الإنسانُ وحركةُ التّاريخ المحتوى الدّاخلي للإنسان كشرط للتغيير، والحضور والفاعلية
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
التاريخُ سجلٌ توثيقي للأحداث والذكريات والتحولات المختلفة التي تفعلها وتعيشها المجتمعات، ويمر بها الإنسان ويواجهها، أو التي يفعلها هو، ويتفاعل معها سلباً أم إيجاباً.. بما يعني أن الإنسان هو أساس وجوهر حركة التاريخ وعملية التوثيق التاريخي.. ولهذا يعرّف البعض التاريخ من حيث أنه حركة الإنسان وسيرورته في محيطه خلال الزمان..
ونريد في هذا البحث السريع أن نقدم إضاءة عامة على معنى التاريخ ليس فقط كموضوع بل كعلم، وهذا هو الأهم بالنسبة لنا، حيث أن علم التاريخ هو الذي يعطينا المادة العلمية التي تمكننا من الوصول إلى تعميمات من خلال القوانين التي يمكن اكتشافها ومعرفة السنن الحاكمة والناظمة، وذلك عبر دراسة وتحليل الحوادث الواقعة في مدى هذا التاريخ، بما يسهم في تأسيس وبناء رؤيتنا الشاملة للكون والحياة والوجود ككل، انطلاقاً مما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم بالدرجة الأولى، والذي يدعونا ويحضّنا على قراءة الأحداث والوقائع التاريخية ثم الانتقال من الدراسة لأخذ العبر واستخراج التعميمات والقوانين بصورة مباشرة، والانتفاع من هذه الحقائق في حياتنا على مستوى الغاية والهدف في تأصيل وجودنا الإسلامي القائم على الإيمان والحق والعدل، يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..﴾]غافر: 82[.. وقوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ…﴾]آل عمران: 137[.
إذاً نميز أولاً بين أمرين في موضوعة التاريخ ودراسته، الأمر الأول هو موضوع التاريخ، والأمر الثاني هو علم التاريخ.. ولا شك بوجود فرق بين الأمرين.. فالتاريخ أو موضوع التاريخ كما قلنا هو الأحداث والوقائع والأفعال البشرية، هو مجموعة الظواهر والحقائق (العلاقات) الأفعال والانفعالات، الولادات والوفيات من جراء الحوادث.. هو نشوء الطبقات، وظهور واضمحلال الحضارات والمجتمعات البشرية.. هو جميع الظواهر والحوادث التي تخص الإنسان وعلاقته بالطبيعة، وبالآخرين، ومنذ العصور الغابرة وحتى يومنا الحاضر.. وأما علم التاريخ فهو وجود منهج لدراسة تلك الوقائع ووعي قوانينها والوقوف على سنن التاريخ ومعاييره، بمعنى هو علمنا واطلاعنا وإيماننا بالعلاقة بين هذه الظواهر وتلك الحوادث، كما يشمل هذا الأمر إيماننا بالطريق الذي سلكته البشرية على مر العصور والقوانين التي يتحرك ضمن إطارها الإنسان، وتجعله يزاول نشاطاته الحياتية المتكاملة، وهذا التعريف ينطبق على علم التاريخ، والذي يسمَى بدوره تاريخاً…
ولتفسير أحداث ظهرت أكثر من مدرسة أو رؤية ونظرية فكرية، منها نظرية الصدفة، ونظرية الوجود الاجتماعي.
يؤكد أصحاب نظريّة الصدفة، وهم غالباً من أتباع المنهج المادي في تفسير حركة التاريخ، على أن تحولات التاريخ وأحداثه هي عبارة عن سلسلة من الصّدف والاتّفاقات، أي إنّها لا تنضبط تحت قانون أو معطى أو قاعدة ارتكازية محددة.. كما يعتقد هؤلاء بأن الحياة كلها تقوم على منطق الصراع، والتاريخ جزء من الحياة فهو بدوره يقوم على هذا المبدأ التناقضي، والصّراع بين النقائض..
في حين يذهب أصحاب نظريّة الوجود الاجتماعي (أصالة المجتمع) إلى أنّ المجتمع له وجود وشخصيّة اعتبارية مستقلّة عن الناس وحركة الأفراد. أي أن شخصيّة المجتمع ليست هي نفسها شخصية الأفراد، والشخصيّة الواقعيّة والحقيقيّة للمجتمع تكون عبارة عن دمج وتركيب مؤلف من الحالة التّفاعلية الثّقافيّة لكل الأفراد كسائر التّراكيب المشهودة في الطّبيعة، سواء أكانت طبيعة حية أم طبيعة جامدة.
ولكننا لو جئنا إلى الرؤية الدينية الإسلامية، التي يمكن استنباطها من القرآن، فإننا سنجد أن القرآن الكريم – في وعيه ودروسه وعبره لمسألة التاريخ وأحداثه ووقائعه وتحولاته – يعتبر أن التاريخ عبر ودروس، وله ضوابط ومعايير منتظمة، كما وينظر لحياة الأمم والمجتمعات على أن لها ضوابط وآجال محددة.. يقول تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾] الأعراف: 34[.. ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾] الأنعام: 2[.
وقد فسّر صاحب تفسير “الميزان” العلامة الراحل محمد حسين الطباطبائي، الأجلَ في معرض تفسيره للآية الثانية أنه تعالى يشير إلى خلقه للعالم الإنساني بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير، فيبيّن أنّ الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان ودبّره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهراً، فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه، وإن كان بقاء نسله جارياً على سُنّة الزواج والوقاع.
ويقول عز وجل: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾] البقرة: 134[..
يقول تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120[..
ويقول: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الكهف: 13[..
ويقول: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111[.
كما نجده (أي القرآن) يستنكر الرؤية الاعتباطية والعبثيّة لحركة التّاريخ، ويركز على أن للتاريخ قوانينه ونواميسه وسننه وقواعده الرصينة والمعيارية الثابتة، فيقول عز وجل: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾] فاطر: 43[.
كما يشدد القرآن على مسألة تربويّة أخلاقية مهمة للغاية في مجال النواميس والضوابط التي تتحكم بأحداث التّاريخ حيث يؤكّد على أنّ مجتمعات البشر هي التي تحدد معالم مصائرها من خلال ما تمارسه من أفعال حميدة أو قبيحة، وسلوكيات خيّرة وصالحة أو سيئة وشريرة. فبيضة القبان في الأمر هنا هي إرادة الفعل البشري، ووعي الإنسان، وإيمانه بقوانين الحياة وانفتاحه عليها في مواقع إيمانه بالعلة الأولى، وهي الله تعالى.
إذاً تركز النظرية المادية لدراسة التاريخ على البعد الميكانيكي المادي، فتراها تنظر للإنسان ككائن مادي مقيد ومرتهن لحاجاته المادية ومصالحه الاقتصادية، وهو مجبور على السير في جهة واحدة تفرضها عليه أدوات الإنتاج في تطورها.. أما ما يظهر عليه من مشاعر وأحاسيس ورغبات وانفعالات فهي ليست سوى انعكاساً لظروفه المادية وبيئته الطبيعية والمجتمعية.
وأما الرؤية الأخرى (الإنسانية) فهي تنظرُ إلى الإنسان كموجودٍ مادي وروحي، يعكسُ في سلوكه وتصرفاته وانفعالاته ورغباته، دوافعه الروحية والمادية، فهو يتمتع بقيم ومزايا روحية إلهية، وزوده الله تعالى بفطرة سليمة تحرضه وتدفعه للحق والوقوف مع الخير وقيم العدل والإنسانية، كما أنه قادر على التحكم بنفسه، وفك قيود يمكن أنْ تفرضها عليه قوى الطّبيعة وقوانين البيئة والنزعات الغريزية.
وبموجب هذه النظرية، فإن القيم الإنسانية الخيرة هي قيم أصيلة متجذرة في نفس الإنسان، رغم ما قد يعترضها من نزعات ويهيمن عليه من دوافع شريرة.. وهنا يأتي دور الإيمان بالله والوحي ليكونا بمثابة الموجه والحامي..
ولهذا تكون القضية الأساسية هنا، هي أنّ الإنسان يمكنه أن يتحركَ على طريق الحق والخير والصواب، وتكون له الحرية في الانتخاب والإرادة بعيداً عن الجبرية والفعل الجبري..
يقول تعالى في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾] الرعد:11[. وهذا قانون إلهي تاريخي يريد أن يعتمد الإنسان على إرادته في تغيير واقعه وتغيير نفسه.. صحيح أن الله تعالى وضع الأسباب، وبنى الوجود على ضوابط وقوانين صارمة، ولكنه في الوقت نفسه أتاح للإنسان أن يعتمد على نفسه لاكتشاف تلك السنن والقوانين لكي يستثمرها في حياته، وينتفع بها في حركة وجوده، في سعيه لإقامة مجتمعات العدل والحق.
يقولُ عز وجل: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾] التكوير:28-29[.. فالله عز وجل أعطى الإنسانية وكرم بني أدم بالعقل، كما وفر لهم سبل الحياة وأدواتها، وأعطاهم أسباباً يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يريدون؛ من جلب خير أو دفع شر، وهم بهذا لا يخرجون عن مشيئته تعالى.
ومن هنا جاء قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾] الأنفال:53].. ذلكَ أن العبد المؤمن لديه الأسباب وعنده عمل واشتغال، كما أنه مالكٌ للإرادة الفاعلة، وعنده مشيئة، ولكنه رغم ذلك لا يخرج عن قدر الله ومشيئته.
وإذا ما تأملنا وحلّلنا واقع البشرية في معظم مراحلها التاريخية، يمكننا القول بأن النوازع الشريرة عند الإنسان عميقة ومتجذرة في داخل بنيته وجوانيته، ولم تتمكن القوانين والشرائع عبر كل التاريخ من كبح جماحها أو السيطرة القوية والنهائية عليها، ربما تمكنت فقط من استمالتها وحرف وجهتها بحدود معينة وضمن ضوابط ومعايير اعتُبرت قاسية ومرعبة، وعلى الرغم من ذلك لم يتناقص العنف ولغة الصراع، ولم يستوِ الإنسان على سبل العدل والإنسانية.. والدليل على ما تقدم هو الحجم الهائل للمآسي والصراعات والحروب وأعمال العنف والقتل، وأنهر الدم واستباحة الحرمات والكرامات، وأعمال الفساد والإفساد وغيرها التي فجرتها على الأرض تلك النوازع الغرائزية المؤطرة بحب الذات والرغبة في الهيمنة والتسلط واستغلال الغير وغيرها. وهي ما زالت تملأ أرجاء المعمورة منذ أزمان بعيدة.
وهذا كله حقيقة مظهر واضح وبارز لفشل الإنسان نفسه في قيادة هذا العالم البشري لمواقع أكثر استقراراً وأمناً وسعادة.. فشله في بناء بنيته الذاتية على معايير رصينة وراسخة من الإيمان والحق.. ولهذا ما زالت سلوكيات الفوضى والعبثية والعنف قائمة وحاكمة ومتحكمة بل وقاعدة جوهرية للفعل البشري، بينما بقي الاستقرار والأمان والسعادة هي الاستثناء في كل تاريخ البشرية.. ولو أننا أحصينا عدد الحروب وأعمال العنف وأعداد البشر المقتولين (سواء كانوا أبرياء أم مدانين) خلال المائة عام الأخيرة، فإننا سنقف أمام أرقام وإحصائيات مذهلة صادمة ومرعبة للأسف الشديد.. كلها يتحملها الإنسان في غطرسته وأنانيته وسوء محتواه الداخلي بل ارتهانه لنوازعه البدائية الشريرة..
من هنا ما يؤكده القرآن الكريم أن التغيير الداخلي للإنسان هو أساس كل شيء.. بمعنى أن محتواه الداخلي الذي يقيمه ويبنيه (هذا الإنسان) على أسس ومعايير الحقوق والأخلاق والعدالة والحق، هو الذي يحدد له سبل التغيير الخارجي، بحسب ما نفهمه من منطوق الآية الكريمة السابقة.
إذاً يمكننا أن نسجل هنا بعض النقاط التي تعد بمثابة سمات وخصائص الرؤية الإسلامية للتاريخ:
1- التاريخ سيرورة متحركة، أساسها وجوهرها حركة الإنسان في تفاعله مع محيطه الطبيعي وغير الطبيعي.
2- سيرورةُ التاريخ – في حياة الفرد والمجتمعات والأمم- محددة بزمن أو بأزمان وآجال مضبوطة وجودياً.. قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُوْنَ..﴾] يونس: 49[.
3- ينطوي التاريخ على علاقة بين مؤجل ومؤجل له.
4- التاريخ لا يتحرك بعبثية بل له غاية محددة ومضبوطة تتأكد فيها ومن خلالها العلة والهدفية الغائية.
5- التاريخُ في الإسلام هو صيرورة الإنسان، وحركته الوجودية المتطلعة للأمام (تلخّصها الآية:﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾]الانشقاق: 6[)، وصولاً إلى الهدف الكوني الكبير.. وهذا التعريف يتضمن الاقرار بوجود معنى وفلسفة للتأريخ ثمّ وجود روابط وعلاقات لابدّ من اكتشافها وتحديدها.