عودة أبناء الأرض.. وخيبةُ المحتلين
بقلم زينب عدنان زراقط
يومٌ من أيام الله”، أكّد فيه اللبنانيون الجنوبيون أنهم أبناء مدرسة كربلاء الحسين (ع)، الذي قال “لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ إقرار العبيد”، كما أكّد أهل غزة أنهم نبراس التضحية والصمود…
أمام مشهد الزّحف البشري لشعب المقاومة في جنوب لبنان وغزة، والرّعب الذي ما يزال يعتري الشمال من كيان الاحتلال وخلوّه من مستوطنيه، وتراجع الجيش الإسرائيلي والنزول عند شروط المقاومة والتفاوض معها… سجّل هذا نصراً كبيراً للمقاومة في لبنان وفي غزة.
لكن!!.. لماذا وكيف جرى تمديد الانسحاب للجيش الإسرائيلي من بعض بلدات الجنوب اللبناني؟ وما رسالة حركة حماس الفلسطينية على خلفية صورتها خلال المفاوضات مع الاحتلال وتبادل الأسرى؟.
المقاومة ترفض تمديد فترة الانسحاب
طبعاً المقاومة ستخرج لتقول لن نقبل بتمديد مهلة بقاء الإسرائيلي في أرض الجنوب اللبناني، لا بل وألقى أمينها العام الحجة على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وكل الساسة وكل مواطن لبناني، بأنه من المُحال أن يقبلوا بمطلب الأمريكي على تمديد انتهاك أرض لبنان، أخذهم بالمواطنية والغيرة والعقل؛ بأنه ما من مبرر منطقي يمكن القبول به لبقاء العدو في شبرٍ واحد من ضمن أرض الوطن!. وهل كانوا ينتظرون كلاماً آخر من المقاومة؟ وإذ بالثقة التي أُعطيت كانت أكبر من حامِليها، وتوضحت صورة القيمين على هذا الوطن ومقدار حرصهم على أرضهم وأهليتهم بحماية الشعب، واتضح تقييم أدائهم من أول امتحان، حيث لم يستطيعوا أن يزعجوا الأمريكي ويردوا له طلباً.
وبقيَ الجنوبيون وحدهم – أبناء سماحة السيد المقدس – نبراساً للوفاء والانتماء، زحفوا استشهاديين سلميين، ووقفوا وجهاً لوجه في مواجهة جيش العدو الصهيوني ودباباته. ولعل أهم صورة لعزيمة وصمود وكبرياء أبناء الجنوب هو مشهد العباءة الزينية لامرأةٍ ترفع يديها قبالة مدفع الميركافا الموجه عليها!. نعم رغم أنف كل من يشكك بهذا الانتصار، وعلى الرغم من تمديد مدة البقاء في بعض النقاط، فقد أعلنت المقاومة موقفها الرافض لأي أشكال التمديد، وطالما أن جمهور المقاومة هو من يدفع الثمن، ثابتون – ومستمرون في سياسة العض على الجرح -، إلا أن الملامة تقع على من مرّرَ وتهاون وانصاع للإملاءات، وهنا تكمن المشكلة. والمشهد سيتكرر في التاريخ المحدد الذي مُدِدَ إليه، وسوف يوثّقُ الانسحاب ويُسجل نصرٌ من صنع إرادة الجنوبيين.
مشهد التراخي بالسيادة اللبنانية والخضوع لمطالب ورغبات الأمريكي والإسرائيلي التي لا تخفي نوايا الاستدراج نحو منعطف ترويضي تحقيقاً لمخطط يعكس مطامع الأعداء، ويغضب كل صاحب مروءة ووطنية لبنانية، – وأقل المسلمات الجهر قولاً وفعلاً برفض هذا الرضوخ وفرض كلمة إجماع وطنية بطرد العدو وعدم السماح ببقائه دقيقة واحدة بعد هدنة وقف إطلاق النار حسب ما تم الاتفاق عليه، – حتى ولو غابت الوطنية، فعلى الأقل التعبير عن ذلك ولو من باب الرياء احتراماً لدماء الضحايا والشهداء والأذى الذي لحق بكلّ لبنان عموماً وجمهور المقاومة خصوصاً -!.
خلاصة الحديث عن لبنان، هو أنه انتصر منذ بدء سريان وقف إطلاق النار، الذي كان عَقِبَهُ نصرٌ في غزة ووقف إطلاق نار والعزم على أن لا يبقى الإسرائيلي في لبنان. إن مشهد عودة الغزاويين للقطاع، وملحمة أهل الجنوب في عودتهم لقراهم ودحر العدو بأرواحهم، – على الرغم من كل الجراح والتضحيات – مبتهجين بالنصر، إنها فرحة استرجاع كل حفنة من تراب أرضهم. أما في المقلب الآخر فقد سيطر الخوف والقلق على المستوطنين رافضين العودة للشمال ورفضهم حتى للمحفزات المالية الضخمة، مرعوبين.
ينقل في هذا الصدد مراسل صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية في الشمال: بعد 15 شهراً من القتال، هذه هي بالضبط الصور التي يُخاف منها بالشمال، سكان جنوب لبنان بالقرب من الحدود مع “إسرائيل” يعودون رافعين أعلام “حزب الله”.
حماس قوة وسيطرة ونفير
صعقة مشهد المفاوضات وتبادل الأسرى، وظهور حماس بمشهد الطرف الأقوى صاحب كلمة الفصل. حيثُ كان مشهد جلوس مندوب حماس في مقابل ممثلي الصليب الأحمر في اجتماع حول طاولة واحدة كأن دولةً تتفاوض مع دولة. فبعد ما يقارب السنة والنصف من حرب الإبادة الجماعية التي مارستها إسرائيل وأمريكا وكل دول الناتو على بقعة جغرافية مساحتها 360 كلم مربع، تخرج اليوم مُقاومتها أمام العالم لتقول إنها حيّة وقوية وقادرة وعلى نهج قائدها الشهيد يحيى السنوار مستمرة، وهذا العالم كلّه “عجزَ” عن قتل المقاومة وفكر المقاومة!.
أمام مشهدية النّصر الساحق هذا في غزة هذا، تكمن عربدةُ الكيان الصهيوني في لبنان، لحرفِ أنظار العالم عمّا يجري في قطاع غزة من رضوخٍ لجيش الاحتلال وقبوله بوقف العدوان وإتمام صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين مع الرهائن الإسرائيليين. صراحةً ما يفعله الإسرائيلي في تلك القرى الحدودية من عربدة – هو مؤذٍ حقّاً – لكنه يعكس هزيمته العسكرية والمعنوية، وهو الذي كان أضعف من أن يحقق أي إنجاز عسكري ينال من مقدرات المقاومة ووجودها. حتى أن تمديد مهلة الانسحاب من جنوب لبنان ما هي إلاَّ نتاج هذا الانهزام الساحق الذي حلَّ به على جبهة غزة، ولكي يحفظ شيئاً ما من “اعتباره” صاحب لقب “أقوى الجيوش”. إلا أن خروجه من مواجهة المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية منهزماً هو الضربة القاضية على هذا الجيش بالمواجهة العسكرية!.
هناك استهجانٌ داخل الكيان وعلى وسائل التواصل الاجتماعي حول وضع الأسيرات اللواتي تم تسليمهن إلى الكيان، حيث تمّ تشخيصهنّ من قبل الجهات الطبية وتبين بأنهن “يعانين من أزمة عاطفية”، والجهات الأمنية قالت “لقد عملوا لهن غسيل دماغ”… فيما اعتبر المحللون أنهن “قنابل فكرية موقوتة ويجب مراقبتهن… لقد ظهروهن بهذا التفاعل لا بد أن حماس قد أعطتهم منشطات… شعورهن بالأمان والسعادة دون خوف وكأنهن أصبحن حمساويات”… أمّا الشاباك من بعد مقابلتهن ومحاولة استحصال معلومات حول ما جرى في الأسر للتوصل لمعلومات حول أماكن التواجد أو عن المسلحين… فوجدوهن متكتّمين عن كل شيء، “حماس منعتهن من الحديث وأجبرتهن على التوقيع على تعهدات بعدم الحديث لأي جهة صحافية أو إعلامية ما لم يكن الحديث ضد حماس”… فهل هم نادمون على استرجاعهن؟.
قنبلة موقوتة زرعتها المقاومة الفلسطينية في وجدان كل أسيرة إسرائيلية كانت بحوزتهم، مكوناتها: قلادة حول رقاب الأسيرات فيها علم فلسطين، شهادة بمستوى إجادة اللغة العربية، شهادة إفراج، وصور تذكارية من تجربة الأسر… قنبلة فتّاكة وأشدّ من تلك المتفجّرة، لأنها زُرعَت في النفس البشرية لإنسان ينتمي لبيئة ومحيط اجتماعي وعائلة، هي أخلاق الإسلام التي عوملت بها الأسيرات وتلقيهم السيرة الصحيحة لأبناء أرض فلسطين ومظلوميتهم وأحقيتهم باسترجاع ما غُصبَ منهم، ومن هنا يبدأ ربما يبدأ التفكك الداخلي لهذا الكيان…
في الختام، لقد تجلّى النّصر بصورةٍ أوضح من ضوء الشمس أمام كل من يرى، والمفاوضات على قدمٍ وساق لإتمام بنود وقف إطلاق النار إن كان في غزة أو في لبنان، ولكن يبقى التحدي الكبير أمام المقاومة هو مسألة إعادة الإعمار وإيواء الشعب المهجر، في ظل التدخلات الأمريكية واقتراح “ترامب” بتهجير الفلسطينيين إلى خارج حدود فلسطين المحتلة – وقد أعطى الأوامر للملك الأردني والرئيس المصري لاستقبال النازحين – هذا من جانب، بينما في لبنان التحدي يكمن في تموضع حزب الله في الشغور السياسي بعد تشكيل الحكومة ومجلس النواب والبدء بشكلٍ جدّي في مسألة الإعمار.
