دروب الوجع.. “ما لي والكتابة”
بقلم غسان عبد الله
يحدّثنا التاريخُ العربيُّ في صفحةٍ من صفحاته (التي لا اذكرها!!) المفعمة بالتناقض والكذب والصدق أحياناً والمليئةِ بالغرائب.. وهكذا كلّ تاريخٍ وفي أكثر من كتابٍ وقَعَ عليه أكثرُ من اختلاف أن الحجاج بن يوسف الثقفي حينما مارس لذَّته الكبرى بالتعذيب والقتل بحق صالح من الصالحين (سعيد بن جبير) جلس بعد أيام من مقتله حينما دخلت حالة هستيريا إلى ردهةِ ضميره النائم ليصرخ أيام وأيام (ما لي وسعيد بن جبير)..
ثم يثور ويصرخ مرة أخرى (كبِّلوني بقيود سعيد بن جبير) إلى أن مات بين اختلاف على شخصه.. وهل كان (رجل دولة مفترَى عليه) أو رجلاً إرهابياً من الدرجة الأولى على الرغم من ميل الكفة للرأي الثاني.. وهذه حالة طبيعة لقاتل أو ظالم..
ولكن أن يصرخ سعيد بن جبير: “ما لي والحجاج“.. أو “كبلوني بقيود الحجاج” فتلك حالة مستحيلة ومقلوبة.. واختلاف أدوار غريب بين القاتل والمقتول. بين لاعب كبير بأدوات الموت وبين شخص أخر يجوب في طرق الحقِّ ولا يعرف إلا الحب والتفاني والإخلاص لقضيته.
هل يمكن أن يستغيث الذابح بالآخرين لينقذوه من المذبوح؟!.. قطعاً لا يمكن.. وإن أمكن ذلك فهذا يعني أننا نعيش بوهم مَقيتٍ.. المعضلةُ الكبرى لي هي إنني أعيش هذه الحالة مع الكتابة وأظن أن الآخر (الكاتب) مهما كان… يعيشها مثلي.
الكتابة تكبِّلني وتقتلني كلَّ يومٍ وتلعبُ معي لعبةَ تبادلِ أدوارٍ دائماً… الكتابة توقظني من واقعي المر لتحشرني بوهم رائع وممتع.. تمارس ضدي كل أنواع التجبر والاستبداد وتقودني رغم أنفي إلى جنة الثقافة.. وليس بالضرورة أن أكون كاتباً كبيراً واسماً لامعاً لأعيش الحالة (الحجّاجية) فأنا اعترف إنني كاتب صغير جداً ولكنني عاشق كبير جداً ومتألم وملتذ كبير جداً.
الكاتب (أياً كان) يعيش الألم الواحد بل الأوحد مع الآخرين ولا يهم نوع الثقافة التي تحويه ويحويها بشرط أن لا تكون ثقافة سلطة… الكاتب (أياً كان) يعيش ثقافة السلام وينهل من فكر المعرفة والحوار وقبول الآخر ولا يتغير إن كان نِدُّه يذيق الموت للآخرين ومتعسكر في كل شيء. المتنبي كما مظفر النواب وغابرييل ماركيز وإميل زولا وأحمد مطر كما أنَا كلّنا نعاني.. نتألم.. نصرخ.. نُقتل.. أيضاً كما الحجّاج ووحي الكتابة وشيطان الشعر قتلةٌ كلَّ يوم وكل لحظة.
المعضلة الأكبر هي أن الحجاج – حسب الروايات – كان ينفّس عن ألمه ووخزِ ضميرِهِ بالصراخ!!.. ويَجِدُ من يسمعه ويستمع له حتى لو كان حارسه الشخصي. أما أنا حين أصرخ بكل ما أوتيت من قوة (ما لي والكتابة) فلا أحد يسمعني أو يستمع لي إن لم أجد من يضحك مني ويصفني بالمجنون الأبله.
الحجاج مات بعد أيام قلائل من معاناته فأراح واستراح أما أنا و(نحن) من نمارس ألم الكتابة فما زلنا نتسكع في دروب الوجع.
وحدي من يسمعني ووحدي من يواسيني واعتقد أن هذا حال الآخر (الكاتب) يُمتحن بنبوّة الكتابة ويوحى إليه بالغيب الكتابي والوجع الكتابي يصرخ بالوحي (كبلني بقيود الكتابة) ثم يلتجئ إلى الناس ليصرخ: “إنها معاناة ما بعدها معاناة”.. وأن تمارس الكتابة فمعناه تُحقَن بجرعات من الإنسانية بل وتتضخم تلك الإنسانية في داخلك لتُعلن للملأ بصوت عالي أنك مكبّل ومذبوح وليكون نداؤك صادقاً (ما لي والكتابة…..!!!!).
