صاحبي في منفى الروح “وحده الشاعر يعرف لماذا يصاب شاعر بالذبحة الـ… شعرية”.
بقلم غسان عبد الله
مرةً ثانيةً أسبلُ أهدابي على جرحِكَ، يا مولى الجهات الهائماتْ.. قلقٌ مشترَكٌ نرصدُه من مئذنات الشِّعر.. مَن هبَّ من اللَّوعة وانصبَّ كما الشَّمعةِ في إبريقِ ليلٍ ساهرٍ بين عذارى الكلماتْ؟ كيف قنديلٌ رمتْه الرّيحُ؟ كيف المركبُ النَّشوانُ مخذولاً من الأمواج؟ كيف الزَّهرةُ البيضاءُ ملقاةً على ضفَّة شايٍ؟ هكذا قلبكَ.. نايٌ ثقَّبتها أغنياتُ الوجد..
يا عازفُ رفقاً.. رقرقِ الإيقاعَ أنقى، هو ذا الفتى الشّابُ محمولاً على كفّ الشّتاءْ، جسداً محتشداً بالكونِ، عيناهُ على العتْمة شرفاتُ ضياءْ، حوله عائلةٌ يجمعها ليلُ ابتهالٍ ودعاءْ: يا سلامَ الفرحِ الوافدِ على بعدٍ من الأسفارِ والأمنياتِ، ذاب الفتى الرائعُ الطَّافحُ عشقاً، هطلتْ من شفتيه قطراتٌ من رحيقٍ، ونمتْ في عنقه الصّاعدِ أمداءُ بريقٍ كنَّ زرقاً، وبناتُ الشّعر من أجفانه يبنين أفقا.. آه يا باسطَ كفِّ العشقِ على رأسِ الفتى المشاكسِ، العاشقِ للأرضِ يدخُلُها تراباً شهيداً.. فرفقاً.. رفقا.. أيُّ قلبٍ يكنزُ العالمَ فيه ثمّ لا ينتابهُ الشَّرخُ؟ ويبني فوقَ دمعهِ المهراقِ أفقا.
هو الدّمُ الفائرُ حوارٌ بين أممِ التعبِ والموتِ الأحمر يتناغَمْ.. دائراً بين قبابِ الزّرقة العُليا، انسجامٌ وانفصامٌ، غليانٌ عليانٌ، أفُقٌ يصغُر، أو برعم نور يتعاظَمْ.. آه يا ناشر ضوء الأنس في برزخ العاشق..
جمعَ الشابُ أطرافَ الخِيامْ، غَجرٌ في صوتِه يرتحلونْ، ألقٌ يخفيه خلْفَ الحجُب الأولى.. دعاءٌ وقيام!!.. أرّقته لحظةُ الوجدِ بالنداء منبعثاً من نبس شفاهِ الشهيد الرائعِ المقال، والباعثِ في الروح الهيام، تعاطَتْ معه الإشعاعَ في مهد السّلامْ، عندما أشرَقَ من طلّته ومضُ حنانٍ، مالت يمينُه المفعمةُ بالضوءِ والأمنياتِ، مالتْ معها الأرضُ، استفاقَ الثمرُ النَّائمُ في روحين من ماءٍ، وقامت لغةُ الخَلْق على عرش الكلامْ، جمع الفتى الغارقُ بحزن الجهاتِ أطرافَ الحلمِ المترامي خلف غيابات الظلامْ.. عندما بعثَرهُ الوقتُ شعوباً من غجَرْ، شفَّ في عينيه قنديلُ القَمَرْ، سهرتْ في راحتيه الرِّيحُ، كانَتْ من جنوبِ القَلْب تأتي، وعلى أقصى الشّرايين تسدّ الأفْقَ، فليكمل إذاً بالألقِ الباقي مداراتِ السَّفَرْ!!
منفيٌّ يتقن لغة العشقِ، والرّحلةُ طالتْ، بعد أن يتركَهُ الجمع، لمن يستندُ الفتى المنسوجُ من جرحٍ.. والمغرورقُ بالأسى؟ كم شالَ على أكتافه صلبانَ أكوانٍ، وشالتْ قدماهُ رمْلَ هجراتٍ، وأحلامَ ترابٍ، وخطىً ضاقَتْ بها الأرضُ… فَمنْ أوسَعُ؟!.. ماضٍ يتداعى في خطرْ؟؟.. أم غدٌ لم يَبقَ منهُ غيرُ أشباحِ صُوَرْ؟؟!.. نحنُ يا ذا الجرح المضمّخ بالأسى بابُ وجدٍ، أو جحيمْ؟! نحن يا فتانا في الهجراتِ مأساةٌ على لوحِ النَّعيمْ، أُلفةٌ أم هجرةٌ؟ جمعتْنا الأرضُ أم شرَّدنا الإيقاعُ في صحرائه؟.. شُدَّ الوَتَرْ!!.. نحن بدوٌ وحَضَرْ.. ظاهرٌ نبطنُه، أو باطنٌ فينا ظَهَرْ.. كلَّما ملْنا رموزاً نحو صَفْو الكَأْسِ.. طالَ الشّرحُ والكأسُ انكسَرْ، دخلتْ بستانَنا الرّوحيَّ أفواجُ الدَّراويشِ، وعُبَّادُ الجمال المدَّخَرْ.. فإذا ما اكتشفَ العاشقُ في بستانِ الروحِ أنَّ الدَّمعَ برتقالٌ، وأنّ الوردَ الأرجوانيَّ قد أُنشئَ في هيئةِ نَزْفٍ قُرْبَ رمّانٍ، سفَحْنا العُمرَ في نظْم لآلئِهِ، فلمّا كادَ أنْ.. صارَ حَجَرْ؟! كيف للفتى المرميِّ خلفَ سياج القهرِ عمراً أن يكتملَ البستانُ في عينيهِ والبستانُ حلْمٌ قد عَبَرْ.
ما الّذي يَسكِبُ فينا يا صديقي عسَلَ القَدَرْ، وهذا عالمٌ مشتعلُ الأيدي، ونحلُ الحبِّ يذوي في الخريفْ؟ مَا الّذي يجعل قلباً شقّه دمُ العشقِ، ليستولدَ منهُ خفقةَ العمرِ الأرقى، منصوباً كما خيمة نارٍ.. هكذا.. ينتقلُ الوجهُ، وروحٌ يتحوَّلْ.. هكذا يصبحُ يا فتى اللازوردِ الشفيفِ هكذا يُصبِحُ أجَملْ.
يا رؤانا المرتجاةُ المرميةُ من شاهقِ العمرِ إلى أعماق الحفر.. أن يضيقَ الكونُ، أن تتّسع الرّؤيةُ، إذ نُوديتَ من قبَّرة الجبالْ: كنْ على هامتها الزّرقاء مشعَلاً.. فليكنْ!.. لو سقطَ العالَمُ، أن نمضي إلى ظلٍّ قريبٍ أو بعيدٍ، لنعيدَ الخفقَ من أوَّله، ولنرفَعَ الجَمْرة في أحداقنا، من روابينا لنملأ بضعَ أقداحٍ للحظةِ الإشراقِ في مائدة الحزن العظيمْ.
يا أميرَ الخرابْ.. نحن نسلُ التّرابْ.. أفقٌ من أصابعنا، وسحابْ.. في ضمائرنا لا نُسمّى، وفينا دليلُ الكلامْ.. والقصيدةُ ساحرةٌ تتمايل خلفَ نوافذنا سوف نصطادُها.. سوف نقتادُها نحو عشبِ المنامْ.. ونضيءُ لها نارنا ونغنّي لها من غرامِ اللّهيب مقامَ النَّوى ثمّ نسكنُ في ظلِها وننامْ.. بينما سوف تَروي الأنامُ عن قصائدنا سيرةً للهوى.. وتغفو بظلِّ ثريا الانعتاقِ هكذا.. بأمنٍ.. وبسلامْ.