في ذكراه السّنويّة أين نحنُ من الإبداعِ والتّجديد والتّجدد الدّيني للفيلسوف المرجع السيد محمد باقر الصدر؟
نبيل علي صالح باحث وكاتب سوري
نحتفل في التاسع من نيسان من كل عام بالذكرى السنوية لاستشهاد رجل ألمعي فذ، عاشَ الحياة علماً ووعياً ومسؤولية وانفتاحاً في كل آفاقها ومعانيها، وقدم طروحات معرفية تجديدية في عمق الثقافة الإسلامية لربطها مع المعاصرة..
إنه الشهيد السيد محمد باقر الصدر.. وفي نيسان أيضاً يحتفل العالم في اليوم الحادي والعشرين منه باليوم العالَمي للإبداع والابتكار..
وهنا نسأل أين نحن من إبداعات الشهيد الصدر وابتكاراته النظرية الفلسفية والمعرفية؟ أين أصبحت تطبيقاتها العملية على مستوى العلوم الاجتماعية وتمظهراتها السياسية؟ ماذا أضفنا إليها؟ وهل كنا أوفياء لمدرسته التجديدية التي تعد بحق من أهم مدارس التجديد الديني والعقلانية الإسلامية المعاصرة؟!..
للأسف، لم نرَ ولا نرى أمامنا إلا الندوات والاحتفالات والمؤتمرات والمسابقات الفكرية عنه، من دون أي جديد عملي مثمر، فكري ومفاهيمي منتج ومؤثر، يمكن أن يعطينا إضافات نوعية حقيقية للاستمرار في عطاءاته وتجديدها وإثمارها حضارياً على غير صعيد..!!.
وهنا نتساءل أيضاً عن حقيقة أحوالنا وأوضاعنا العلمية والإبداعية العربية والإسلامية عموماً، ونستعيد البديهيّات التي يفترض أنها ستُسهِم في الارتقاء نحو نهضتنا في المُواطَنة العِلميّة الحقيقية.. لنطرح أمام الجميع: أين العرب وعموم المسلمين من علوم العصر التي يمكن أن يكون لها نتائج وآثار مثمرة على حياة الناس في تقدمهم ورفاههم وسعادتهم بما يعكس جمالية فكرهم وعقلانية طروحاتهم الإبداعية التي أنتجتها عقول مبدعة كثيرة وعلى رأسها وفي مقدمتها شهيدنا الصدر رحمه الله تعالى؟! ثم ماذا حقق العرب من إنجازات إبداعية في شتى علوم الحياة منذ عدة قرون إلى يومنا هذا؟ وأين هو مجتمع العرب العلمي الذي سمعنا عنه كثيراً، وكنا نقرأ عنه في توصيات ونتائج مؤتمرات وندوات كثيرة كانت تعقد في الجامعات وفي غيرها؟!.. وأين ربط العلم بالمجتمع وووإلخ؟!..
يجب أن نقرّ ونعترفَ أنَّ العربَ والإبداع العلمي يعيشانَ سياقين مختلفين، بل في فضائين منفصلين متناقضين رغم كل محاولات الحضور العلمي والإبداعي، ولكن الفردي فقط.. وكل ما لدى العرب اليوم على هذا الصعيد العلمي منقول ومنسوخ ومترجم وووإلخ، ولا علاقة له بالبنى العلمية الحقيقية، لا شكلاً ولا مضموناً.. وأما الحداثة العلمية التقنية الظاهرة التي نراها في بعض مدن وعواصم العرب، فهي لا شك جميلة وخلابة في تنوعها وزخارفها وجماليتها المظهرية، ولكنها تبقى حداثة مشوهة معاقة قشرية استهلاكية ليس إلا، لم تتأسس على معنى المعرفة العلمية الموضوعية.. فلا عقل ولا تنوير ولا حداثة إبداعية.. وكل شعارات التقدم العلمي والاجتماعي والسعي الحثيث والجدي والدؤوب والصادق والسهل لإقامة دول العدل والقانون والمؤسسات – التي هي نفسها قيم النهضة المنشودة – كأساس للازدهار والرفاه، كانت مجرد صرخات في صالونات المؤتمرات والمنتديات والملتقيات..!!. ولم نستفد شيئاً من كفاحات الأحزاب ولا من عقول المفكرين ومنتجي المعرفة – كالشهيد الصدر – لتوعية الناس وتربيتها (وتهذيب وتقويم!!) معاييرها وضوابطها وأخلاقياتها العملية، وتدريبها على قيم التنوير والعقلانية والمدنية والتحضر والعلم.. حتى استفقنا هكذا على مجتمعات عربية متفسّخة ومنقسمة ومفككة ومتطيّفة، عدائية متخاصمة ومفخخة فكرياً وسياسياً ترفض بعضها بعضاً، ويترصد بعضها الآخر، وتنتهك حرمات وسيادة بعضها بعضاً فتتحارب وتتصارع وترهن قرارها ومصيرها للآخر.. وهنا نسأل: أين يكمن ويتحدد جذر الخلل والعطالة، في الفكر أم في السياسة أم في العقل أم في النزعات الفردية الخاصة، أم فيها كلها جميعاً؟!.. ولماذا ما زال مستمراً في بلداننا زمن العطالة العقلية وزمن هيمنة الفكر التكفيري الطائفي بامتياز، وزمن حروب واقتتالات القبائل العربية “القديمة-الجديدة”…؟!!.. إذا كان العطل والخلل بالفعل كما يقال في العقل والمعرفة، في الثقافة السائدة، فأين هو دورنا ودور النخب السياسية وغير السياسية؟ أين أصبحت اجتهادات العقول الرصينة وإبداعاتهم؟!.. وأين هي الاستثمارات في العقول والتربية والتعليم والمعارف العلمية؟!.. ماذا فعلنا على مستوى التربية والتعليم والتنشئة العلمية والانفتاح العقلي والمدني، طوال عقود عديدة ماضية..؟!!!.. وما هي مسؤولياتنا تجاه حقوق الناس وتوفير أجواء مشاركتها في تحديد مصائرها والانتفاع بمواردها وثرواتها؟!!.
هي أسئلة تخص واقع عربي مفتت ومنقسم ومبدد القدرات والطاقات، وربما لم تعد (تلك الأسئلة) ذات معنى وجدوى على صعيد الفواعل الحقيقية.. فالتطورات والتغيرات اللاحقة دفعت الأجيال نفسها لتجاوزها عملياً باحثة هي بنفسها عن متحققاتها واشتراطاتها سواء وصلت أم لم تصل..!!.
لقد كان الشهيد الصدر (شهيد الوعي والمستقبل المضيء) حائزاً على أدوات نقد عقلانية عميقة، أعملت حفراً وتعرية في بنية التراث التاريخي الإٍسلامي، ولكن اليوم أصبحنا في حاجة ماسة لإنتاج عمق معرفي وفكري، اجتماعي وسياسي جديد لتلك النتاجات عبر استكمال بناء عناصر ومعطيات المشروع الحضاري النهضوي الذي كان الصدر من أبرز كتّابه ومنظّريه، في ظروفنا المعقدة الراهنة التي يعاني فيها العرب والمسلمون ضغوطاً داخلية وخارجية قاسية في مختلف المجالات الحياتية الخاصة والعامة.. وبهذا المعنى نستطيع أن نعمل ونتحرك مع الشهيد الصدر – في فكره واجتهاداته المتنوعة – لنبني الحياة الإنسانية الواعية والمنفتحة، ليس من موقع الوقوف على أطلاله والتباكي على مرحلته وما فعلوه به، والاكتفاء بإقامة المؤتمرات الفكرية والندوات الثقافية الصادحة والمنادية بحياته وأفكاره الثرية، وإصدار البيانات المنمقة عنه، وإطلاق الشعارات الحماسية التي تمجد الشخص وتعظمه، لكنها -في الوقت نفسه- تغيّب منهجه ورسالته وقيمه عن ساحة الحياة، ولكن من موقع متابعة نظرياته وآرائه وطروحاته ومشاريعه الفكرية الرسالية في أن ينطلق خطه العلمي العقلاني الإنساني الأصيل بقوة في مجتمعاتنا المتخلفة.
وحتى لا نكون منظّرين بعيدين (قليلاً أو كثيراً) عن الناحية التطبيقية العملية، نطرح هنا رؤية اجتهادية للشهيد الصدر حول موضوعة المجتمع التي لم يتمكن خلال حياته من استكمال معطياتها.. حيث عالج مسألة المجتمع البشري انطلاقاً من ضرورة معرفة عناصره التي يستنتجها من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/30).. وهذه العناصر هي: الإنسان والأرض (أو الطبيعة)، والعلاقة المعنوية.. وهي العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة من جهة، والإنسان بأخيه الإنسان من جهة ثانية.. فالإنسان كائن متميز خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه فإذا به يجمع بين ضرورات الأرض وتطلّعات السماء.. وهو (أي الإنسانَ) خُلقَ – كما تقرّر النصوص الإسلامية – من تراب الأرض وطينها، وأنه نفخ فيه من روح الله تعالى، فهو مجموع لقطبين اجتمعا والتحما في الإنسان: حفنة التراب تجرّه إلى الأرض، إلى الشهوات، إلى الميول، وتجره إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحطاط وانحدار؛ وروح الله التي نفخها فيه تجره إلى أعلى تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات الله إلى حيث أخلاق الله، تخلّقوا بأخلاق الله، إلى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها، إلى حيث العدل الذي لا حد له، إلى حيث الجود والرحمة والانتقام، إلى حيث الأخلاق الإلهية..
وهذا الإنسان واقعٌ في ريح وتيار هذا التناقض، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي، وتركيبته الذاتية الداخلية.. وهذا التناقض – الذي احتوته طبيعة (وجبلّة) الإنسان وطرحته قصة آدم – له حل واحد فقط هو الشعور الواعي العميق بالمسؤولية العملية، ولكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل؛ لأنه لا يحل هذا الجدل، وإنما الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي يتكلفه الارتباط بالله المثل الأعلى المطلق يحس الإنسان من خلاله بأنه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم وعلى العدل. وهذه العلاقةُ المعنوية هي التي سماها القرآن الكريم بــــــ (الاستخلاف).. وحينما نلاحظُ المجتمعات البشرية نجد أنها تشترك جميعاً في العنصر الأول والعنصر الثاني فلا يوجد مجتمع بدون إنسان يعيش مع أخيه الإنسان ولا يوجد مجتمع بدون أرض أو طبيعة يمارس عليها دوره الاجتماعي.. أما العنصر الثالث.. ففي كل مجتمع علاقة، ولكن المجتمعات تختلف في طبيعة هذه العلاقة، وفي كيفية صياغتها، وهذا العنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع، حيث أنَّ كل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها.
ويعتقدُ الشّهيدُ الصّدر أنَّ المبدأ الأساسي لحركة المجتمع وصياغة النظام الاجتماعي القادر والمنتج، هو مبدأ “المثل الأعلى” الذي يتطلع الإنسان جاهداً لتمثل معانيه وتطبيق صفاته وقيمه في حركة الواقع الاجتماعي وغير الاجتماعي، وعياً وحكمة ومسؤولية، يقولُ تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾(العنكبوت/69).. بما يعني أنَّ المحتوى الداخلي للإنسان هو أساس الارتقاء والفعل والحضور، وهو أساس التغيير الاجتماعي على طريق الوصول للوصول إلى تلك القيم (أو بعضها)؛ لأن هذا المبدأ الغائي هو الذي يجسّد الغايات التي تحرّك التاريخ.. يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير وهذه الغايات التي تحرّك التاريخ يحددها المثل الأعلى، فإنها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته للجماعة البشرية في حياتها.. المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود إليه كل تلك الأهداف.
والإنسانُ – كأحد مفردات وعناصر البناء الاجتماعي – هو القاعدةُ الأساس في عملية البناء الحياتي الاجتماعي، وفي أية عملية إصلاح وتغيير وتحوُّل نحو مواقع أرقى في الفكر والعمل والسلوك الخاص والوطني العام.. ومنطلقُ ذلك هو بناءُ النفس الإنسانية التي ستتغير -في ضوء طبيعة هذا التغيير الداخلي- كل الأدوار والأوضاع والعلائق والروابط الاجتماعية التي هي بمثابة البناء والتأسيس الخارجي للذات الداخلية الكامنة.. فالإنسان هو أساسُ الوجود ومحوره، وهو صانع التاريخ، ولذلك فإنّ تمتّعه بحقوقه (التي أقرّتها الشرائع كلها وعلى رأسها الأديان السماوية)، وبقوى العقل والإرادة والاختيار، يترتب عليه بناء الخارج والواقع بكل مفرداته وتعيّناته وقواه المادية والعملية على مستوى رسم السياسات وبرامج العمل وآلياته، والخطط التنفيذية وغيرها..
والتغيير الذاتي هنا جوهري، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّىٰ يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم﴾ (الرعد/11)، وهذا ما يؤكده الشهيد الصدر في فهمه لدور المحتوى الداخلي للإنسان في تغيير الأوضاع الخارجية للمجتمع، حيث إن المقصود من تغيير ما بالأنفس، هو تغيير ما بأنفس القوم، بحيث يكونُ المحتوى الداخلي -للقوم كقوم وكأمة- متغيراً؛ وإلا فإن تغيير الفرد الواحد أو الفردين أو الأفراد الثلاثة لا يشكّل الأساس لتغيير ما بالقوم، وإنما يكون تغيير ما بالقوم تابعاً لتغيير ما بأنفسهم كقوم، وكأمة.
نعم، لقد نجحَ الشّهيدُ الصّدر في المجهود الفكري الرصين الذي بذله لتكوينِ وبناء تلكَ المعارف في أكثر من مجال معرفي، ببراعةٍ وإبداع تجديدي، حيث تمكّن من اكتشاف المذاهب الفكرية لكل حقل معرفي بحث فيه وحلل مضامينه ومعطياته، ومنه الحقل المعرفي الاجتماعي الذي قدّم وأنتج فيه شهيدنا الصّدر الكثير من الإضاءات الاجتماعية الرصينة التي تتعلق بمقومات تأسيس المذهب الاجتماعي الإسلامي، والعلاقة بينه وبين المجتمع المدني، ومدى إمكانية نشوء وانبثاق هذا النمط الاجتماعي المدني في بيئتنا الاجتماعية الإسلامية.
ومحاولته تلك جاءت للتأكيد على أنّ الإسلامَ يملكُ القدرةَ والبنية والكفاءة المعرفية الذاتية لمعالجة أسباب تفجُّر المشكلات الاجتماعية، والتي تعودُ – في حيّزٍ كبيرٍ وواسع منها – إلى طبيعة التكوين والتنشئة الاجتماعية للفرد، أي طبيعة مضمونه الداخلي، المفترض أن تتم صياغته على المبادئ الإسلامية الأخلاقية والحقوقية.. فالإسلامُ عقيدةٌ متكاملة حيّة، ونظامٌ فكري واجتماعي للفرد والمجتمع والحياة، ومنهجٌ عمليٌّ للتفكير والتربية.