أول الكلام

من الوجد يا صديقي.. “ما بيننا كلُّ الذي ما بيننا”

بقلم غسان عبد الله

‏ويغزو الخوفُ عالَمَهُ الصغيرْ..‏ ويُخيفُهُ العاشقُ الذي‏ في جسمه ينمو‏، ولا ستر يواري‏ وهَجَهُ الدفّاقَ عن نهم العيونْ..‏ للبرد حين يقضقض الأطرافَ‏، والأمطارُ تجتاح السقوفَ‏ تصبُّ في طهرِ المكان‏، والريحُ كابوسُ الشتاءِ‏، تخلِّعُ الأبوابَ.. تستعدي‏ شقوقاً لا تُرى في الصيفِ‏، تجعلُها مساربَ للصقيعِ. ‏

يا صديقي.. وشمٌ على الجلدِ الطريِّ‏ يشفُّ عن قلقِ الضلوعْ..‏ تتعانقُ الأرواحُ باحثةً‏ عن الدفءِ الخجولِ‏، ينزُّ من شُحِ المساءْ، تتداخلُ الأشياءُ والألوانُ..‏ يُمسي الكونُ بحراً‏ من عَماءْ، وتظلُّ تقطفُ من عيونِ المتْرفينَ‏ زهورَ إعجابٍ‏ تزيّنُ شرفةَ البيتِ الصديعْ..‏ عمرٌ تنقِّبُ فيه عن فرحٍ‏ يرشُّ جفونَك..‏ حضنٍ يلملمُ حزنَكَ المنسابَ في صمتِ النجومِ، قصيٌّ رغمَ الحضورِ‏ المستطيع.. زهرُ الصبا الفضّاحِ يجتاحُ الربوعَ‏، فأين تُخفي ما يرون ملامةً؟؟‏ تترصد الطرقاتُ خطوتَك..‏ فتهرب من مفاتنِ عمرِكَ نحو الكِبَرْ..‏ من أين يأتيكَ الخطرْ؟‏.. هي زهرةُ الصُّبارِ حارسُكَ القَدرْ‏، وقفتَ على نزرِ الكلام‏ مخافةَ التطوافِ في‏ واحات صبوتِك.. وأوغلَ في تمنُّعه الظَّفَر..‏

تتقوضُ‏ الأحلامُ‏ من هولِ الحريقِ‏ يزلزلُ الأركان‏، يقصفُ ما تبقّى من جذوعِ السنديان..‏ للبابِ واجهة الدخول..‏ فكيف يمكنكَ الخروجُ إلى‏ فضاءِ الليل.. تحملكَ النجوم‏ إلى عوالمها الخفية..‏ وملاذًك يمضي به الزلزالُ‏ نحو شواطئ التوَّهم القصية..‏ لا الريحُ تحملُ صوتكَ..‏ لا الشمسُ تغزلُ ظلَّك..‏ أو يستفيق بك الصباح..‏ هي نكسةٌ أخرى تضافُ‏ إلى دفاترِ حزنك..‏ فيضوعُ عمرُ الزّهرِ بالآلامِ والقلقِ الوجيع..‏ همسٌ يحدّدُ خطوَك..‏ تصغي لأغنيةِ الحقولِ‏ تفوحُ من بين الشتولِ الخضرِ‏ والزيتونِ‏ والوطنِ الشهيِّ.. وظلالُ آفاقٍ تلوِّح بالمنى..‏ لهبُ السنابلِ حين يُثقلها الجنى..‏ تشتاقُهُ وهج السنى..‏ وترومُ في غسقِ الدموعِ‏ طلاقةَ الأزهارِ..‏ تنسجُ عطرَها‏ من بين ذرّاتِ الترابْ..‏ جذرُ الحياةِ يمورُ‏ في الأرض اليبابْ.‏

ها أنت يا صاحبي قد شربتَ كؤوسَ الريحِ مترعةً بوهمِ الانتظارْ..‏ وتفتّقتْ سُحُبُ النهار عن المدى..‏ فرأيتَ سفينتَك على الشطِّ البعيدِ‏ تُغري شَغافَ القلبِ‏ بالنبضِ الجديدِ..‏

أنت شجرةُ الحلمِ العصّيةُ‏ مهرجانُ الريحِ يشعلك.. أتكسرُك الحدودْ؟؟‏ تنسابُ في لحم الترابِ جذورُكَ لتمدَّ قامتَكَ مع‏ الفجرِ الوليدْ.. ولسوفَ أقتطعُ البنفسجَ من يديك، أشدّه بيديّ تنخلعانِ في الأسحارِ كقلبِ طريدةٍ‏ قُتِلَتْ عَشيّ النوءِ من شوقٍ إليكْ..‏ ولسوفَ أقتطفُ الثريّا من فيافيها‏ لأنثرَها كما لقطِ الحصى تسعى إليكْ..‏ وأشيدُ مرساةً لدى أنأى البحارِ‏ وأمتطي برقاً يقرّبني، إذا احتلك النوى، دوماً إليكْ.‏.. ما بيننا مدنٌ تراودُنا‏ ونسألُ قلبها الصخريّ عن قمرٍ معلقةٍ ذؤابَتُهُ على جدرانِنا‏، صلفٍ كأنّ الأرضَ ما منحتهُ ما تعطيهِ أمٌ للرضيعْ..!!‏ ، خاوٍ كما كهفٍ زاحمتْ قيعانَهُ الغبراءَ غيلانُ مخاتلةٌ‏ تصفِّقُ عند رملِ الشطِّ..‏ تُوِلمُ لابتلاعِ النهرِ يجري من عيونِ البحرِ،‏ تدعو لاقتلاعِ العشبِ يشهقُ آنَ تلثُمُه مزاريبُ الربيعْ.‏

ما بيننا‏ جُثَثُ أزهارٍ مقطّعةٍ وأقلامٌ مرصّعةٌ‏.. وأجنحةٌ مكسّرةٌ وأوردةٌ مبتّرَةٌ‏ وتيجانٌ مزخرفةٌ وأشواقٌ مجفّفةٌ‏ وبرقٌ لا يضيء مدىً يناغي القلبَ آناءَ الرجوعْ.‏. ما بيننا قمرٌ من الصخرِ المزخرفِ بالشموعِ وبالدموعْ..‏ ما بيننا قشٌّ تطاير في متاهاتِ القرى دخاناً وأجنحةً محطّمةً وريشاً سادراً فوق الطلولْ…‏ ما بيننا خشبٌ على خشب يراودنا‏، وأمّ لا تجفّ دموعُها حتى المساءِ،‏ وعشبةٌ نبتتْ على صخرِ الرجاءْ.‏. ما بيننا أفعى مرقّطة، سواقٍ غُوِّرتْ، ملحٌ يكبّلُ خطوةً رشفتْ بهاءَ الشيحِ والريحانِ والسَّدَر الظليلْ.‏. ووجوهُ غيلانٍ تعذّبُ بالسياطِ براءةً قُنِصَتْ..‏ كما فرخِ القطا صِيْدَ العشيّةَ في الفضاءْ.‏.. ما بيننا ذكرى تلوّعنا‏، وذكرى لا تزِقّ كطيورِ الريحِ غربةَ بؤسنا.‏. ذكرى تعذّبنا وذكرى أُغلِقَتْ برتاجِ قسوتها‏، نوافذُ من عبيرٍ نورّتْ أحلامنا… ذكرى تلوّحُ كالرسومِ وراءَ كثبانِ الفراتْ.‏. ما بيننا شجرٌ تقطّعهُ فؤوسٌ في المدى‏ ليسيرَ تابوتاً يراوحُ بين غاديةٍ وآتْ..‏ ما بيننا كلُّ الذي ما بيننا‏!!.. إذاً سأقتطعُ البنفسجَ من يديك،‏ أشدُّهُ بيديَّ تنخلعانِ في الأسحارِ قلبَ طريدةٍ‏ قُتِلَتْ عشيَّ النوءِ من شوقٍ إليكِ.‏. ولسوفَ أقتطف الثريّا من فيافيها‏ لأنثرها كما لَقْطِ الحصا تسعى إليك.‏ وأشيدُ مرساةً لدى أنأى البحارِ‏ وأمتطي برقاً يقرّبني، إذا احتلك النوى، دوماً إليك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *