العَقلُ في المَعنى والدور الرّؤية الإسلاميّة وضرورة الرّشد العقلي
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
دائماً ما نذكر كلمة العقل ونشير إليها في كثير من أحاديثنا ومقارباتنا وتوصيفنا لسلوكيات أفراد ومجتمعات، حيث تأتي كلمة العقل غالباً لتوصّف الحالة الإيجابية لإعمال حركة الفكر والتدقيق المعرفي في أية حالة أو موقع أو رؤية ما..
والعقل ارتبط تاريخياً بنظرية المعرفة التي تعني امتلاك الإنسان لرؤية ما حول حياته وموقعه ودوره ومسؤوليته في كل ما يتعلق بوجوده على هذه الأرض.. أي امتلاكه لفكرة ورؤية ما حول ذاته والأشياء، أو علمه بها.. بما يتطلب تحريك عقله تجاهها وحولها، وبحثه عن حقائق الأشياء وطبائعها وبنيتها.
لقد بحثَ علماءُ المسلمين الأوائل في مفهوم العقل، في سياق حديثهم عن الفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه وغيرها من المعارف الفكرية والفلسفية التي برعوا فيها بعد العهد الإسلام الباكر الأول.. وقد ظهرت نتيجة بحوثهم تلك نظريات أو مقاربات فكرية عديدة حول مفهوم العقل وما يمكن أن يمثله ويعنيه في الخط ووجهة النظر الإسلامية، حيث اعتبروه قدرة وفعلاً غريزياً فطرياً غير مكتسب، لا بنية مادية فيزيولوجية.. وحضوره الفعلي يقوم على وجود مسلّمات قائمة فيها تشكل بذاتها علماً ضرورياً لازماً بما يمكّن الإنسان من بناء قواعد المعرفة التي تصبح مكتسبة.. يقول تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة 73)، أي هي دعوة للتفكر والتدقيق والتحليل، وهذا يعني أن العقل ليسَ جوهراً قائماً بذاته كما اصطلحَ عليهِ فلاسفةُ اليونانِ كأرسطو وغيره، إذ أنّ قولهُ تعالى: لعلّكُم بمعنى الرّجاء، وما كانَ مرجوّاً كانَ عَرَضاً يجوزُ عدمُه. وبهذا الاعتبار يعد العقل قوة يحصُلُ بها العلمُ وليست منهُ، والعلمُ المُترتّبُ عن تلكَ القوّةِ؛ هو مجموعُ ما تحصَّلَ من السّمعِ والبصرِ والفؤادِ.. يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78).. فالسّمعُ والبصرُ وسائطُ وأدوات وسبل للوصول إلى المعرفةِ من المحسوسِ (الماديّ)، وأمّا القلبُ (الفؤادُ) فهو محلُّ النَّظَرِ والفكرِ المُتحصَّلِ من عالمِ المادّةِ عبرَ وساطةِ السّمعِ والبصرِ، كما بيّنَ ذلكَ تعالى في قوله ﴿لهم قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾(الأعراف: 179).
إذاً، تتكون بنية العقل في الرؤية الإسلامية من العلم الضروري والقدرة على المعالجة في كل ما يتصل بالتحليل والتركيب والحفظ والتذكر والإدراك والتقييم والمقارنة والتوصيف والتفكيك وأخذ القرارات وووإلخ.. وقد ينعكسُ دور العقل في بعض الحالات على الأحاسيس، والتصورات، والعواطف، والذاكرة، والتفكير، والرغبات، والدوافع، والخيارات، واللاوعي، بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة بالشّخصيّة، كما يتصف بكونه ظاهرة يمكن إدراكها، ولا تقتصر على الإنسان، بل يمكن تواجده عند الحيوانات أيضاً، كما يمكن للعقل أن يكون خارقاً، أو مطلقاً، أو فائقاً..
وتوجد تقسيمات متعددة للعقل، يمكن أن نستعرضها معرّفة وفق ما يأتي:
– العقل النظري: هو العقل الإنساني نفسه عندما يبحث معطيات الواقع الخارجي بوصفه حقائق إخبارية، تخلو من أي عنصر أو نسق توجيهي هادف.
– العقل العملي: هو العقل الإنساني نفسه عندما يتناول قضايا السلوك وشؤونه وأحكامه، ويتحدث عن الواجب إيجاده في نسق توجيهي هادف.
– العقل القبلي: يُراد به لون من أحكام العقل المتنوعة، وهي تلك الأحكام التي يدركها الذهن البشري قبل التجربة، ومستقلًا عن أي تصديق وقضية مسبقة.
– العقل البعدي: هو العقل الذي يتخذ من معطيات الواقع التجريبي الخارجي أساساً لأحكامه وشرائعه.
– العقل البدهي (الأولي): هو العقل الذي يختص بالأحكام المدركة ببداهة العقل وأولاً من دون اعتماد على تجربة أو برهان.
وعلى الرغم من وجود أهمية للعقل في الرؤية الإسلامية لكنه يبقى لوناً أو معياراً من معايير المعرفة الناقصة التي لا تكتمل إلا بوجود معيار أعلى وأرفع وأضمن وأعمق وأرسخ.. أي أنها تحتاج في مصداقيتها اليقينية للوحي كمعرفة مطلقة خصوصاً عندما يتطلع الإنسان للوصول إلى المعرفة الكلية حيث ”العلة الأولى”، فهذا أمر غير ممكن وغير قابل للتحقق من دون الوحي كمصدر معرفة خارجي.. وهذا هو اليقين العقلي (المعرفي) الذي يشترط وجود ”الوحي” ضمن مكونات نظرية المعرفة..
لقد ذُكرتْ كلمة العقل ومشتقاتها تسعاً وأربعين مرة، جاءت في جميع مكرراتها بصيغة الفعل، ولم تأت هذه المادة بصيغة الاسم.. ثم إن مادة (عقل) ومشتقاتها وردت في القرآن على عدة معان، منها:
1- عَقَل بمعنى المعرفة والعلم، جاء وفق هذا المعنى قوله جلّ وعلا: ﴿وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون﴾ (البقرة: 75)، أي: عرفوه، وعلموه. وقوله تعالى: في قصة النبي موسى بني إسرائيل: ﴿كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون﴾ (البقرة: 73) أي: لتعرفوا وتفهموا أنه محقٌّ صادقٌ فيما جاءكم، فتؤمنوا به، وتتّبعوه.
2- عَقَل بمعنى القلب الذي يفهم حقائقَ الأمور، من ذلك قوله: ﴿وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ (الرعد: 4)، أي: لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله عز وجل.. ونحوه قوله تعالى: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها﴾(الحج: 46) أي: قلوب يعقلون بها حجج الله على خلقه وقدرته.
3- عَقَل بمعنى التفكر في آيات الله ومواعظه، من ذلك قوله عز وجل: ﴿ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون﴾ (العنكبوت: 35) أي: يتفكرون في آياته، ويعتبرون من مواعظه. ومثله قوله تعالى: ﴿وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ (الروم: 24) أي: يتفكرون فيما بثه سبحانه من آيات في هذا الكون، تدل على عظمة خلقه وإبداعه الدال عليه، وأن الأمر كله بيده عز وجل.
4- عَقَل بمعنى المنع عن الشيء، من ذلك قوله: ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون﴾ (البقرة: 44).
5- عَقَل بمعنى اتباع الحق والانقياد له، من ذلك قوله تعالى: ﴿إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون﴾ (الأنفال: 22)، والصم البكم هم الذين لا يعقلون، أي الذين لا يتبعون الحقّ.
وأما عن علاقة العقل مع شريعة الله تعالى، فهي علاقة متينة، لأن العقل وسيلة لفهم النص وتأويله، فالعقل يحكم بما حكم به الشرع، والعكس صحيح.. إنها علاقة توافقية تكاملية.. وليست علاقة تناقضية تنازعية.. والعقل ذاتاً يحكم بالحسن والجمال والقيم الإنسانية، ويرفض القبح والسوء والمظالم والشرور.. واستدلاله دوماً ينطلق على طرق الخير والسعادة..
وإذا ما كان للعقل تلك الأهمية في الفكر والرؤية الإٍسلامية التي اعتبرته حجرَ الأساسِ للمعرفةِ الإنسانيّة، نسأل اليوم عن واقع العقل والتفكير العقلي عند العرب والمسلمين ممن أناط بهم الإسلام مسؤوليات البناء الحضاري وأمانة الاستخلاف الرباني وإقامة الحياة على قيم الحق والعدل والإنسانية..؟!.. ماذا أنتجوا وقدموا؟!..
للأسف، يبدو أن العربَ عموماً (ورغم مظاهر القوة الظاهرية الفارغة بطبيعة الحال) هَزموا أنفسهم في لا عقلانية سياساتهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم وتحالفاتهم، قبل أن يهزمهم أعداؤهم في الحروب والمنازعات وساحات الصراع.. إنها الهزيمة الحقيقية للأمة.. هزيمة العقل والعلم والمعرفة (وهزيمة الإرادة) قبل أي هزيمة أخرى..
وللأسف لم يستدعِ هذا الانهزام النفسي والعقلي حتى الآن أية ردود أفعال إيجابية على صعيد إعادة النظر بتلك السياسات اللاعقلانية التي اتبعوها إلى يومنا هذا.. مع أن واقعنا المتخلف اللاعقلاني كان يتطلب – خصوصاً على صعيد موضوع “التقدّم” و”التخلف” – البحث في السياسات الراهنة في بنية الحُكم العربي وأنظمته ومؤسساته ونخبه، في معرفتها وآليات عملها وطرائق إدارتها.. أما البحث في أسباب الاستعصاء العربي من خلال النبش في التراث وتقليمه، وإلقاء اللوم على “العقل العربي” وثقافة المجتمعات، فهو إلهاء ومضيعة للوقت، ولا جدوى منه مطلقاً.. وهو مثل عمل المحرك على فراغ.. فالخلل والمرض يكمن في الراهن وليسَ في الماضي.. لأن الماضي لا يحكم، بل يتم تجييره واستغلاله والتلطي وراءه، والتّنفّع والتربّح النفعي الذاتي من خلفه..
وعلى الرغم من مآسي مجتمعاتنا العربية، المهدودة الحيل نتيجة الفساد ونهب الثروات والاستبداد، وشبه العاجزة عن فعل أي شيء كما يبدو ظاهرياً للكثيرين.. يمكن القول بأن التفكير العلمي والعقلاني، يرشدنا إلى أن الأمة -بصرف النظر عن المعنى العملي الراهن لها- تملك إمكانات وقدرات ضخمة بل هائلة لإعادة ضخ القوة الروحية والمعنوية في شرايينها المتكلسة وشبه المتعفّنة.. والتفكير المهيمن اليوم هو تفكير انفعالي سلبي غير منتج، وهو شعور بالهزيمة النفسية، وإعلان الإفلاس والاستقالة من كل شيء..
بطبيعة الحال، هذا الخط مهيمن على الساحة، وموجود في بلداننا ومجتمعاتنا، وله أشخاصه ودعاته ورموزه وفكره ومؤسساته التي تبث روح اليأس والسقوط والانهزامية، وتعمم ثقافة الاسترخاء والاتكالية، مع ما لدى الأمة من إمكانات هائلة للنهوض وإثبات الذات والحضور.. وربما كان أيضاً من أسباب سريان تلك الروح السلبية، حالة الاستبعاد والإقصاء والتهميش المنظّم والمقصود الذي مورس بحق إنساننا وشعوبنا ومجتمعاتنا..!!..
والسؤال: كيف تستنهض الأمة وكيف تتقدم المجتمعات وكيف نواجه ونقاوم أصلاً من دون وجود مواطن سليم مكرم معافى، بما يجعله قوياً وقادراً ومنتجاً؟!… فقط، بأن يحصل على حقوقه، وتؤمّن له حاجاته.. ويعامل كإنسان وليس كعبد.. ليعيش أجواء الاستقرار والإنتاج بعيداً عن التهميش والإقصاء..
وللتنويه الأخير فقط: العربُ ضحايا أنفُسِهم ولاعقلانيتهم في (أمراضهم، تعقيداتهم، مؤامراتهم، نفاقهم، حقدهم، فسادهم…إلخ)، والآخرون مجرّد حجّة..!. لا أكثر ولا أقل..!!.
