همومُ الشاعر.. وهمومُ الكتابة
بقلم غسان عبد الله
مثلما يفرحُ العاشقُ بلقاءِ حبيبتهِ تحت ضوء القمر.. ومثلما تفرحُ الأرضُ بعناقِ حبّاتِ المطر.. ومثلما تفرحُ الأمُ بعودةِ ابنها العائد من السفر.. وكما يفرحُ الفلاحُ بجَنْي الثمر.. يفرحُ الشاعرُ عندما تخرجُ قصائده إلى النورِ وتظهرُ إلى البشر.
لا يمكن أن نقدر حجم ما يعانيه الشاعر قبلَ وأثناء وبعدَ ولادة القصيدة فهيَ أشبه بعمليةِ مخاضٍ عسيرةٍ. فالمرأةُ الحاملُ كم تعاني أثناء الحمل وكم تعاني وتعيش لحظات ترقّب وانتظار لمعرفةِ ما ستلدُ، ذكراً أم أنثى؟! ثمَ تريدُ معرفة ما سينتظرُ مولودها من مستقبلٍ. كذلك الشاعرُ يمضي وقتاً طويلاً وهوَ يفكرُ وينقّب ويبحثُ عن قصيدةٍ تكونُ جميلةً وما أن تظهر أبيات القصيدة ويسجّلها على الورق حتى ينهمكُ في تجذيبها وتنقيحها وتنقيتها من الشوائب كي تخرجَ مصقولةً كالجوهرةِ الثمينةِ المصنوعة من الذهب الخالص. ثم ما يلبث الشاعر أن يعاني من لحظات ترقّبِ نشر القصيدة في هذهِ الصحيفة أو تلك وعندما تُنشرُ القصيدةُ يفرحُ الشاعرُ ولكنّ فرحته الكبرى تكون عندما يسمعُ انطباعاتِ القراءِ الذين أعجبَتهم القصيدةُ وتركتْ عندهم أثراً طيباً.
هذا ما يعني أن القصيدةَ لا تأتي من فراغٍ وإنما تحتاجُ إلى موهبةٍ حقيقيةٍ وثقافةٍ وعمليةِ صقلٍ واسعةِ النطاقِ حتى تخرجَ بثوبها الزاهي الجميل.. لهذا فليسَ بمقدورِ أي شخص أن يتعدّى على حرمةِ الشعرِ والقصيدةِ وينصِّبَ نفسَهُ شاعراً إذا لم يكن يملكُ موهبةً تؤهِّلهُ للإبداع الشعري وإلا كان بمقدور أيّ شخص أن يدّعي الشعرَ حتى وإن كان لا يملكُ أي معرفةٍ بقضايا الشعرِ وعناصرهِ ومقوماتهِ الأساسية. لكنَ الذي يزعجُ أحياناً ليسَ في كثرةِ المتطفلين على موائدِ الشعرِ وإنما كثرةُ المتطفلين أيضاً على موائدِ النّقد. فعمليةُ النقد عميلةٌ خطيرةٌ وصعبةٌ ومعقّدةٌ وتحتاجُ بالإضافةِ إلى الذائقةِ الأدبيةِ السليمةِ، والثقافةِ والمعرفةِ إلى الأخلاقِ العاليةِ والنزاهةِ والصدقِ والجرأةِ وهذا ما تفتقرُ إليهِ معظمُ الكتاباتِ النقديةِ المعاصرةِ للأسفِ الشديد. حيثُ تراوح ما بينَ إطراءٍ ومديحٍ كاذبَيْن أو بين شتمٍ وتجريحٍ وضِيعَيْن أما النقدُ الجادُّ المسؤولُ الواعي والذي لا يهادنُ ولا يجاملُ ويضع الاعتباراتِ الشخصيةَ جانباً فهو قليلٌ جداً بالمقارنةِ مع ما ذكرتهُ من نقدٍ مجاملٍ أو نقدٍ فيه شتمٌ وسبٌ وتجريح. والشاعرُ الذي يتعبُ على قصائدهِ ويعطيها عُصارةَ فكرهِ وروحهِ يحتاجُ من الناقدِ إلى شيءٍ من الموضوعيةِ أو الإنصافِ وأن يأخذَ حقّهُ أو نصفَ حقّهِ على الأقلّ. وكذلك الشاعرُ الذي لا يتعبُ على قصائدِهِ أو أنهُ يدّعي الشعرَ ولا يملكُ الموهبةَ الشعريةَ الحقّة فعلى الناقدِ أن يضعَ النقاطَ على الحروفِ وأن يقولَ لهُ أُخرجْ من حرمةِ الشعرِ لأنها حرمةٌ مقدّسةٌ، وعندما تملكُ الموهبةَ الشعرية بكلِ ما تعنيهِ هذهِ الكلمة من معنى نسمحُ لك أن تدخلَ حرمةَ الشعرِ وتصبحَ شاعراً. هذا الكلامُ يقودنا إلى أن الكتابةَ مسؤوليةٌ كبيرةٌ سواءٌ من قبلِ الشاعرِ أو الناقدِ أو غيرهم من بقيةِ المبدعين. والكاتبٌ الذي يضعُ نصب عينيه ما سيحقّقهُ من أجرٍ أو ما سينالهُ من مالٍ مقابل كتابتهِ لا شكَ أنهُ كاتبٌ فاشل، ولن يسجَّلَ في سجلِ المبدعين.
فمن هنا تأتي معاناةُ وهمومُ الكتابةِ في سائرِ المجالاتِ الأدبية وخصوصاً في مجال الشعرِ والنقد. لأن الشعرَ والنقدَ يتطلبانِ عمليةَ خَلقٍ وإبداعٍ وابتكار. ولماذا الشعرُ والنقد تحديداً دونَ غيرهما من الأجناس الأدبية كالقصة أو الرواية أو المسرح؟، وأجيبَ على ذلكَ بالقول إنَ أمتنا العربية تملكَ شعراء يغطّونَ بعدّدهم السماءَ والأرضَ قديماً وحديثاً وكذلك عددُ النقّاد. والشاعرُ يحتاجُ حتى يُثبِتَ حضورَهُ إلى موهبةٍ وجهدٍ كبيرَيْن وكذلك الناقدُ، أما في القصة والرواية والمسرح فكتّابها قليلونَ إذا ما قورنوا مع الشعراءِ والنقّاد. فمن هنا تأتي أهميةُ أن يتميّز الشاعرُ بصوتهِ الشعريِّ الخاصِ به وأن لا يكونَ صدىً لتجاربِ شعراء آخرين. وهذهِ عمليةٌ ليست سهلةً ضمنَ هذا الركامِ الهائلِ من الشعرِ والشعراءِ. وكذلك الناقدُ يريدُ أن يقدِّم مشروعاً نقدياً متميزاً وخاصاً بهِ وألا يكون مقلِّداً للنقادِ الذينَ سبقوهُ وهذا يتطلَّبُ عمليةَ إبداعٍ وإضافاتٍ وابتكاراتٍ ليستْ مسبوقةً من قبل. هذهِ هيَ همومُ الشاعرِ وهمومُ الكتابة أما القارئُ الذي يتلقّى هذهِ الكتابةَ أو تلكَ يظنُّ أنها عمليةٌ سهلةٌ ويسيرةٌ لأنهُ يجهلُ حجمَ المعاناةِ والهموم والحالات التي يعيشها الشاعرُ قبلَ وأثناءَ وبعدَ ولادةِ القصيدة.