الانفتاحُ السّياسي والاقتصادي في العالم العربي شروطه وإمكانيات حدوثه
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
لماذا نطرحُ دوماً في تشخصينا للداء السياسي العربي، ومحاولتنا وضع معايير العلاج، أنه من الضروري جداً قيام العرب بمتطلبات الانفتاح السياسي بالكامل، كي يضمنوا لأنفسهم تطوراً وازدهاراً حقيقياً في الداخل، وعلاقات طبيعية ندية متوازنة مع الخارج..
خصوصاً في ظل مناخات دولية لا ترضى أن تتشابك علاقات الدول اقتصادياً مع بعضها بعضاً من دون معايير وأسس سياسية حديثة تأخذ بعين الاعتبار البعد الديمقراطية ومبادئ حكم المواطنة.. بما يعني أنه من الصعب جداً الفصل بين المجالين السياسي والاقتصادي لإقامة الدولة الحديثة المزدهرة.. على الرغم مما يقوله كثير من أنصار السلطات الرسمية العربية أن الفرد العربي لا يهمه في النهاية سوى لقمة الخبز، ورفع مستوى معيشته، مع زيادة فرص العمل؛ أي أنهم يبررون للسلطات تضييقها السياسي على الناس وتغييب المطالب الديمقراطية ونداءات الحرية والحقوق الإنسانية..!!. ويصل بهم الأمر (أي أنصار السلطات الرسمية) أنهم يرفضون أي تغيير ديمقراطي حقيقي بداعي أنه قد يفتح الباب للتدخلات الخارجية، بما قد يفضي إلى إشاعة القلاقل وتعميم الفوضى والنزاعات في الوقت الذي تحتاج فيه المجتمعات العربية إلى ضمان الاستقرار وعدم الاهتزاز ما أمكن للتحسن الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية.. ولذلك من الأفضل أن تقتصر أجندة التغيير في الدول العربية على بند واحد وحيد هو التحرير الاقتصادي، أي وضع الشروط القانونية والإدارية المحفزة على جذب الاستثمارات وتوطينها.
في الواقع يجب علينا هنا الالتفات جدياً إلى نقطة مهمة جداً وهي، أن أي واقع ونشاط اقتصادي لا يولد ولا يتحرك في واقع الفراغ، بل يتحرك وينطلق ضمن جو واقعي سياسي واجتماعي، ولا بد أن تكون له – كي ينمو وينجح – بيئات وإطارات سياسية يتم عبرها تعيين أسس العمل واقعده المفترض اتباعها، مع الوعي بطبيعة الفئات الاجتماعية في ما بينها ومواقعها وقدراتها على العمل والمبادرة الجمعية، وبالتالي آفاق تحولها وازدهارها.. أي أن الاقتصاد يتحرك ضمن مجال السياسية والاجتماع البشري، ولهذا أطلق على هذا العلم مصطلح “الاقتصاد السياسي”.. أي أن السياسة هي التي تقود الاقتصاد، ولكي يكون ناجحاً وفعالاً ومنتجاً يجب أن تكون السياسات التي يقوم عليها ناجحة، وبالتالي فعالة ومنتجة ومنفتحة على المجالين الاجتماعي والثقافي، تدرس وتصمم خياراتها الاقتصادية انطلاقاً من إمكانياتها وقدراتها وانفتاح مجتمعها عليها.. وهذا الانفتاح لا يتحقق ولا ينجز من دون حياة ديمقراطية، ومواطنة حقوقية، وتحريض قدرات الفرد – المواطن وطاقاته الذاتية على الفعل والحضور والإنتاج انطلاقاً من التنمية المستدامة السياسية قبل الاقتصادية…
إن تشدد السلطات في إغلاقها للمجال السياسي، وإعاقة العمل فيه للقوى الاجتماعية أو شلها والتضييق عليها، لم يكن يهدف ولا يهدف إلى شيء آخر في البلاد العربية سوى قطع الطريق على أن يشكل التحول نحو اقتصاد السوق مناسبة لإعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل يقلل من سيطرة الفئات المحدودة المستفيدة منها في الحاضر، وفي ما وراء ذلك منع تعديل موازين القوة السياسية والحيلولة دون تغيير نموذج السلطة الاجتماعية في المستقبل.
من هنا لا تغيير اقتصادي أو لا تحولات اقتصادية جوهرية – مختلفة عما نراه اليوم أمامنا من أشكال لحداثات اقتصادية سلطوية استهلاكية بذخية فارغة – من دون تغييرات سياسية جوهرية في بينة الحكم القائم على صعيد ضرورة بناء حياة سياسية صحيحة عقلانية تقوم على السياسة وحدها، تكون قادرة على الانفتاح ومنع الانغلاق وحدوث الاستبداد.. إنها حقيقةً إعادة السياسية إلى حضن المجتمع.. أي أن تصل الحكومات إلى السلطة والحكم بقوة الانتخاب الحر والنزيه والقانون العادل ومعايير الكفاءة وخدمة الناس والمجتمع، أي بإرادة الناس الطوعية، وليس بقوة القهر والقمع والمعتقلات، وإدخال الشعوب في صلب العملية التنموية الشاملة، ونزع القيود عن مشاركتها الفاعلة في الحركة الوطنية العامة، والتعامل معها كأفراد يحتاجون إلى الاحترام والتقدير والكرامة والعزة، والشعور بالحرية والثقة بالنفس..
وطالما أننها نتحدث عن عالم اليوم أيضاً، نشير إلى أن الإيمان بالتعدد الديني والعرقي والقومي وغيرها يجب أن يدخل كمبدأ في صميم سياسة تلك الدول، فهذا هو الأساس أو القاعدة التي باتت سائدة في عالم اليوم، ولا يمكن لأية دولة أن تعيش وتنمو وتتطور وتَزدهر وتقيم علاقات صحيحة متوازنة مع غيرها من الدول، من دون خط مسارها الداخلي والخارجي بالاستناد على تلك القاعدة الاجتماعية والسياسية، وتركيز معاييرها ومقتضياتها قانونياً وحقوقياً في بنيتها السياسية الداخلية على مستوى الإيجاب الدستوري والسلب الاجتماعي.. أي تفعيلها بضمانات الدستور، ورعايتها بالقانون، ومكافحة سلبياتها اجتماعياً وثقافياً من خلال مبدأ المواطنة.. نقول هذا الكلام مع معرفتنا الواقعية لما آلت إليه دولنا الاستبدادية في تطرفها وانغلاقها السياسي ودورات عنفها الأعمى العدمي الذي ارتكبته ضد شعوبها..
إن العنف (ودورات العنف) لا تتوقف إلا بتوقف (وعدم تغذية أسبابها)، وعلى رأسها: الاستفراد، العصبيات، التعامل العرقي والطائفي.. بناء دولة تشاركية مواطنية، يقتضي نسف كل ما تقدم، من عصبيات حزبية طائفية، وعقلية تسلطية فردية.. فهل سيتمكن السوريون من البدء بمعالجة أسباب عنفهم المستمر منذ عقود، ببناء تلك الدولة المنشودة؟ أم أن التناقضات التاريخية وهشاشة البنى المجتمعية، وهيمنة الذات على الموضوع، مانعة ومعيقة بشكل بنيوي؟!..
في الواقع أثبتت التجاربُ التاريخية للدول والحضارات التي استثمرت في تنمية العقول وصناعة الإنسان وتربيته وتفجير مواهبه وقابلياته، أن الكرامة ليست شيئاً معنوياً بل هي قبل ذلك، وفوقه، مسألة ترتبط بالوجود السياسي والاجتماعي المادي المنفتح للفرد في كل ما يتصل بحركته البشرية.. يعني هي ليست قيمة نظرية مثالية مفارقة في عوالم التجريد الرومانسي.. على هذا الطريق يمكن التأكيد على نقطتين:
1- أنّ المعيار الجوهري لكرامة الفرد البشري هي رفاهيته وقدرته على التمتع بمختلف مفردات عيشه وحياته..
2- مقياس ومعيار شرعية النظم والحكومات يتمثل ويتجلى في مدى تأمينها للفرص والظروف والأرضية الملائمة لوصول الفرد إلى تحقيق رفاهيته وتمكينه من ازدهاره ورفاهيته..