أول الكلام

نحو القمةِ هبوطاً!

بقلم غسان عبد الله

الخلقُ في (بازارٍ) كبير، بحرٌ من الخلقِ يروحُ ويجيءُ من أمامي ومن حولي، كل قطرةٍ من البحرِ متنافرةٌ عمّا حولها، وكل فردٍ من هذا الخلق جزيرةٌ وحدها، وجوه الخلقِ بلا معالمَ واضحة وتكادُ تكون ممسوحةً أو ممسوخةً، كثيرون منهم مقنّعون أقنعتُهم وجوهُ حيواناتٍ متنوعةٍ، أقنعةُ الثعالبِ هي الطاغية.‏

أنظر لما حولي ولمن حولي ببلاهةٍ شديدةٍ، همسٌ يتعالى في أذني، هذه وجوهٌ وليست أقنعةً!‏.. وحيدٌ أنا بين هذا الخلقِ.. وحدةً قاسيةً مريرةً، ليس بينها وجهُ صديقٍ أو رفيقٍ أو حبيبٍ، ضعيفٌ أنا كعودٍ يابسٍ على سطحِ بحرٍ عاصفٍ لذا يبكي قلبي.‏ وكبُحَّةٍ من نايٍ حزينٍ، سمعتْ أذناي صوتَ جدي، نداءً سماوياً حانياً، فطرِبَ قلبي، تذكرتُ أن جدي ماتَ منذ زمن بعيد، جريتُ خلفه وجريتُ حتى تعالى لهاثي فسقطت.‏

عدتُ إلى طاولتي الصغيرة، كانت قد تغيرتْ، لم تعد مربَّعَةً بل دائريةً، درتُ حولها ودرتُ حتى خُرْتُ، فجَلَسْتُ لا أدري من أية جهة.‏ بضاعَتي أمامي ومن حولي.. كاسدةٌ، كاسدة.. لا يسألني أحد من هذا الخلق عنها، أصبحتُ مداساً لأرجلِهِم، وممسحةً لأحذيتهم الوسخة.‏. أصرخُ محتجّاً فلا يسمعُني أحدٌ فأتذكر أني بعتُ قلبي بِحَفْنَتَيْنِ من شعيرٍ يومَ اخترتُ الهروبَ أوَّلَ مرة.‏.  دهرٌ مرّ، وأنا متيبِّسٌ خلفَ طاولتي أو بجانبها، أصابعُ الجوعِ النحاسيةُ قطّعتْ مَعِدَتي فالتويتُ، التويتُ كثيراً أو طويلاً، دموعي سالتْ وسالتْ، شكَّلَتْ نهراً اغتَسَلَ فيه خلقُ البازار.. وتراشقوا غير عابئينَ بنشيجي، فغضبتُ وتوقفتُ.‏. ثاروا وشتموني بما لا أعرفُ من كلمات، احتجاجُهم تعالى، وصراخُهم كان مُصِمَّاً، خائنٌ منهزمٌ أنا. هكذا وصفوني.‏

كشّر سمسارٌ عجوزٌ في وجهي، كان يُجْبِرُ نفسَهُ على الابتسامِ، فرأيتُ ثعلباً عجوزاً شابَتْ لحيتُهُ في المساوماتِ وعَقْدِ الصَّفَقاتِ وقَبْضِ العمولات.‏. قال: اتبعني حاملا ًبعضَ بَضَاعَتِكْ.. فمَضَيْتُ خَلْفَهُ، دخلنا قصراً من قصورِ الحكاياتِ، قصراً‏ جديداً في حكايةٍ ما سمِعَتْها شهرزادُ، مسكينةٌ شهرزادُ، وبائسةٌ قصورُ حكاياتها.‏. ابتسم رجلٌ صغيرٌ فوق أريكةٍ في صدرِ الإيوانِ، لامعاً كانَ كدميةٍ مزيَّنَةٍ، ابتسامتُهُ غَطَّتْ وجهَهُ فلمحتُ طرفاً من قواطِعِهِ وأنيابِهِ الحادة.‏. قال الثعلبُ العجوزُ أو العجوزُ الثعلبُ: مولايَ يريدُ الشراءَ، فهل تبيع؟ وخيرٌ أن تبيع.‏

أخَذَ الصغيرُ الرجلُ أو الرجلُ الصغيرُ الأوراقَ مني، قلَّبَها باشتهاءٍ فخِفْتُ، كان قد صارَ فأراً، ودفَعَ الفأرُ أو الصغيرُ أو اللعبةُ، وأنا قبضتُ، كانت الأصابعُ النحاسيةُ لا تزالُ تُقَطِّعُ مَعِدَتي بقسوةٍ.‏. أسرعتُ خارجاً يتبعني صوتُ السمسارِ: إنسَ الأوراقَ تماماً. وقهقها معاً، الرجلُ اللعبةُ والعجوزُ الثعلب.‏ اشتريتُ طعاماً كنت أشتهيهِ منذ نسيتُ طَعْمَ حليبِ أمي، وحين أكَلْتُهُ صدَمَتْني رائحتُهُ، وثَقُلَ على مَعِدَتي فبكيتُ ليلي كلّه.‏. وحيداً رأيتُني في غرفةٍ كئيبةٍ، ما كان أحدٌ يسمعُ بكائي أو أنيني، في جزيرةٍ معزولةٍ، في قلبِ محيطٍ قبْلَهُ ستُ محيطات كنتُ.‏

حين اشتدّ بكائي وطالتْ مرارةُ وحدتي حَنَنْتُ إلى من أُحِبُّ فجاءَتْني ملاكاً من ملكوتِ الرحمةِ، خفيفةً كفراشةٍ، ناعمةً كصفحةٍ جوريةٍ، شَمَمْتُ رائِحَتَها قبلَ رؤيتِها فَسَكَنَ ألمي وزالَ خوفي فتوقَّفَتْ دموعي.‏. ابتسامَتُها حوّلَتْ المكانَ الكئيبَ إلى جنّةٍ فيها ما تشتهي نفسُ الجائعِ دهراً، فأكلتُ ثمراً، وطَرِبْتُ سماعاً، وانتشيتُ شمّاً، فدارَ من حولي المكانُ، أو درتُ حولَهُ، وحلَّقْتُ دَوَرَاناً، وحينَ شَعَرْتُ بالزَّوَغَانِ، والدَّوَخَان وخِفْتُ السقوطَ ارتميتُ في حِضْنِها، فتلقَّفَتْني وضَمَّتْني بحنانٍ، ومَسَحَتْ وجهيَ المتعبَ، ورأسيَ المثقلَ، براحتِها الناعمةِ الساحرةِ، فزالَ خوفي وألمي وحزني، فنمتُ.‏. نمتُ ساعةً، أو يوماً، أو شهراً، أو دهراً؟ لستُ أدري، وحين استيقظتُ أو فتحتُ عينيّ أو نظرتُ، وجدتني في مكاني نفسه، في جلستي بجانبِ أو خلفِ طاولتي المدورةِ تلك، يحيطُ بي ذاكَ الضوءُ الشفيفُ، في ذلك البازار بخُلْقِهِ النازعِ أو الرافعِ أقنعتَهُ، فأسْنَدْتُ رأسيَ المثقلَ إلى يديّ من جديدٍ، وأطرقتُ أنظرُ إلى أوراقي، بضاعتي المبعثرةُ على الأرض أمامي ومن حولي، وريحٌ تَعْبَثُ بها، وخَلْقٌ يدوسونها غير عابئينَ بها أو بي، فأغمضت عينيّ وانطويتُ.‏. تذكَّرْتُ فاجعتي بنفسيتي التي جعلَتْني أعيشُ بازاراً من الهلوسات أهربُ فيه من خيبتي وخجلي من قرارات تُبعثرُ كرامتي.. وتشتتني بين أنياب ثعالب، وتحطني بين يدي العجوزِ الثعلبِ أدحرجُ صخورَهُ نحو القمةِ هبوطاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *