توتر في العلاقات بين بروكسل وتل أبيب.. تلويح أوروبي بعقوبات ضد مسؤولين إسرائيليين
بقلم ابتسام الشامي
على وقع استمرار حربها الإبادية الجماعية في قطاع غزة، اتخذت عدد من عواصم الدول الأوروبية مواقف شاجبة لسياسة تل ابيب حيال الفلسطينيين في القطاع، ودلت المواقف وكذلك بعض الخطوات العملية على تصاعد التوتر بين الجانبين بما قد يؤثر في مستقبل العلاقات.
تسلسل المواقف الأوروبية
شهدت الأيام الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً في انتقاد الكيان الغاصب في الخطاب الرسمي الأوروبي، وعمدت بعض العواصم الأوروبية إلى ترجمة “غضبها” من الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو بحق الفلسطينيين في القطاع سواء من خلال القتل المباشر، أو منعه دخول المساعدات الإنسانية، إلى خطوات عملية، عكست بحسب المراقبين تحولاً في الموقف اتجاه أهم حلفاء القارة العجوز في غرب آسيا. ولئن بقيت الخطوات الأوروبية المتخذة بحق تل أبيب حتى الآن في إطار مراجعة بعض الاتفاقيات أو تجميد تجديد العمل فيها، إلا أنها تعد مؤشراً على ما حذّر به بعض الخبراء الإسرائيليين أنفسهم من أن استمرار الحرب ضد القطاع سيؤدي حكماً إلى اتساع نطاق العزلة الدولية بحق كيانهم الغاصب.
“توتر” العلاقات الأوروبية الإسرائيلية شهد زخماً لافتاً خلال شهر أيار الجاري، ومنذ مطلع هذا الشهر توالت البيانات الجماعية الأوروبية ضد سياسة القتل والتجويع الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. وفي هذا السياق أصدرت كل من أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، لوكسمبورغ، النرويج، وآيسلندا في السابع من الجاري، بياناً مشتركاً اعتبرت فيه “محاولات إسرائيل تغييرَ ديمغرافية غزة وتهجير سكانها، ترحيلاً قسرياً وجريمة بموجب القانون الدولي، وشدّدت فيه على أن غزة “جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين”، وجاء في البيان أيضاً اتهام واضح لتل أبيب بممارسة سياسية التجويع إلى جانب القتل المتعمد. إذ وصف البيان الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2 آذار الماضي بأنه “مانع شامل للمساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية”، مطالباً برفعه الفوري من دون تمييز أو شروط.
وبعد أيام قليلة على بيان الدول الأوروبية الست، أكدت منظمة الصحة العالمية الاتهامات لدولة الاحتلال في ما خص سياسة التجويع المتعمدة، عندما وثّقت المنظمة في بيان صادر عنها في 12 أيار، أن غزة تواجه إحدى أسوأ أزمات الجوع عالمياً، مع وفاة عشرات الأطفال، ووصفت ما يحدث بأنه نتيجة “حرمان متعمد من الغذاء”. جاء هذا البيان قبل أن تُصدر في التاسع عشر من الجاري اثنتان وعشرون دولة من بينها فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، وكندا، بياناً مشتركاً أعربت فيه عن رفضها الآلية الجديدة التي اقترحتها “إسرائيل” بالتعاون مع الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات في غزة. معتبرة أن “النموذج الجديد يفتقر للفاعلية، ويربط المساعدات بأهداف عسكرية وسياسية، ويقوّض حيادية الأمم المتحدة، ويُعرّض العاملين والمستفيدين للخطر”. كما شدّد البيان المشترك على أن سكان قطاع غزة “يواجهون المجاعة وعليهم الحصول على المساعدات التي يحتاجون إليها بشدة”.
وإذا كانت البيانات السابقة قد انطوت على رفض السياسة الإسرائيلية في القتل والتجويع، فإن هولندا دفعت باتجاه خطوات عملية، ملموسة وحساسة ضد تل أبيب لدفعها لوقف إجرامها بحق الفلسطينيين. وفي تحوّل واضح في خطابها التقليدي اتجاه دولة الاحتلال، دعا وزير خارجيتها كاسبر فيلد كامب إلى وجوب “رسم خط أحمر” عبر مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، معلناً تجميد أي دعم حكومي لتمديدها، بالموازاة مع تشديد السلطات الهولندية الرقابة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج.
موقف هولندا هذا سبقه موقف قوي آخر من أيرلندا، مع تصويت مجلس الشيوخ بالإجماع لمصلحة فرض عقوبات على “إسرائيل” ومنع مرور الأسلحة الأمريكية عبر الأجواء الأيرلندية”.
وفي سياق التعبير عن الاستياء الأوروبي من السياسية الإسرائيلية والتلويح لتل أبيب بخطوات تصعيدية وإن كانت رمزية في جوهرها، أوضحت كل من فرنسا، لوكسمبورغ، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا، أن الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة سياسية لحماية حل الدولتين. علماً أن كلّاً من أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج كانت قد اعترفت بدولة فلسطين في أيار من العام الماضي، تلتها سلوفينيا في الشهر التالي، وهو ما رفع عدد الدول الأوروبية المعترِفة بالدولة الفلسطينية إلى عشرة.
على أن التطور الأهم في مشهد التحول الأوروبي اتجاه دولة الاحتلال، جاء من الدولة الراعية والمؤسسة لقيامها على أرض فلسطين المحتلة. إذ أعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال جلسة لبرلمان بلاده في 20 من الشهر الجاري، “تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على ثلاثة مستوطنين ومنظمتين إسرائيليتين متورطتين بأعمال عنف في الضفة الغربية”. وفي خطابه أمام البرلمان وصف الحصار المفروض على غزة بأنه “غير أخلاقي ولا يمكن تبريره”، مطالباً برفعه الفوري. أما رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، فقد دعا بدوره إلى وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية، مؤكداً أن “مستوى المعاناة في غزة لا يحتمل”.
وإلى الموقف البريطاني، أعلنت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، أن الاتحاد سيطلق مراجعة لاتفاق الشراكة مع “إسرائيل”. وقالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد في ختام اجتماع لوزراء خارجيته في بروكسل “لدينا غالبية قوية مؤيدة لمراجعة البند الثاني حول احترام حقوق الإنسان من اتفاق الشراكة مع إسرائيل. إذاً سنباشر هذا الأمر”. وكان لافتاً في كلام كالاس إشارتها إلى أن “هناك أغلبية قوية مع مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل” وإلى أن “هولندا حشدت دعما كافياً لمقترح مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل”، وتأكيدها أن “الضغط مطلوب لتغيير الوضع الكارثي في غزة”.
وبالموازاة مع هذا التصريح اللافت في مضمونه، أعلنت الخارجية السويدية أن بلادها ستتحرك داخل الاتحاد الأوروبي للضغط من أجل “فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين معينين بسبب معاملة إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين في غزة”. وقالت وزيرة الخارجية ماريا مالمر ستينرغارد، في بيان “طالما أننا لا نرى تحسناً واضحاً في وضع المدنيين في غزة، فنحن بحاجة إلى تصعيد لهجتنا، لذلك، سنضغط الآن أيضاً من أجل أن يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على وزراء إسرائيليين بعينهم”. موضحة أن العقوبات ستستهدف “وزراء يدفعون باتجاه سياسة استيطان غير قانونية ويعارضون بنشاط حل الدولتين في المستقبل” مضيفة أن المسؤولين المستهدفين سيكونون موضوع نقاش داخل الاتحاد الأوروبي.
قلق في تل أبيب
المواقف المعبَّر عنها على ألسنة المسؤولين الأوروبيين أثارت غضب تل أبيب وقلقها من استمرار التصعيد الأوروبي ضدها بما يمس جوهر العلاقات الاستراتيجية القائمة، والتي كان من نتائجها دعم أوروبي مفتوح للكيان الغاصب بكافة أشكال الدعم بما في ذلك الاقتصادي، وهو ما تختزنه اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” التي دخلت حيز التنفيذ في حزيران من عام 2000، وهي تمنح الأخيرة الكثير من الامتيازات في سوق الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ حجم التجارة بينهما 46.8 مليار يورو في عام 2022، ما يجعل الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري للكيان الغاصب.
وعلى خلفية المواقف الأوروبية لاسيما موقف المملكة المتحدة، أعلنت تل أبيب رفضها لتصريحات وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، حول فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين ومستوطنين في الضفة الغربية بسبب ممارستهم العنف ضد الفلسطينيين. واعتبر المتحدث باسم خارجية العدو الإسرائيلي، أورين مارمورشتاين، أن “الضغوط الخارجية لن تحيد إسرائيل عن مسارها في الدفاع عن وجودها وأمنها ضد الأعداء الذين يسعون إلى تدميرها”.
وعلى الرغم من الصوت الإسرائيلي العالي في مواجهة الانتقادات الأوروبية، إلا أنه لا يغيّب حقيقة القلق الإسرائيلي من التصعيد، وهذا ما يعكسه إعلام العدو الذي يحذر من تدهور العلاقات الإسرائيلية الأوروبية على ضوء استمرار الحرب في غزة. وفي هذا السياق نشرت صحيفة كالكاليست الإسرائيلية مقالة تحت عنوان “العلاقات بين إسرائيل وأوروبا على وشك زلزال محتمل”، حذّرت فيها من أن الخطوة الهولندية – فرض عقوبات على الكيان الإسرائيلي ومنع مرور السلاح الأمريكي إليه عبر أجوائها – تشكل تحولاً فارقاً في النبرة الأوروبية تجاه “إسرائيل”، وتكشف عن تصدّع متزايد في الثقة السياسية مع تل أبيب، في وقت تتزايد فيه الدعوات لإعادة النظر باتفاق الشراكة الذي يحكم العلاقات المؤسسية بين الجانبين منذ أكثر من عقدين”. وبحسب الصحيفة ذاتها فإن “المبادرة الهولندية لاقت دعماً عاجلاً من عدة دول أوروبية ذات تأثيرٍ واسع، من بينها فرنسا وإسبانيا وأيرلندا والبرتغال، وانضمت إليها مؤخراً السويد. ويصف تقرير الصحيفة هذه الخطوة بأنها “تحول مؤسساتي واضح في موقف أوروبا من إسرائيل حتى من قبل حلفاء تقليديين”.
ووفق ما نقلته كالكاليست، يرى خبراء العلاقات الخارجية الإسرائيليين أن هذه الخطوة “تمثل ذروة التباعد السياسي بين القدس وبروكسل” منذ أحداث 7 تشرين الأول 2023. وأشارت الصحيفة إلى أن “إسرائيل” تواجه لأول مرة في تاريخها، رفضاً واسعاً لجرائمها الممنهجة يتجاوز بيانات الشجب والإدانة، باتخاذ مواقف إجرائية عقابية كخطوة أولى، إذا لم ترتدع وتحترم الالتزام بحقوق الإنسان.
إلى ذلك أكدت صحيفة “تايمز” البريطانية، أن “المملكة المتحدة مستعدة لفرض عقوبات على كبار أعضاء الحكومة الإسرائيلية، حيث تعمل الحكومة مع دول أخرى لفرض عقوبات على وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، ووزير الدفاع إسرائيل كاتس”. مشيرة إلى أن ذلك يأتي في أعقاب” توسيع إسرائيل للعملية البرية في قطاع غزة”، الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية، إلى استدعاء السفيرة الإسرائيلية لديها. وأمام الأخيرة شدّد وزير الخارجية البريطاني، على أن حكومته “لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي في وجه التدهور الحاصل في قطاع غزة”، مشيراً بذلك إلى “تعليق المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية بشأن اتفاق التجارة الحرة معها”، كما أعلن فرض “عقوبات على إسرائيل لبعث رسالة بضرورة إدخال المساعدات لغزة”.
خاتمة
مما لا شك فيه أن هناك تحولاً في الموقف السياسي الأوروبي من تل أبيب بفعل استمرار حربها الإبادية ضد قطاع غزة، وإذا كانت الاستفاقة الأوروبية متأخرة فإن المطلوب أن تنتقل من حيز الأقوال إلى الافعال، علها تستطيع أن تضع حداً للحرب الهمجية التي كانت الدول الأوروبية مساهمة في دعمها وتأمين استمراريتها والتغطية على جرائم الاحتلال فيها.
