِ الشطِّ.. تُوِلمُ لابتلاعِ النهرِ يجري من عيونِ البحرِ، تدعو لاقتلاعِ العشبِ يشهقُ آنَ تلثُمُه مزاريبُ الربيعْ.
ما بيننا جُثَثُ أزهارٍ مقطّعةٍ وأقلامٌ مرصّعةٌ.. وأجنحةٌ مكسّرةٌ وأوردةٌ مبتّرَةٌ وتيجانٌ مزخرفةٌ وأشواقٌ مجفّفةٌ وبرقٌ لا يضيء مدىً يناغي القلبَ آناءَ الرجوعْ.. ما بيننا قمرٌ من الصخرِ المزخرفِ بالشموعِ وبالدموعْ.. ما بيننا قشٌّ تطاير في متاهاتِ القرى دخاناً وأجنحةً محطّمةً وريشاً سادراً فوق الطلولْ… ما بيننا خشبٌ على خشب يراودنا، وأمّ لا تجفّ دموعُها حتى المساءِ، وعشبةٌ نبتتْ على صخرِ الرجاءْ.. ما بيننا أفعى مرقّطة، سواقٍ غُوِّرتْ، ملحٌ يكبّلُ خطوةً رشفتْ بهاءَ الشيحِ والريحانِ والسَّدَر الظليلْ.. ووجوهُ غيلانٍ تعذّبُ بالسياطِ براءةً قُنِصَتْ.. كما فرخِ القطا صِيْدَ العشيّةَ في الفضاءْ... ما بيننا ذكرى تلوّعنا، وذكرى لا تزِقّ كطيورِ الريحِ غربةَ بؤسنا.. ذكرى تعذّبنا وذكرى أُغلِقَتْ برتاجِ قسوتها، نوافذُ من عبيرٍ نورّتْ أحلامنا… ذكرى تلوّحُ كالرسومِ وراءَ كثبانِ الفراتْ.. ما بيننا شجرٌ تقطّعهُ فؤوسٌ في المدى ليسيرَ تابوتاً يراوحُ بين غاديةٍ وآتْ.. ما بيننا كلُّ الذي ما بيننا!!.. إذاً سأقتطعُ البنفسجَ من يديك، أشدُّهُ بيديَّ تنخلعانِ في الأسحارِ قلبَ طريدةٍ قُتِلَتْ عشيَّ النوءِ من شوقٍ إليكِ.. ولسوفَ أقتطف الثريّا من فيافيها لأنثرها كما لَقْطِ الحصا تسعى إليك. وأشيدُ مرساةً لدى أنأى البحارِ وأمتطي برقاً يقرّبني، إذا احتلك النوى، دوماً إليك.