ترامب.. وموسم حصاد الجزية من الخليج وسوريا
بقلم توفيق المديني
دشنت جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البلدان الخليجية منذ عودته إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، وشملت زيارته كلاً من المملكة العربية السعودية، وقطر، والإمارات العربية المتحدة..
وهي الجولة الخارجية الأولى له في ولايته الثانية التي بدأها قبل مائة يوم، قضاها في إعادة ترتيب علاقات واشنطن الخارجية وفق معايير جديدة، عنوانها الرئيس مزيد من الرسوم التجارية، وخدمة أمريكا أولاً.. وشكلت جولة ترامب إلى البلدان الخليجية من يوم الثلاثاء 13 مايو واستمرت حتى 15 أيار/ مايو2025، مرحلة تاريخية مهمة في العلاقات الاستراتيجية الاقتصادية والتجارية مع شركاء واشنطن في الشرق الأوسط، حيث تركزت زيارة ترامب المعروف عنه بعقله التجاري ومنطق “البزنس”(أي الحصول على الجزية المالية من حكام بلدان الخليج، والتي قدرت بنحو أربعة تريليون دولار، أي 4000 مليار دولار: موزعة على النحو التالي: 1000 مليار دولار من المملكة السعودية، و1600مليار دولار من مشيخة قطر، و1400 مليار دولار من الإمارات، كثمن لتأمين الحماية الأمنية والعسكرية الأمريكية لأنظمة مجلس التعاون الخليجي)، من خلال تحقيق مكاسب مالية خيالية، وإبرام الصفقات الكبيرة في مجالات الطاقة والاستثمار، وبيع الأسلحة الأمريكية، إلى جانب جهود مواجهة التحديات المشتركة مثل الإرهاب والنفوذ الإيراني والتغيرات في سوق الطاقة العالمي، ورفع العقوبات المقروضة على سوريا.
وما يؤكد لنا ذلك، طبيعة الوفد المرافق لترامب في هذه الجولة، والمتكون إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي روبيو، ووزير الخزانة وعدداً من كبار “وول ستريت” ووادي السيليكون، ورؤساء تنفيذيين لشركات أمريكية كبرى. وفضلاً عن مرافقة بعضهم ترامب ضمن الوفد الرسمي، انخرطوا جميعاً في مفاوضات حول شراكات واستثمارات متبادلة مع الدول الخليجية الثلاث التي زارها ترامب، خصوصاً في مجال تكنولوجيا الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
الشراكة الاستراتيجية بين أمريكا والسعودية
تعيد زيارة ترامب للسعودية إلى الأذهان اللقاء التاريخي الذي جمع الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت، على متن “يو إس إس كوينسي” عام 1945، وهو اللقاء الذي مهّد لعقودٍ من الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن عمرها ثمانية عقودٍ، ارتكزت على المصالح المشتركة في مجالات الطاقة، والأمن، والاستثمار.
وتعدّ السعودية شريكاً عربياً مفضّلاً للولايات المتحدة، والدليل هو إجراء ترامب أول اتصال له من داخل البيت الأبيض منذ بداية ولايته الرئاسية الثانية في كانون الثاني (يناير) الماضي بالرياض والتحدث إلى الأمير محمد بن سلمان. والحال هذه، فإِنَّ اختيار ترامب المملكة العربية السعودية وجهة أولى في زيارته الخارجية الرسمية لم يكن مصادفةً، بل جاء بعد تصريحات أكد فيها أنَّ زياراته ستُوجه نحو الدول التي يمكن أن تُبرم معها بلاده صفقات واستثمارات حقيقية. ما يُميز هذه الزيارة هو الحجم الهائل من الاستثمارات التي بلغت تريليون دولار، وهو رقم يفوق بكثير الاستثمارات التي تم الاتفاق عليها في الزيارة السابقة لترامب.
تحت ثريات فخمة، رحّب ترامب بالوعد الذي قدّمه بن سلمان، باستثمار 600 مليار دولار، ومازح أن هذا المبلغ يجب أن يصل إلى تريليون دولار. وقال ترامب للأمير: “لدينا اليوم أكبر قادة الأعمال في العالم، وسيغادرون حاملين شيكاتٍ كثيرة”. وأضاف “في ما يتعلق بالولايات المتحدة، نتحدث عن مليوني وظيفة على الأرجح”.
أما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان فقد قال 2025: إنَّ المملكة تتطلع إلى فرص استثمارية بقيمة 600 مليار دولار مع الولايات المتحدة، وتأمل في أن تصل القيمة إلى تريليون دولار. وفي وقت لاحق، أصدر البيت الأبيض بيانا أكَّد فيه أنَّ “الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقّعتا أكبر صفقة مبيعات دفاعية في التاريخ، بقيمة تقارب 142 مليار دولار”، لتزويد المملكة الخليجية “بمعدات قتالية متطورة”.
وأشار أيضاً إلى أن شركة “داتا فولت” السعودية “تمضي قدماً في خططها لاستثمار 20 مليار دولار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة”. ويأتي ذلك غداة إعلان الرياض إطلاق شركة جديدة للذكاء الاصطناعي تحت اسم “هيوماين”، تأمل أنّ تؤدي دورا محوريا في هذا المجال.
المملكة السعودية تحولت إلى منطقة صراع تنافسي بين الصين والولايات المتحدة، لكنَّ المملكة نجحت حتى الآن في الحفاظ على توازن استراتيجي بين القوتين، إذ تعتبر الصين شريكاً اقتصادياً رئيسياً، دون أن يمنع ذلك من توسيع الشراكات مع أمريكا. وهناك مبالغة في بعض التقارير التي تتحدث عن رغبة الولايات المتحدة في إقصاء الصين اقتصادياً عن السعودية، فالمشاريع الصينية في المملكة مستمرة ولا يمكن إنهاؤها بسهولة. والمملكة السعودية تنتهج سياسة خلق قطاعات جديدة تسمح باستيعاب شراكات مع كل الأطراف، ما يجعلها دولة ذات قدرة على المناورة الذكية.
حجم الاستثمارات بين السعودية وأمريكا
بعد بضعة أيام، خلال خطابه أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، اقترح ترامب أن ترفع السعودية التزامها تجاه الولايات المتحدة إلى 1000مليار دولار، ودعا أيضاً المملكة العربية السعودية وأوبك إلى خفض سعر النفط، في الوقت الذي وصف فيه الأمير محمد بن سلمان بأنه “رجل رائع”. وفي الفترة الأخيرة صرح وزير المالية السعودي محمد الجدعان بأنَّ المملكة العربية السعودية لديها “استثمارات تزيد عن800 مليار دولار في الولايات المتحدة.
وأشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إلى تصريحات ترامب، خلال زيارته الأولى للرياض عام 2017، بأنه حصل على استثمارات بقيمة 450 مليار دولار في الولايات المتحدة، فيما تؤكد الصحيفة أنَّ إجمالي صادرات السلع والخدمات الأمريكية إلى السعودية خلال فترة ولاية ترامب الأولى من عام 2017 إلى عام 2020 بلغ 92 مليار دولار فقط.

هدية قطر لترامب
استقبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الأربعاء 14مايو 2025، في الدوحة ثانية محطات جولته الخليجية التي بدأها أمس الأول الثلاثاء من الرياض، ويختتمها اليوم الخميس في الإمارات. وعقد ترامب والشيخ تميم بن حمد آل ثاني، جلسة مشاورات مغلقة استمرت لنحو ساعتين شهدا في أعقابها توقيع عدد من الاتفاقيات. وقال أمير قطر خلال استقباله الرئيس الأمريكي، في الديوان الأميري: “جميعنا يريد إحلال السلام في المنطقة ونأمل أن يتحقق ذلك هذه المرة. أعلم أنك رجل سلام وتريد إحلال السلام في المنطقة”.
وسُلِّطت الأضواء على تلقّي الرئيس الأمريكي ترامب هدية ثمينة من الأمير القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وهي عبارة عن طائرة بوينغ 747 تبلغ قيمتها الشرائية بنحو 400 مليون دولار، لاستبدال طائرة “إير فورس ون” التي يتنقل فيها ترامب وعمرها 40 عاماً، لتكون بمثابة طائرة الرئاسة الجديدة، قبل أن تُنقل إلى استخدامه الشخصي.
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء أنَّ الخطوط الجوية القطرية قدّمت طلباً “قياسياً” لشراء 160 طائرة بوينغ بقيمة تزيد عن 200 مليار دولار، وذلك خلال توقيعه مجموعة من الصفقات في الدوحة رفقة أمير البلاد.
وجاء في بيان البيت الأبيض: “وقّع الرئيس ترامب في قطر اتفاقية مع قطر تُسهم في تعزيز التبادل الاقتصادي بقيمة لا تقل عن 1.2 تريليون دولار (1200مليار دولار). كما أعلن ترامب صفقات اقتصادية تجاوز مجموعها 243.5 مليار دولار بين الولايات المتحدة وقطر، بما في ذلك صفقة تاريخية لبيع طائرات بوينغ وجنرال إلكتريك للمحركات إلى الخطوط الجوية القطرية”.
قمة خليجية أمريكية.. واللقاء بين ترامب والشرع
احتضنت العاصمة السعودية الرياض، يوم الأربعاء الماضي، أعمال القمة الخليجية – الأمريكية الخامسة من نوعها، بمشاركة عدد من قادة ومسؤولي دول مجلس التعاون الخليجي، بينهم أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وأمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، إضافة إلى ولي عهد أبو ظبي الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ونائب رئيس الوزراء العُماني أسعد بن طارق آل سعيد.
وشهدت القمة الخليجية الأمريكية لقاءً استثنائيّاً بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، في خطوة تُشكّل محطّة رئيسية في مشهد الشرق الأوسط الجديد، وسط دعوة ترامب الشرع إلى الانضمام لاتفاقيات إبراهام والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وحول الشأن السوري، قال ترامب: “ندرس تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية الجديدة، وطلبت رفع العقوبات عن سوريا للسماح لها بالتقدّم والازدهار”. كما أعلن أنّه “سنواصل ضمّ المزيد من الدول إلى اتفاقيات إبراهام في المستقبل”.
موقف الشرع
من جهته، شكر الشرع بن سلمان على جهوده في رفع العقوبات عن سوريا، وقال إنّ “قرار ترامب رفع العقوبات عن سوريا سيُسهم في تحقيق الأمن والاستقرار وسيفتح صفحة جديدة لإعادة بناء البلاد”. وأكَّد الشرع على ضرورة انسحاب إيران من سوريا، داعياً الشركات الأمريكية للاستثمار في النفط والغاز بسوريا.
وعقب اللقاء الذي جمع ترامب بالشرع في حضور بن سلمان، أفاد البيت الأبيض بأنّ ترامب دعا الشرع إلى الانضمام للاتفاقيات الإبراهيمية مع الكيان الصهيوني، وأبلغه أنَّ لديه فرصة لتحقيق إنجاز تاريخي في سوريا. كما دعا ترامب الرئيس السوري إلى ترحيل الفصائل الفلسطينية التي تصنفها واشنطن “إرهابية”، وطلب منه مساعدة أمريكا في منع عودة تنظيم “داعش”، بحسب البيت الابيض. وطالب الرئيس الأمريكي الشرع بـ “تولي مسؤولية” مراكز احتجاز تنظيم داعش في شمال شرق سوريا.
خاتمة.. سوريا الولايات المتحدة
يُعَدُّ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا، بوساطة سعودية، احتضانًا للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، القادم من حضن الجهاد التكفيري، والذي أصبح يريد التحرُّرِ من عقدة “تهمة ماضيه الإرهابي” التي تلازمه، والمدفوع اليوم من قوى إقليمية تركية وسعودية وقطرية، ودولية (أمريكا وفرنسا) تريد عبره إعادة الإمساك بسوريا، التي باتت تعاني من الصراعات الطائفية التي شملت المناطق ذات الأغلبية الدرزية في محيط دمشق والسويداء، ومن استمرار العنف الطائفي الذي بات يتنقّل، منذ سقوط نظام الأسد، من منطقة سوريّة إلى أخرى، وغدا يشكّل تهديداً حقيقيّاً لوحدة البلاد الترابية والمجتمعية، إضافة إلى استغلال الكيان الصهيوني التوتر الطائفي الذي تشهده سوريا ليعيد إنشاء منطقة عازلة في الجنوب الغربي السوري، حيث يفرض نوعًا من الحظر على دخول قوات الحكومة السورية إلى المنطقة، ويسعى بذلك إلى تحقيق هدفه المتمثل بتفتيت سوريا إلى كانتونات طائفية، وهو سيناريو ربما تتجاوز تداعياته الحدود السورية لتشمل كل منطقة المشرق العربي، وبصورة خاصة لبنان والأردن.
في مقابل رفع العقوبات المفروضة على سوريا خلال عهد النظام السابق، عرض الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع على نظيره الأمريكي دونالد ترامب صفقة ثروات معدنية على غرار أوكرانيا، وطرح الشرع أيضاً فكرة بناء “برج ترامب” في دمشق، وذلك في دفعة للولايات المتحدة يقوم بها وسطاء يضمون رموزاً من السعودية وتركيا، كما عرض الشرع المحادثات من أجل الانضمام إلى “اتفاقيات إبراهيم”، وإقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، كما فعلت الإمارات والبحرين في ولاية ترامب الأولى، إضافة إلى استعداده للموافقة على منطقة منزوعة السلاح تسمح للكيان الصهيوني بالبقاء في جنوب – غرب سوريا، حيث أقامت القوات الصهيونية منطقة عازلة قرب مرتفعات الجولان المحتلة منذ 1967. وكانت إدارة ترامب قد اعترفت في عام 2019 بسيادة الاحتلال الصهيوني على الجولان السوري المحتل.
وعلى الرغم من تفادي الحكام السوريين الجدد الصدام مع الكيان الصهيوني، فإن هذا الأخير تحول إلى تهديد وجودي لسوريا، وتحدّي لوحدتها ونظامها الجديد، ما عاد بالإمكان الاستمرار في غرز رؤوس الحكم الجديد في الرمال درءاً للخطر، بل صار محتّماً فعل شيء لمواجهته، أو التسليم بالاحتلال الصهيوني للجولان وجنوب غرب سوريا.
الشرع أمام خيارين، الأول خيار التنكر للثوابت الوطنية والقومية للدولة السورية، وهو ما يعني التفريط بالسيادة الوطنية للدولة السورية، بحكم وجود أربعة احتلالات لأراضيها(صهيونية وأمريكية وروسية وتركية)، والخضوع للإملاءات والشروط الأمريكية الصهيونية، مقابل البقاء في الحكم، ورفع العقوبات، وتحويل سوريا إلى جمهورية موز تعتنق الليبرالية الرأسمالية المتوحشة التي تقودها الشركات العملاقة الأمريكية، ومرتمية في الوقت عينه في أحضان الإمبريالية الأمريكية، فتوافق سوريا على معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وبالتالي تخرج نهائياً من الصراع العربي الصهيوني، بعد أن تتنازل الحكومة السورية الجديدة عن الجولان بالكامل ليصبح تحت السيادة الصهيونية، وبعد أن تتنازل أيضاً عن الجنوب السوري لكي يصبح منزوع السلاح وخاضعاً للسيطرة الصهيونية، ولا يحق للدولة السورية الفاقدة السيادة التصرف بثرواته ومياهه الا بموافقة صهيونية..
الخيار الثاني وهو الخيار الوطني، وهو خيار متاحٌ من خلال الاستقواء بالداخل والاعتماد على مقومات وإمكانيات الشعب السوري في مواجهة المخططات الأمريكية – الصهيونية، وهذا لن يحصل إلا من خلال بلورة مشروع وطني ديمقراطي جامع يعالج الشروخ الاجتماعية العميقة التي مزقت البلد على مدى سنوات الصراع، ويطرح نهج المقاومة الشعبية من أجل تحرير الجولان المحتل، واعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية وطنية سورية وقومية عربية وإسلامية، واضطلاع الدولة بواجب حماية كل مواطنيها، وإشراكهم في إعادة بناء مؤسّساتها، بحيث يشعر كل سوري أنه جزء من هذه الدولة، ومواطن أصيل فيها، يتساوى في الحقوق والواجبات مع بقية المواطنين، فيصبح مستعدّاً للدفاع عنها، طالما أنها تدافع عنه، عندها لا تعود هناك “أقليات” تتذرّع إسرائيل للتدخّل بحمايتها، ومحاولة تفتيت سوريا على مذبحها، بل سوريا واحدة موحدة تقف في وجهها.
