هامش ثقافي

الصراع بين الذاتِ ومضادّاتها.. بين الإنسانِ وعدوّهِ

بقلم غسان عبد الله

لقد وجدتِ الطبيعةُ مخلوقاتي الجميلةَ تلك المخلوقاِت الشفافة بعجائبية مدهشة، كنت أقرأ في حَيِّز ألوانها ما يتألمُ.. ويتأرّقُ.. ويعاني.. هل كان كلُّ شيءٍ فيها يجرحُني ويُشعلني.. هل كنتُ أُبصِرُ فيها قوةَ الطيفِ وأرى فيها التّضادَ، والغرابةَ.. التّباينَ والغرابة والسحر… لعلَّ حريةَ الآخرِ الذي أحملُهُ في حقائبي كانت لغتي الأولى وامتدادي والتصاقي بالأرضِ والإنسان. ‏

لقد اختلطتْ في دمي أشياءُ الدهشةِ والضراوةِ والحبِّ والثورة.. وفي سنٍّ مبكّرة مَجّدتُ الأنثى وخربشتُ لها أشعاراً بدائيةً.. تعلّقتُ بالوطنِ الرمزِ وجعلتُ من الوردةِ والكتابِ والشظيّةِ فضاءً للانبثاقِ والعودة.‏

إن طفولتي في الضاحيةِ.. حيثُ أشجارُ الليمونِ والبلحِ.. حيثُ الفوانيسُ القاتمةُ التي تتوزعُ بين الموتِ واستعادةِ الحياة وحيثُ الجوعُ يشتعلُ ويستوطنُ في الأعصابِ والعظامِ والدّم.‏

إن هذه الطفولة التي كانت تغتسلُ تحتَ المزاريبِ وبقدميها الحافِيَتَيْنِ تكسِرُ الصقيعَ – آن كان يغزونا!! -.. وتبحثُ في أعراسِ البؤسِ عن الخبزِ والحنانِ والأحلام.. التَقَطَتْ خوفَ الإنسانِ.. وضغائنُ العالم عليه.‏

إن هذه الطفولة بكلِّ مفاعيلها الفاجعةِ استطاعتْ أن تكّونَ خطواتي نحو المستقبلِ وأن تلسعني لأُثبتَ حضوري المقاومَ والملفتَ في هذه الحياة..

وتعلّقي في الطفولةِ الثانيةِ بالمتنبي ليس فقط من قبيلِ الإثراءِ والامتلاء.. بل وجدُتُ فيه المجدَ الذي أبحثُ عنه.. لقد أدهَشَني هذا الشاعرُ بأناه المتألّقةُ والأسطوريةُ وعلّمني بلغتِهِ القابضةِ على الأشياءِ والمكنوناتِ وبطموحهِ الفادحِ أن أكون صِنواً له وأن ابتكرَ ما هو لائقٌ لامتلاكِ الفرادةِ الجمعية والـ “أنا” المختلفة. هل أقول بأن اختياري للشعر كوسيلةِ تعبيرٍ ونضالٍ..‏ كان مبرراً لوجودي؟!.. وهل ترتبط الأنا وعظمةُ هذه الأنا بتفعيلاتِ اللغةِ عندي.. أم باختصارِ الزمن لكي أتعملقَ وأكونَ قادراً على إثارةِ خيولِ المفرداتِ وقادراً على حملِ مشاعلِ الوردِ وبنادقِ النور؟ أم بالتحرّشِ بالمستحيلِ وتحويلِ اللغةِ إلى أثيرٍ وصدى وأرواح؟!.‏

إنها مسألةُ الصراعِ بين الذاتِ ومضادّاتها، بين الإنسانِ وعدوّهِ.. وفعلُ النمو المتطرفُ هنا مرتبطٌ بإمكاناتهِ القادرةِ على فعلِ شيءٍ في حلبةِ هذا الصراع.. لقد كنتُ أستعجلُ الزمنَ لأكونَ قادراً على قتالِ عدوي.. هذا الاستعجالُ المسلّحُ بالوعيِ والوحي والإلهام والمعرفة، خلق فيَّ خيالاً قد أقولُ مرعباً لما فيه من خصوبةٍ تريدُ أن تفجّر ضفافَها وتخلقَ براكينَها غيرَ الاعتياديةِ ومن هنا كانتِ الصورةُ هاجساً قد يكونُ أساسياً في كلِّ قصائدي، الصورةُ المركّبةُ، الصورةُ الحاملةُ لآلافِ الطيورِ التي بقَدْرِ ما تُمسكُ بالفضاءِ تكون أقدامُها على الأرض..

إذن، الصورةُ كانت حاجةً داخليةً ونفسية، حلميًة وتلقائيةً.. إنها الحواملُ الأرجوانيةُ واللونيةُ للّغةِ المتعددةِ التي تؤسّسُ في القصيدةِ ما يقودُ إلى الإزاحةِ والإضرامِ والتّغريبِ والنشوة.. ومن هنا كنت أقولُ بأن الصورةَ هي مخلوقٌ يمتلكُ خرافةَ بناءِ القصيدة.‏

ومن يقرأُ شعري ويتابِعُهُ يلحظُ للوهلةِ الأولى قضيتَيْنِ هما الأرض… والمرأة… وأنا في قصائدي حاولتُ أن أوحِّدَ بين المرأةِ وبين الأرض.. لأصِلَ إلى أكثرِ طبقاتِ النفس عمقاً.. وفي كثيرٍ من الأحيان فَصَلتُ المرأةَ عن جاذبيةِ الأرضِ وأسكنتُها جاذبيةَ الكلماتِ لتكونَ طقساً ملحمياً لعناصري التي أُشكِّلُها.. أما في الملكوتِ الذي يُبشّرني ويحمل عصافيرَهُ على أكتافي فأكونُ أنا حالةَ القصيدةِ التي لا تُشبِهُ المرأة ولا تُشبِهُ الأرض.. حيث الرائي هنا يؤالف صلصالَ المخيلةِ مع تحوّلات اللغةِ ثم يخالِفُ ما آلفهُ مُولِّداً من الصورةِ والرمزِ عالماً أو كوناً ومن الحواسِ إشعاعاتٍ تجدّدُ قراءاتها.. وتشوّشُ دهشتها…‏

هناك حيثُ لا مكانيةَ ولا زمانيةَ.. حيث اللغةُ بقدر ما تقودُ السماءَ إلى لهجةِ الغيوم فإنها تُعيدُ اللهب إلى رحِمِهِ الأول.‏

ومن يقرأُ شعري يكتشفُ أيضاً كيف يجدُني احتمالاً لا محدوداً ينظّم فوضاهُ.. تاركاً الماءَ في النار.. النارَ في الماء… ومن نقطةِ التقاطعِ والتّضادِّ والنموِّ تنمو ذاكرةُ المتخَيّل… بذاك الذي يجهلُه الآتي وتعرفُهُ نصوصي.‏

كم اتُّهِمتُ بالغموضِ المبهر.. وبتلكَ اللغةِ المشاكسةِ، الخادعةِ، وبذاك المذهلِ الذي لا يُفهم في قصائدي.. وبأني أقلبُ موائدَ اللغةِ في وجه مألوفيَّتها وبأني الجنيُّ الذي يسحرُ اللغةَ ويلعبُ بصلصالِها في حالةِ الحمّى والضغطِ المرتفع.‏

وأنا أقولُ بأنّ الشعرَ فنٌّ شكّاكٌ.. وما بين المحوِ.. والسؤالِ والكتابةِ ينصهرُ الشاعرُ.. يعيشُ الشاعرُ، يتحوّل.. ويُحوِّل، يحاورُ بصيرَتَهُ.. وحركةَ الأشياءِ الحاضرةِ الغائبةِ.. المتجاذبةِ المتنافرةِ.. حيث لا اتجاهَ.. ولا ضياع.. كونها النبوءة ادْلهمّت في ذاتّها وأَسَرَتْها الكلماتُ المضيئة.‏.

إذن ليس الغامضُ أنا دائماً..‏ ليس الواضحُ… بل الكامنُ.. شيءٌ يشبهُ الغامض ويُشبهُني.. لكنهُ الأرحبُ والأضيقُ… والأكثفُ، أقول إنه الشّرَرُ الممتصُّ لذاتِهِ حتى الصِّغرِ اللامتناهي والمتفجرِ مع ذاتهِ حتى الفضاءِ الأخير.‏

ولأنني بإثمِ غموضي العارفِ متجاوزٌ حتى لبرهةٍ أَلقي‏ فإن الذي أراهُ ويتراءاني هو المطلقُ…‏ الرغبةُ القصوى لأي شعر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *