دوليات

هدنة تجارية بين بيكين وواشنطن.. الصين تكسب الجولة الأولى من الحرب

بقلم ابتسام الشامي

إلا أن الارتياح الذي خلفه في الأسواق المالية العالمية يدفع الكثير من الخبراء إلى الرهان على فرص تطوير المحادثات نحو اتفاق دائم، من دون أن يعني ذلك إمكانية الاطاحة الأمريكية بـ “الانجاز” المتحقق.

الاتفاق المعلن

في خطوة مفاجأة اعلنت كل من واشنطن وبكين التوصل إلى اتفاق يقضي بخفض الرسوم الجمركية المتبادلة بين الجانبين، وذلك بعد شهر ونيف من إيقاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شرارة الحرب التجارية عبر أوامر تنفيذية رفع بموجبها الرسوم الجمركية على وارادات بلاده من مختلف دول العالم.

ويقضي الاتفاق المعلن بعد محادثات تجارية حاسمة عقدها ممثلو الولايات المتحدة والصين في سويسرا خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تعليق معظم الرسوم الجمركية المفروضة على سلع بعضهما بعضا بشكل مؤقت، في خطوة رأى فيها الخبراء مؤشراً على تحسن كبير في العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.

الاتفاق التجاري الذي ينص على خفض الرسوم الجمركية “المتبادلة” بين البلدين من 125% إلى 10%، يبقي الرسوم الأمريكية بنسبة 20% المفروضة على الواردات الصينية المتعلقة بمادة الفنتانيل سارية، ما يعني أن إجمالي الرسوم على الصين سيستقر عند 30%. وبموجب الاتفاق الجديد، ستلغي الولايات المتحدة رسوماً جمركية إضافية بنسبة 91% على المنتجات الصينية، فيما ستخفض بكين بدورها رسوماً إضافية بنسبة 91% على الواردات الأمريكية، كما سيعلق البلدان الرسوم المتبادلة بنسبة 24%. ويأتي هذا التطور بعدما كانت الولايات المتحدة قد رفعت رسومها الجمركية على البضائع الصينية لتصل إلى 145%، فيما ردت بكين برفع رسومها على البضائع الأمريكية لـ 125% ما ادى إلى انهيارات كبرى في الأسواق المالية انعكست سلبا على الاقتصاد الأمريكي نفسه.

إعلان التوصل إلى الاتفاق التجاري سرعان ما انعكست أصداؤه الإيجابية في الأسواق المالية العالمية، ولدى المستثمرين حول العالم الذين رحبوا بهذا التقدم. وبحسب البيانات المستقاة من الأسواق المالية، ارتفعت العقود الآجلة لمؤشر ناسداك بنسبة 3,6%، في حين صعدت العقود الآجلة لمؤشر S\&P 500 بنسبة 2,8%، وسجل مؤشر داو جونز ارتفاعا يقارب 1,000 نقطة، أو ما يعادل 2.3%، وفقا لشبكة CNBC الأمريكية. كما ارتفع مؤشر الدولار الأمريكي (ICE U.S. Dollar Index) بشكل ملحوظ، حيث صعد بنسبة 1.3% ليصل إلى 101,63، وهو المؤشر الذي يقيس أداء الدولار مقابل سلة من العملات العالمية. وفي أوروبا، ارتفع مؤشر Stoxx 600 الأوسع نطاقا بنسبة 0,7% خلال التداولات الأولى بعد الاعلان عن الاتفاق.

وتعقيبا على الاتفاق، أكد وزير الخزانة الأمريكي أن واشنطن وبكين اتفقتا على خفض متبادل للرسوم الجمركية بنسبة 115%، واصفاً الاتفاق بأنه خطوة “تاريخية” لم يسبق أن حققها أي رئيس أمريكي سابق. وأوضح أن الاتفاق يتضمن آلية لمحادثات تجارية مستمرة بين الجانبين، لضمان تنفيذ التفاهمات ومتابعة المستجدات. وبحسب الوزير الأمريكي فإن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذا الاتفاق لتحقيق توازن تجاري أكبر مع الصين، ودفعها إلى الانفتاح أكثر على استيراد السلع الأمريكية، بما يعزز الصادرات الأمريكية ويقلل من فجوة العجز التجاري، التي ارتفعت بشكل كبير خلال ولاية الرئيس جو بايدن، وفق ما أعلنه الممثل التجاري للبيت الأبيض.

وشدد الوزير نفسه على أن العمل مع الصين سيستمر لضمان تطوير العلاقات التجارية بشكل مستدام، لافتاً إلى أن تعليق جزء من الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً يمثل فرصة لإعادة بناء الثقة بين البلدين، وفتح آفاق أوسع للتعاون الاقتصادي في المستقبل.

بدوره الوفد الصيني عقد مؤتمراً صحافياً وصف فيه ما حدث بأنه “حوار صريح ومتعمق وبنّاء”. وقال لي تشنج قانج، إن “الحروب التجارية العالمية التي أثارتها أو بدأتها الولايات المتحدة استحوذت على اهتمام عالمي لكن موقف الصين تجاه هذه الحرب التجارية كان واضحاً وثابتاً، وهو: الصين لا تريد خوض حرب تجارية، لأن الحروب التجارية لا ينتصر فيها أحد. اما نائب رئيس الوزراء الصيني فقد حرص على التوضيح: “إذا أصرت الولايات المتحدة على فرض هذه الحرب علينا، فإن الصين لن تخاف منها وستقاتل حتى النهاية. نحن مستعدون للعمل معاً”.

ردود الفعل

وإزاء هذا التطور وانعكاساته الإيجابية طرح السؤال حول دوافع التوصل إلى الاتفاق وكذلك تموضع الرابحين والخاسرين منه، وفي ما اعتبرت الأسواق المالية الرابح الأكبر، برزت الصين كقوة اقتصادية قادرة على فرض شروطها على الولايات المتحدة الأمريكية ودفعها إلى تقديم تنازلات. وفي هذا الإطار، كتب النائب الأمريكي عن الحزب الديمقراطي إريك سوالويل على منصة “إكس” أن ترامب “تراجع أمام الصين.. كما قلت لكم”.

بدورها حللت مجلة الإيكونيميست الاتفاق واعتبرت أن الصين لم تقدم تنازلات كبيرة، لكنها وافقت على خفض الرسوم على السلع الأمريكية إلى 10%، ورفعت الحظر عن طائرات بوينغ الأمريكية التي تحتاجها في أسطولها المدني. كذلك، ألمحت بكين إلى احتمال تخفيف القيود على تصدير المعادن الأرضية النادرة. ورأت أن تراجع واشنطن عن التصعيد يبعث برسالة أوسع إلى قيادة الحزب الشيوعي الصيني، مفادها أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الجاهزية لتصعيد طويل الأمد، سواء اقتصادياً أو عسكرياً، بما في ذلك احتمال التحرّك ضد بكين في ملف تايوان، وأضافت المجلة أنه لا شك “أن الاتفاق يعزز مكانة الصين السياسية والاقتصادية، ويمنحها صورة الطرف الثابت في مقابل إدارة أمريكية متخبطة.

ومع تقديرها لموقعية الصين المتقدمة في الاتفاق تطرح الإيكونيميست، علامات استفهام حول ثبات الاتفاق، وتشير إلى وجود شوكَتين في ذيله الأولى، أن النجاح الكبير قد يدفع ترامب إلى إعادة النظر فيه، وهو احتمال قائم في ظل تقلب مواقفه. علماً أن بيانات سوق الشحن البحري، تشير بحسب بلومبيرغ، إلى أن الشحنات تزايدت بشكل سريع في محاولة لاستغلال نافذة الـ 90 يوماً المنصوص عنها في الاتفاق. والثانية، أن زوال خطر التصعيد قد يدفع الحزب الشيوعي الصيني إلى التراجع عن الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، خصوصاً تلك المرتبطة بتحفيز الاستهلاك الداخلي. وهذا ما يفسر، وفق التقرير، تراجع سوق الأسهم في هونغ كونغ بنسبة 2% في 13 أيار، على الرغم من الأخبار الإيجابية. ويخلص تقرير المجلة إلى القول إن “من السهل إحراج أمريكا.. لكن من الصعب إبرام صفقة تدوم”.

وفي سياق متصل بتفسير أسباب التوصل إلى الاتفاق، لفت لواه تشين شينج، الباحث المشارك في معهد الدراسات الأمريكية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية CASS، في مقابلة مع صحيفة “الشرق” القطرية إلى أن “الصين والولايات المتحدة شعرتا بالألم الفوري والآثار الملموسة لرفع الرسوم الجمركية المرتفعة، حيث صعّدت الدولتان الرسوم بسرعة إلى مستويات باهظة بلغت 145% و125% على التوالي في نيسان، ما جعل التجارة مجمّدة تقريباً”، معتبراً أن “الاجتماع تمكن من تحقيق تقدم في مثل هذا الوقت القصير”. وأكد الباحث نفسه أن “التوقف شبه الكامل في التجارة يؤكد مدى سرعة شعور كلا الاقتصادين بتأثير زيادة الرسوم الجمركية”.

من جانبه رأى صن تشين جهاو، رئيس برنامج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمركز الأمن والاستراتيجية الدولية بجامعة تسينجهوا CISS، في حديث لصحيفة “الشرق”، أنه “يمكن مواجهة الأحادية الأمريكية دون التصعيد إلى المواجهة”، مشيراً إلى أن هذه المحادثات أرسلت أيضاً هذه الإشارة إلى اقتصادات أخرى بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها الذين يخوضون معاركهم الجمركية الخاصة مع واشنطن.

وفي إطار التنبيه من التداعيات الخطيرة للرسوم الجمركية على كلا البلدين، لفت عضو المؤتمر الاستشاري الصيني، جيا تشينج قوه إلى أن “حرب الرسوم الجمركية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين تنبع من القلق الاستراتيجي بشأن صعود الصين”، مضيفاً أن واشنطن تهدف لتضييق الفجوة المتزايدة في التصنيع من خلال التدابير الاقتصادية، سعياً للحفاظ على موقعها المهيمن. محذراً من أن “النطاق الهائل، والطبيعة التكاملية للتجارة بين الصين والولايات المتحدة يعني أن مثل هذه التدابير قد تؤدي إلى اضطرابات في سلسلة التوريد العالمية، وينتهي بسيناريو الخسارة للجميع مع آثار جانبية على الاقتصاد العالمي”. مضيفاً أن “على الصين مقاومة الأحادية الأمريكية لحماية المصالح الأساسية للبلاد على المدى القصير.

وكما يتضح من إجراءاتها المضادة للرسوم الجمركية المتناسبة، فإن السلام على المدى الطويل يتطلب الحوار المستمر والرفض المشترك للأحادية”، لكنه حذر من أن “المخاطر كبيرة للغاية في حالة العودة إلى الصراع”.

خاتمة

طوت الحرب التجارية الأمريكية ضد الصين صفحة بتقدم واضح لمصلحة الأخيرة، ومع الارتياح الذي خلفه الاتفاق التجاري بين الجانبين، فإن الشكوك إزاء قدرة الاتفاق على الصمود بقيت حاضرة، في ظل الحديث عن تنازل أمريكي لا يتناسب والصورة التي خرج بها ترامب عند إطلاق حربه التجارية ولغته المتعالية بإخضاع الدول، فضلاً عن سرعة تبدّل مزاجه وقراراته غير المدروسة التي قد تضع “الهدنة” في مهب الريح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *