حول الاتجاهات الناشئة في سوريا
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
ملخص
يكشف انهيار نظام الأسد في سوريا عن الشرق الأوسط كنظام بيئي ديناميكي حيث يمكن للتغييرات الصغيرة أن تؤدي إلى مفاجآت كبيرة. رد الجيش الإسرائيلي بسرعة بثلاثة أهداف: تعزيز الدفاعات في مرتفعات الجولان، وتدمير الأسلحة السورية، وإبراز القوة في المنطقة.
إن الواقع الإقليمي يتشكل من الذكريات التاريخية والأحلام الدينية والوطنية، ولا يعمل وفقاً لنموذج مستقر وخطي. إن دول المنطقة تسعى إلى المشاركة النشطة خارج حدودها، وتحتاج إسرائيل إلى تبني نهج استراتيجي أكثر مرونة للتكامل المكاني بدلاً من التقارب الداخلي. لقد أثبتت الأحداث في سوريا مرة أخرى أن نهج الفيلا في الغابة، الذي يعني العزلة عن العالم الخارجي، لا يمكن أن يخدم الأهداف الإسرائيلية.
ألقى انهيار نظام الأسد في سوريا ضوءاً جديداً على الاتجاهات الأوسع للحرب. ولا يزال معظم الإسرائيليين يجدون صعوبة في استيعاب أن يحيى السنوار توقع أن يحدث لدولة إسرائيل بضربة السابع من تشرين الأول ما حدث لنظام الأسد وجيشه الذي تلاشى في نحو عشرة أيام. إن التحديات الصعبة وغير المتوقعة لا تزال عديدة، والواقع الذي يكتسح المجهول لا يزال متجذراً في حالة من عدم اليقين غير المسبوق، ولكن خطوط نور الأمل تظهر في الأفق.
إن عدم رغبة جنود الجيش السوري في التضحية بأرواحهم من أجل حكم عائلة الأسد، التي أصبحت معادية ومنعزلة عن غالبية الشعب السوري، كان عاملاً مهماً في التفكك السريع للنظام السوري. ويجب على الإسرائيليين أن يدركوا أن هذا هو ما كان يمكن أن يحدث لنا في صباح السابع من تشرين الأول 2023.
كان لدى مخططي الحرب تحت قيادة حماس أسباب معقولة للافتراض بأن الجيش الإسرائيلي، الذي تعرض لضربة مفاجئة، سينضم إليه جميع العناصر الأخرى في محور طوق النار الإيراني على الساحتين الخارجية والداخلية، وسوف يفقد أعصابه إلى حد الانهيار.
إن الصراعات الداخلية التي اشتدت في المجتمع الإسرائيلي في العام الذي سبق الحرب كانت بمثابة إشارة لأعداء إسرائيل بأن ساعتهم التي طال انتظارها قد حانت. لقد أدرك أعداء إسرائيل ضعف قدرة إسرائيل على تحمل عبء حرب طويلة الأمد، ووقفوا في دهشة أمام ما كشفت عنه القوة التي كانت محفوظة داخل الجيش وفي المجتمع الإسرائيلي. في معهد أبحاث عربي يضم خبراء مصريين وسوريين كتب الباحثون: “نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الافتراضات الأساسية التي تؤكد أن إسرائيل لا تستطيع الصمود في حرب طويلة”. “إن الموقف الحازم الذي اتخذته إسرائيل خلال العام الماضي ليس ما توقعوه، فقد توقعوا أن إسرائيل لن تصمد، وأن “الضغوط الداخلية والخارجية سوف تهزمها”.
تفشي مفاجئ في سوريا
الهجوم المفاجئ الذي شنه المتمردون يتطلب من إسرائيل أن تقوم بمراقبة عسكرية مسؤولة. يبدأ الدرس الرئيسي باستعراض المنطق الاستراتيجي الذي يحرك منطقة الشرق الأوسط. إن الدرس الذي يرفض كثيرون في الغرب قبوله يشير إلى الديناميكيات في المنطقة باعتبارها حالة من عدم الاستقرار المستمر، نتيجة لسلوك المنطقة بأنماط نظام بيئي. إن النظام البيئي حساس لأي تغيير صغير، مثلاً زيادة تربية الماشية، تؤثر بشكل مباشر على توسع ثقب الأوزون وحالة المناخ على الأرض. يمكن تمثيل المفهوم المعاكس للنظام البيئي من خلال نظام سكك حديدية متقن. في نظام السكك الحديدية، يتم التخطيط لاستقرار التشغيل وإدارته من خلال التخطيط الهندسي الخطي. من ناحية أخرى، في النظام البيئي، الاستقرار هو نتيجة للتوازن النظامي وهو دائما مؤقت وحساس للتغيير.
الوضع في الشرق الأوسط يعبر عن منطق النظام البيئي، فالتغير في نظام القوى في منطقة ما، مثل التغير في قوة حزب الله في لبنان، يخلق تغيراً في مناطق أخرى في ديناميكية تخرج المنظومة بأكملها من التوازن. وطموحات الثقافة الغربية في إرساء واقع من الاستقرار المستدام تجد صعوبة في قبول حقيقة مفادها أن الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط – باعتباره أمراً مفروغاً منه في العلاقة بين العشائر والقبائل والمنظمات الإرهابية المتطرفة – يتشكل بطبيعته في نظام يعمل في ديناميكيات النظام البيئي.
لقد خلقت إنجازات الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله في لبنان وضد حماس في قطاع غزة ظروفاً جديدة شكّلت فرصة لصراع مفاجئ واندلاع هجوم المتمردين السنة ضد حكم جيش الأسد والميليشيات الشيعية الإيرانية.
البحث المستمر من جانب المؤسسة الحاكمة في الشرق الأوسط عن فرص جديدة للقتال يكمن في حقيقة مفادها أن حالات الهدوء، حتى عندما تطول، يُنظر إليها في الأساس على أنها مؤقتة، ونوع من الهدنة، ووضع يعترفون فيه في الوقت الحاضر بأن من الخطأ الاستمرار في القتال. ولكن في لحظة تغير الظروف الإقليمية، فإن كل شيء يصبح بحاجة إلى إعادة النظر.
الغربي، في نظرته لديناميكيات الشرق الأوسط، يتمسك بالاعتقاد بأنه حتى لو بدأت التهدئة بالنسبة للشرق الأوسط بمنطق مؤقت، فإنه بمجرد إرساء الاستقرار لن تكون هناك رغبة في العودة إلى القتال. ولكن الغربي لا يفهم أن هؤلاء هم أهل الإيمان، وأن أحلامهم الدينية غير قابلة للتفاوض.
يحلم الأتراك بالعودة إلى المساحات الشاسعة من الإمبراطورية العثمانية. وكانت حلب تتمتع في السابق بدور اقتصادي ورمزي محوري فيما يتصل بمدن وادي حران في تركيا، ومنها مدينتي – عورفا. بعد انسحاب نابليون من مصر وأرض إسرائيل، سعى محمد علي حاكم مصر إلى توسيع سيطرته من أرض إسرائيل إلى حلب. وفي الفترة من عام 1839 إلى عام 1841، دارت في المنطقة الحرب المصرية العثمانية الثانية. وبمساعدة قوة مهمة بريطانية، هزم العثمانيون الجيش المصري ودفعوه من منطقة حلب إلى مشارف سيناء. وعادت بلاد الشام الكبرى، التي كانت تمتد حتى أرض إسرائيل، إلى السيطرة العثمانية وتطمح تركيا إلى هذا النظام الإقليمي. بالنسبة لهم، بدأ الصراع في حلب، مع التوجه نحو دمشق بسبب مساجدها ذات الأهمية لتراث الإسلام السني.
المسألة أكثر أهمية من مجرد الانجراف وراء ذكريات الماضي. فقد شهدت هذه المنطقة في الماضي حضوراً عملياً في تحريك الصراعات الدينية والوطنية. على سبيل المثال، تعلمت أثناء زيارة الجناح الإيراني في معرض شنغهاي. فمقابل مدخل الزوار، عُرضت خريطة للإمبراطورية الفارسية من عهد داريوس على الحائط بالكامل، في نوع من الإعلان عن طموحات إيران في العودة إلى هذا الماضي المجيد في أرجاء الشرق الأوسط. هذه هي القوة المحركة في المنطقة، حتى الحدود المعترف بها دوليا، مثل حدود سايكس بيكو، لا شرعية لها في الشرق الأوسط تتغلب على الأحلام الدينية والوطنية التي لا تتلاشى، بل تنتظر الفرصة المناسبة.
بالنسبة للأمريكيين الذين يواصلون السعي إلى نظام إقليمي مستقر ومستدام، فمن الجدير بنا أن نقترح أن نتعامل مع الوضع كما نتعامل مع الأعاصير التي تندلع من المحيطات وتضرب القارة من خلال نظام من القوى خارج السيطرة البشرية. لا يعني هذا أنه لا توجد قدرات لكبح جماح الصراعات وتأخيرها في ظل الفوضى الإقليمية في الشرق الأوسط، ولكن حتى في الترتيبات التي تبدو وكأنها تعد بنوع من الاستقرار والهدوء، هناك حساسية دائمة للعوامل النظامية غير المتوقعة.
ملاحظة تكتيكية
يعطي الهجوم الذي شنه المتمردون أيضاً درساً تكتيكياً مهماً حول خصائص الحرب الجديدة. اعتباراً من 7 تشرين الأول، شهدنا اندلاع قتال ناري سريع، يعتمد على المركبات المدنية بما في ذلك الدراجات النارية وسيارات الدفع الرباعي والشاحنات الصغيرة في مجموعات متحركة ورشيقة.
مَنْ يعِد بدولة فلسطينية منزوعة السلاح لا يستطيع بالتأكيد أن يمنع الدولة الفلسطينية من شراء الدراجات النارية وسيارات الدفع الرباعي. وعلى دولة إسرائيل أن تتخيل كيف يبدو شكل مجموعة مهاجمة على دراجات نارية وسيارات جيب تنطلق بشكل مفاجئ من طولكرم وقلقيلية لاستيلاء على الشريط الساحلي. ويجب أن يكون مفهوماً أن الجيش الإسرائيلي، بكل قوته، لا يستطيع ضمان التفوق الساحق في كل السياقات.

هدف عمليات الجيش الإسرائيلي في سوريا
حتى أفضل خبراء الاستخبارات واجهوا صعوبة في التنبؤ بتسونامي الهجوم الذي شنه المتمردون وأطاح بالنظام السوري وجيشه. هناك درس عظيم هنا في إدراك حدود المعرفة البشرية في ادعاءاتها بالمعرفة والسيطرة على ما يحدث بشكل مفاجئ لا يمكن التنبؤ به. ولهذا السبب على وجه التحديد فإن التنظيم السريع للقيادة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي للرد بشكل مناسب على المفاجأة يستحق تقديراً خاصاً. كان الرد السريع للجيش الإسرائيلي على التطورات في سوريا موجها نحو ثلاثة أهداف:
الهدف الأول: وهو ضروري في مباشرته، يركز على تعزيز الجهد الدفاعي في مرتفعات الجولان. يُشار إلى أن الاستعدادات لتعزيز وتوسيع خطوط الدفاع في الجولان – عبر عمليات استباقية شرق السياج الحدودي – بدأت في فرقة الجولان بدعم من القيادة الشمالية، قبل عدة أشهر. وقد مكنت هذه الاستعدادات من الرد السريع لتوسيع القبضة الدفاعية على المناطق الحيوية في المنطقة العازلة التي حددتها اتفاقية فصل القوات بين إسرائيل وسوريا عام 1974. وفي الوقت نفسه، سيطر الجيش الإسرائيلي أيضاً على قمم سلسلة جبال الشيخ، في عملية عسكرية واسعة النطاق. الموقع الذي يسمح لها بالتأثير في عمق سوريا وجنوب لبنان.
أما الهدف الثاني: فهو تدمير الأسلحة العديدة التي تركها الجيش السوري في كافة أنحاء سوريا. في هجوم غير مسبوق شنته القوات الجوية والبحرية الإسرائيلية، تم تدمير أنظمة أسلحة كان من الممكن استخدامها ضد دولة إسرائيل لو ظلت صالحة للعمل في المنطقة. وتم تنفيذ هذا الجهد أيضاً بزخم سريع وإدارة دقيقة.
الهدف الثالث: هو إظهار القوة في مواجهة المنطقة المضطربة، مع التأكيد على الرسالة التي مفادها أن دولة إسرائيل لديها مصلحة أمنية استراتيجية في الاتجاهات الناشئة في سوريا وأنها لن تكتفي بالمراقبة السلبية للاتجاهات الناشئة. وأكد رئيس الوزراء نتنياهو بحكمة أن إسرائيل ستسعى إلى عدم التدخل في مأسسة النظام الجديد الذي يجري تنظيمه في سوريا. ولكن لإسرائيل مصلحة في التأثير على التطورات في جنوب سوريا في حوض اليرموك، حيث كانت الميليشيات الشيعية تعمل حتى وقت قريب في محاولات تهريب الأسلحة إلى السلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية.
وإذا نظرنا إلى الشمال، من فوق امتداد جبل الشيخ، فإن لإسرائيل مصلحة أساسية في الحفاظ على عزلة حزب الله في لبنان عن أي احتمال لوصول تعزيزات عبر سوريا بأسلحة جديدة. لقد تم تحقيق الهدفين الأولين بطريقة مذهلة. أما الهدف الثالث فهو معقد ويتطلب مراقبة ديناميكية مقرونة بجهد دولي، تحسبا للاهتمام الأمريكي، مع التركيز على المصالح الإسرائيلية. في هذه الأثناء، لا يزال الوضع في سوريا يخضع لحالة من عدم اليقين غير المسبوقة.
أشار الحاخام جوناثان ساكس في إحدى مقالاته إلى كتاب “عدم اليقين الجذري” للاقتصاديين البريطانيين جون كاي وميرفين كينغ. وتشدد حجة الكتاب على التمييز بين إدارة المخاطر وعدم اليقين. المخاطر يمكن حسابها، ولكن لا يمكن حساب عدم اليقين. لذلك، في حالات عدم اليقين، يوصون بالتركيز على فهم الموقف، على مسألة ما يحدث، ويجب الإجابة على هذا السؤال ليس بحسابات الاحتمالات، ولكن بالملاحظة التي يجب أن تكون منفتحة على منظور جديد والاعتراف بالتهديدات الجديدة. وهذا هو الوضع الذي يهتز فيه النظام الإقليمي حاليا.
إن التوجه التركي تجاه زعامة الجولاني زعيم الثوار يدعو إلى القلق الشديد. ولا يخفي الرئيس أردوغان طموحه في تعزيز تجديد الإمبراطورية العثمانية. إن الاستيلاء على دمشق من قبل القوات الإسلامية السُنّية يحمل قوة مثيرة من شأنها أن تعيد توحيد القوى الإسلامية المتطرفة، إلى حد إعادة تأسيس دولة القاعدة في سوريا. وتحتاج هذه المخاوف إلى توضيح، والهدف الثالث من عمليات الجيش الإسرائيلي في المنطقة هو التركيز عليها.
وسط ذلك، بقيادة أردوغان أصبحت المنطقة الكردية شرقي نهر الفرات، مهددة بهجوم عسكري للقضاء عليها وستشكل هذه القضية اختباراً لقدرة الإدارة الأمريكية على الدفاع عن حلفائها الأكراد. ومع انهيار نظام الدولة الذي بني بموجب اتفاقيات سايكس بيكو في نهاية الحرب العالمية الأولى، ظهرت الفرصة لتصحيح الظلم الذي لحق بالأكراد في ذلك الوقت. ثم اشترط الرئيس الأمريكي ويلسون دخول الولايات المتحدة في الحرب بمطلب حل الإمبراطوريات ومنح حق تقرير المصير للشعوب التي لا دولة لها.
لقد تركز اهتمام المجتمع الدولي بشأن حق الأقليات في تقرير المصير خلال القرن الماضي بالأساس على القضية الفلسطينية. وفي هذا الوقت، من الجدير بالذكر أن حوالي ثلاثين مليون كردي أصبحوا محاصرين خلال القرن الماضي من دون أي إمكانية لإقامة دولة. وتواجه الولايات المتحدة، كقوة عظمى، تحدياً غير مسبوق في هذه المرحلة فيما يتصل بقدرتها على التأثير في تشكيل الاتجاهات الناشئة في الفوضى الإقليمية التي نشأت في سوريا. في كل حروب إسرائيل الماضية، بما في ذلك حرب الاستقلال، كانت نهاية الحرب تتحدد من خلال اتفاقيات مع دول ذات هوية معترف بها كانت موجودة قبل الحرب واستمرت في الوجود بعدها. وهنا، وللمرة الأولى، تواجه دولة إسرائيل واقعاً غير معروف تماماً. أفق الاتجاهات الناشئة لم يتبلور بعد، وتواجه دولة إسرائيل فترة اختبار مصيرية لم تشهدها من قبل.
الصحوة الإسرائيلية في سوريا
إن انهيار نظام الأسد والاتجاهات الناشئة في سوريا في الأسابيع الأخيرة تطلبت من دولة إسرائيل الرد فوراً، الأمر الذي يعني اختراق حواجز عقلية (الفيلا في الغابة). بالإضافة إلى الجهد الدفاعي الذي تطلب من الجيش الإسرائيلي اختراق مناطق المنطقة العازلة – بين إسرائيل وسوريا – فإن الجهد الإسرائيلي للاحتفاظ بالمنطقة السورية أمام الحدود كان له غرض استراتيجي خاص يتمثل في إظهار القوة العسكرية الإسرائيلية على الحدود.
التطورات في سوريا تتجلى في هذه الخطوة التي تعبر عن الفهم بأن إسرائيل إذا ما وقفت في حالة تأهب سلبي دفاعاً عن خط حدود مرتفعات الجولان، دون أن تمتلك الشجاعة الكافية لتجاوز أسوار(الفيلا)، فلن يكون لديها الروافع المناسبة لخلق موقف من خلال التأثير والمساومة لضمان المصالح الأمنية الإسرائيلية في النظام الناشئ في سوريا ولبنان. ومن هذا المنظور، وبشكل معجزي، أجبرت التطورات في سوريا السياسة الأمنية الإسرائيلية على تحطيم الحواجز التي كانت تكبلها بالتقوقع الوعيوي في حدود (الفيلا).
خلاف من أيام التكوين
منذ بداية المشروع الصهيوني، عانت الجالية اليهودية، بشكل علني وسرى، من التوتر بين اتجاهين ــ التقوقع داخل حدود الفيلا، أو الاندماج في الفضاء العربي. وقد تم التعبير عن التوتر معمارياً أيضاً. في حين تم بناء مستوطنات الهجرة الأولى على طول طريق رئيسي، مثل كفار تابور ويفنيئيل، بطريقة سمحت بحركة العرب واليهود عبر المستعمرة، فإن المستوطنات التي بنيت خلال الهجرة الثالثة وما بعدها تم بناؤها خارج الطريق الرئيسي، على شكل معسكر مغلق. ومن هنا، ومع مواجهة الأحداث، وخاصة أحداث 1936-1939، ونشاط سرايا الميدان التابعة لإسحاق ساديه وفينغيت، نشأ حلاف حول مسألة الخروج من السياج والدخول إلى الفضاء المفتوح. في كتابها “سيف الحمامة”، تحكي أنيتا شابيرا كيف حاول أورد فينغيت قيادة رجاله إلى الدفاع الايجابي خارج السياج.
وقد أثار نهج فينغيت الرفض والمقاومة في كيبوتسات وادي يزرعيل، والتي نشأت من السؤال حول أين يتم رسم الخط حيث من الواضح للجميع أنهم يحمون الوجود. هل هو فقط على خط السياج؟ هل الخروج من السياج هو بالفعل شيء موجود خارج الضرورة التي يتم الدفاع عنها باعتبارها ضرورة وجودية؟ ولم يقتصر النقاش على البعد الأخلاقي فحسب، بل بدأ في البعد العملي.
إن مفهوم الدفاع الذي تبناه إسحاق ساديه وفنغيت حدد الضرورة العملياتية للخروج للمشاركة في الاحتكاك في الفضاء خارج أسوار المستوطنات. وهذا هو تصور جماعة هشومير، منذ بداية تشكيل قوة الحماية العبرية. بالنسبة لهم، لم تكن الحركة الحرة في الفضاء خارج المستوطنات مجرد ضرورة لتحقيق مهمة الدفاع، بل كانت تعبيراً عن تطلعاتهم إلى الاندماج في الفضاء في البعد الثقافي أيضاً. وبإدراكها للحاجة إلى التكامل الإقليمي النشط، اتجهت دولة إسرائيل، تحت قيادة بن غوريون، في سنواتها الأولى، إلى النشاط الاستباقي في المناطق خارج حدود الدولة. فعندما كانت إسرائيل لا تزال تعيش تحت نظام التقشف الاقتصادي، كانت الوفود الإسرائيلية تعمل في البلدان الأفريقية في مجالات الزراعة والأمن. وفي ستينيات القرن العشرين، ساعدت إسرائيل الأكراد العراقيين بمشاركة قوات مظلية إسرائيلية في القتال ضد الجيش العراقي.
جوهر الفجوة المفاهيمية
بين النهج الذي يقتصر على حدود الفيلا، والنهج الذي يتطلب المشاركة الفعالة في الفضاء خارج الحدود، هناك فجوة مفاهيمية عميقة في إدراك الواقع. إن التطلع إلى التقارب يرتكز إلى حد كبير على افتراض أن الوضع الأمني في أي بلد يمكن أن يستقر من خلال خلق وضع قائم على الحدود، مع تقوقع كل بلد في أنشطته داخل حدوده. في سويسرا، على سبيل المثال، نجحوا، في ظل الظروف التاريخية الأوروبية، في الحفاظ على الوضع الراهن الذي يُنظر إليه على أنه نهائي ودائم.
النهج الثاني يتحدى افتراض القدرة على الحفاظ على شروط الوجود في وضع راهن مستقر ونهائي. إن الواقع الإنساني، وخاصة في نظام العلاقات بين البلدان، عرضة للتغيرات والتقلبات غير المتوقعة. وفي هذا النهج، يتم فحص الموقف الاستراتيجي للدولة ليس فقط فيما تتمكن من تثبيته في أراضيها السيادية، بل وأيضاً في التحالفات التي تحافظ عليها مع الكيانات في المنطقة، وفي قدرتها على المشاركة بنشاط في مجالات التأثير التي تشكل الاتجاهات الإقليمية. وهكذا تعمل تركيا في ليبيا ومنطقة القرن الأفريقي، وهي الآن تتجه نحو إنشاء قواعد عسكرية في قلب المنطقة السورية. ولقد انخرطت مصر مؤخراً عسكرياً في الصومال، كما تعمل قطر من خلال قدراتها المالية أيضاً في الفضاء الإقليمي، وحتى بعيداً عبر المحيط. لقد عمل الموساد وعملاؤه ويواصل العمل بتميز، حيث شاركوا في الاحتكاك والتدخل في دوائر قريبة وبعيدة خارج دولة إسرائيل. ومع ذلك، في بعض الأحيان يكون من الضروري أيضاً المشاركة بحضور مرئي، وليس فقط عسكرياً. لقد ثبت أن التقوقع الإسرائيلي في حدود الفيلا، مع ما يترتب عليه من آثار أمنية وثقافية، فشل. وفي هذا البعد أيضاً، يحتاج مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي إلى تحديث جذري.
مركز بيغن السادات – اللواء (احتياط) غيرشون هكوهن
28-1-2025