الاستثمارات الخَليجية في أمريكا تَقلب مُعادلات الشَرق الأوسط
بقلم زينب عدنان زراقط
بين مايو 2017 ومايو 2025 في زيارتين أمريكيتين للشرق الأوسط، كانت السعودية تفتح أبوابها للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى، على أمل استعادة الحماية الأمريكية، واستعراض الشراكة التقليدية في مواجهة “الإرهاب وإيران!!”؛ بينما اليوم تغيّر كل شيء، ترامب يعود.. لكن كمن يستجدي التموضع في شرق أوسط يُعاد رسمه من دونه.
هل الرؤية الأمريكية الجديدة نحو الشرق الأوسط تغيرت من منطق الحروب والحصار نحو السلام والشراكةِ الاستثمار؟ فهل باتت إسرائيل هي الشريك المهمش لدى أمريكا؟!.
الاستثمار يؤثّر ويصنع القرار
ترامب لم يعد يرَ أن أمريكا يجب أن تكون دولة تمويل الحروب أو دعم الحلفاء بالسلاح بلا مردود. في عالم يُدار بالذكاء الاصطناعي والتقنيات، يزداد خصمه الصيني اللدود ثراءً وتقدّماً بينما تُستنزف أمريكا في حروب لا تنتهي… لهذا، ينقل ترامب ثقل أمريكا من الجبهات المفتوحة إلى جبهة واحدة مركزية: الحرب التجارية مع الصين.
ترامب يعود إلى الرياض، لكن المنطقة تغيّرت، السعودية تقود، وقطر تفاوض، وتركيا تؤثّر، وسوريا محور التغيير ولبنان لاحت له بوادر… على وقعِ حضور خليجي يضبط إيقاع الملفات الإقليمية الكبرى، بشراكة سعودية – أمريكية بصفقة هي الأكبر في التاريخ بأكثر من نصف ترليون دولار، 600 مليار دولار استثمارات من الرياض إلى واشنطن، 142 ملياراً لأكبر صفقة تسليح في التاريخ، 80 ملياراً في مشاريع الذكاء الصناعي والبنية التحتية الرقمية، ورموز التكنولوجيا الأمريكية في القصر السعودي؛ تحوّلٌ عميق من “تابع” إلى “شريك مؤسس”، المال السعودي لم يعد يشتري سلاحاً وحسب، بل يشتري دوراً – وقراراً.
لم تعد السعودية تكتفي بأن تكون حليفاً يُستشار، بل باتت تقود من خلف الستار أو من فوق الطاولة. طلبت رفع العقوبات عن سوريا.. فاستجاب ترامب، معلناً أن “مرحلة ما بعد الأسد” تتطلب مقاربة مختلفة. وقد تدفع نحو تسوية طويلة الأمد في غزة، بضمانات أمريكية وإقليمية. وها هو ترامب يُفاوض استجابة لطلب قطر، التي تقود قنوات التفاوض في الملف الفلسطيني. فيما جاء على ذكر لُبنان 6 مرات على أنه في حسابات المقاربات الجديدة وإنما ينتظر كلمة النسيج اللبناني على ضوء المفاوضات الإيرانية أيضاً.
صحيح أن الاتفاق الأمريكي السوري تضمّن تعهّدات من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تتضمّن ثلاثة بنود. أوّلها إقامة قواعد عسكرية أمريكية في الأرض السورية وقد تكون بديلة عن القواعد الروسية وقد تكون بديلة حتى عن القاعدة التركية التي كانت تُبنى في بقاعدة الـ 4T في حمص (المحاذية للعراق ولبنان). البند الثاني هو التخلّص من المقاتلين الأجانب الذين يبلغ عددهم حوالي 35 ألف أجنبي. والشرط الثالث هو نقل كل الاتفاقيات والاستثمارات الاقتصادية والمالية التي كانت موقّعة مع الروسي ومع الإيراني إلى شركات أمريكية. إلاَّ أن شرط التطبيع مع الكيان الإسرائيلي كان فاتحة هذا الوفاق والتقارب. الأمريكي يُحاول أن تخرج منه إسرائيل واللوبي الصهيوني الأمريكي المتجذّر فيه، إلا أن الواقع الأمريكي في الآونةِ الأخيرة جاء مُغايراً لسياسته المعتادة ولامس تحولاً في طبيعة العلاقة مع الإسرائيلي.

هل أصبحت إسرائيل عبئاً؟
في 2017، كانت إسرائيل حاضرة في كل زاوية من التفاهم الأمريكي – العربي. أما اليوم، فهي الغائب الأكبر عن الجولة التي تشمل السعودية، قطر، الإمارات، وتركيا. للمرة الأولى، تُعاد صياغة القرار الإقليمي دون الحاجة إلى موافقة إسرائيل، أو رضى تل أبيب.
السعودية تأخذ ملفات سوريا وغزة والنووي الإيراني بجدية استراتيجية، وقطر تُعيد تقديم نفسها كمفاوض موثوق، وتركيا تُستعاد كشريك جغرافي لا يمكن تجاوزه، بينما إسرائيل تُراقب من الخارج مقاصة بحجمها على الرغم من سلاحها. ومع دخول السعودية في مفاوضات محتملة لاقتناء مقاتلات 35F-، تفقد إسرائيل امتيازها الاستراتيجي، دون أن تستطيع منعه أو حتى التأثير عليه.
أضف إلى القنبلة السياسية التي سبق وأنّ صرّح وزير الطاقة الأمريكي في إدارة ترامب بأن بلاده تجري محادثات مع السعودية بشأن اتفاق نووي قد يتيح لها تخصيب اليورانيوم على أراضيها.
وقد علّقت القناة على ذلك بقولها: “الحقيقة هي أن أي خطوة من هذا القبيل ضد السعودية قد تضر بإسرائيل، إذ بمجرد أن تسمح واشنطن لأي دولة إسلامية بتخصيب اليورانيوم في المنطقة، فإن إسرائيل ستخسر على الفور حجتها ضد إيران”. بل إن الخوف يتجاوز الرياض. لو قررت الإمارات نفسها، وهي “أعز الأصدقاء” و”أكثر العرب تهذيباً” على الطريقة الإسرائيلية، أن تطوّر برنامجاً نووياً مشابهاً، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية سترى في ذلك تهديداً لا يقل خطورة.
السلاح النووي لا يعرف الحلفاء، وفي منطق القوة الإسرائيلي، لا فرق بين نووي إيراني “عدائي” ونووي سعودي “براغماتي” أو إماراتي “هادئ”. فالكل يهدد المعادلة ذاتها، أن تكون إسرائيل القوة الوحيدة في الشرق الأوسط القادرة على – إطلاق النار النووي – ولو لم تعلن ذلك رسمياً.
ترامب الذي أنهى حربه على اليمن خلال 24 ساعة، وقال بوضوح: “أوقفنا الهجمات لأنهم توقفوا عن استهدافنا” على الرغم من مراهنة إسرائيل بحمايتها في تصعيدها. هذا الحدث ليس معزولاً. بل يأتي في سياق أوسع من الانفلات السياسي والعسكري الذي يقوده نتنياهو، بدءاً من توسيع الحرب على غزة، مروراً بالضربات المتكررة في سوريا، وتصعيد الخنق الاقتصادي للقطاع، دون اعتبار لتحذيرات أمريكية حتى ولو كانت غير معلنة. استمر نتنياهو في فتح جبهات متعددة دون غطاء سياسي أو قانوني، ما جعله في نظر العديد من المراقبين حليفاً مقلقاً، لا يمكن ضبطه.
في تغيّرٍ استراتيجي، نتنياهو حوّل “إسرائيل” من رصيد إلى عبء، والأحداث الأخيرة تؤكد تحولاً عميقاً، نتنياهو، الذي طالما قدّم نفسه كامتداد للنفوذ الأمريكي في المنطقة، بدأ يتحول إلى عبء استراتيجي، يدفع واشنطن لتبرير سياساتها، ويُحرج حلفاءها الأوروبيين، ويُربك تحالفاتها الإقليمية، كما في السعودية والإمارات وتركيا.
الدرس واضح في عهد ترامب “الثاني”، لا حماية مطلقة لحليف يصرّ على خوض المعارك وحده، ثم يطلب الغطاء حين تتعقد الأمور. ربما يراهن نتنياهو على المكاسب السياسية أو الميدانية، لكنه بدأ يخسر شيئاً أخطر، ثقة واشنطن وصبرها. ومن هنا، فإن انفلاته قد لا يُكلفه العزلة فقط.. بل خسارة ما تبقى من موقعه كـ “شريك مفضل”.
في الختام، ما بين زيارة ترامب الأولى والثانية، سقطت معادلة الشرق الأوسط الذي ينتظر التوجيه من واشنطن وهو في اتجاهه نحو السلام العسكري ونفضةٍ في الاستثمار، وصعدت معادلة جديدة: شرق أوسط تسوقه العواصم المُمولة.. لا تلك التي تبحث عن دعم. ترامب لم يعد يُملي الشروط، بل يتجاوب مع الرؤية السعودية، ويتبنّى الديناميكية القطرية، ويعيد فتح الخط التركي. ولكن يبقى لكل شي وجهه الإيجابي ووجهه السلبي، فهل كان عربون رفع العقوبات عن سوريا برعاية خليجية أن تصبح أمريكيةً متصهينةً – ببناء قاعدة جوية أمريكية فيها والتطبيع الإسرائيلي -؟ ويبقى السؤال أنه هل على لبنان لأجل نهضته الاقتصادية وإعادة إعماره أن يحذو حذو سوريا؟؟!.
