أول الكلام

تعبي يتوّجني وأنتَ منافذي

بقلم غسان عبد الله

 ها أنتِ لي وطنٌ على مرِّ الزّمنْ، والموتُ يعصفُ بي فأصرُخُ: لا تكُنْ وحشَ الوجودْ/ إني أضيءُ يديَّ في حلَكِ المُنى وأطيرُ خلفهُما/ فيشعلني‏ النّدى.

قُمْ‏ أيّها الحبُّ المعشِّشُ في ثنايا العمْرِ واقتلعِ الرَّدَى.. ها أنتَ لي فرحٌ يعيدُ طفولتي، منْ أين يأتيني ابتداؤكَ؟ أيُّ نهْرٍ فيكَ يجعلُني ضياءَ فمي؟‏ كم مرةٍ فتِّحتُ نافذتي وأطلقتُ المدى!‏ كم مرةٍ هيأتُ قلبي!.‏

فرَحٌ يكوّنُ زورقاً، وأنا اشتعالٌ في مهبِّ الرِّيحِ يأخذني الحنينُ إلى التمنَّي ثم يطفئني/ أمدُّ يدينِ عاريتين من مَرَحٍ/ ولا أحدٌ سواكَ، وأنتَ تحترقُ في هذي المحنْ.‏. هي رحلةٌ لجنونِ قلبي، للقصيدةِ، للأملْ‏.. هي رحلةٌ للموت فازدهرْ وروداً. أعلنِّي كوكباً للنبضِ وانتشرْ ثلوجاً في فضاءٍ رائعٍ تهمي على وطنٍ جريحْ…‏ ها أنتَ لي حلُمُ الأبدْ، وعلى مداكَ الرّحبِ أبذرُ هذهِ الأشواقَ طفلاً مُدْهِشاً. فإلامَ أُطلقُ مهجتي، والموتُ يأسرُني، وأنتَ بعيدٌ في القلبِ ضاحكٌ كأنكَ تلعبُ؟ مَنْ سوفَ يجعلني طريقَ غدي سواكَ، فكيفَ لا تتوافدُ جُمَلاً وأشرعةً فيعلنني المدى غسقاً، وتؤنسَني بُروجي؟!‏.

حطَّتْ على قلبي القصيدةُ والحبيبُ فاستفقْتُ من القرونْ.. وسرى إليهِ لهيبُه بيمامتينْ، ظلَّ الغريبُ مشرَّداً يهمي على الروحِ الأزاهرَ واحتمالاتِ الندى، مَنْ منهما حلّتْ أرياشها وغارتْ في الترابْ؟ من منهما كانتْ سواها فاصْطَفَتْ قمراً وأطلقتِ الهديلْ؟‏ من أعلنتْ‏ حالاتِها، لغدٍ تخبِّئُهُ السنونْ؟‏ حطّتْ على قلبي القصيدةُ والحبيبُ فانتضى برقاً وكوّنَ موكباً للحبِّ مشتعلاً بأحلامِ الشجونْ. ‏

أتكونُ حلْماً أو رثاءً أو غناءً أو دَماً، أو نبضةً… هذي الطيورْ؟! والبوحُ لا يُغني عنِ الغرقِ المفاجئِ في البحورْ.. تتواكبُ الأزهارُ باعثةً حياتي في المكانْ،‏ أتكوْنُ حلْماً أو رثاءً أو سحائبَ تشتهي همْياً؟ ولكنَّ الفؤادَ يبوحُ بالوطنِ الدفيءْ، والأرضُ نجمتُهُ وهذا الكونُ غايتُهُ ورؤيا ما توهّجَ في كتابِ النبضِ والزَّمَنِ!‏ أتكونُ حلْمي أو رثائي أو غنائي؟!.

نهرٌ وقبّرةٌ وأنتَ منابعي، والكونُ يجمعُنا معاً، والريحُ تخطفُ خافقاتِ الرّوحِ، والجسدُ المضيءُ يصيرُ ملحمةَ المدى.. شجرُ الشواطئِ يرتعشْ.. كم كنتَ مذهلاً مولى الروحِ والقلبِ معي! كانَ التقاؤكَ ذاتَ مجمرةٍ نوافذَ مهجتي.. كانَ ابتداءَ طفولةٍ رجعتْ فأشعلني الزَّهَرْ..

نهرٌ وقبّرةٌ وأنتَ قصيدةُ الزمن العطِشْ.. هل كان حُلْماً ذلكَ الوقتُ المعرّشُ في الفؤادْ؟:‏ مرّتْ طيورُ الحبِّ مسرعةً ومرَّ غروبُها متوهّجاً في أفْقِ روحي فانخطفتُ إلى المدى.. علّي أضيءُ أصابعي/ علّي أقطّرُ ضوءَ نفسي في المدادْ.‏ مرَّ الندى/ مرَّ اتّقادْ/ مرّتْ غيومُ الزّهرِ/ مرّتْ خيولٌ واتساعاتٌ/ ومرَّ مشعوذٌ. والعائدون إلى الرّدى مرّوا/ وبعضُ مزارعين، وفتْيَةٌ مرّوا… ولم تزلِ المواكبُ في ازديادْ!‏ هلْ كانَ حُلْماً ذلكَ الزّمنُ المشعشعُ حيثُ تتّسعُ البلادْ؟‏ هيّا ابذُرْ حُبّاً فقد تهمي الغيومُ على الترابْ، ها يزدهي وقتٌ ويزدهرُ المدى. تتلاطمُ الأمواجُ عاصفةً، يغرّدُ طائرانْ، وتضيءُ أحلامُ التوحّدِ. ألتقيكَ مبتهجاً كالنورِ، أصبحُ ملءَ هذا الكونِ، أعلنُ حالتي، فتطيرُ قبّرتانِ من روحينِ ملتهبتينِ.. أقطفُ من نداكَ تأجّجي.‏ أسرعتُ نحوكَ مُشعلاً روحي بحبّكَ، والرؤى نجمٌ، وأحلامي عصافيرٌ تحوكُ سماءَها.. يا من تظلُّ القصيدة:‏ أبدعْ فرحي‏ وطر بي إلى أفُقِ الحياةْ.. هذي المدائنُ أقفلتْ قلباً ونافذةً، فليتَكَ ترحلُ، فالحبُّ في أرضٍ بعيده…!‏

ها قدْ تجرّأَ خافقي ها قدْ تجرأْ.. زرعَ التوهّجَ بي ومالَ على النّدى يُعطي مداهْ/ من قالَ: إنَّ الكونَ في زمنِ استلاباتِ المدائنِ أمنيهْ؟ مَنْ قالَ: تنكسِرُ الدروبْ؟ أو تختفي الأنهارُ، أو تهمي على الأرضِ الطيورْ؟. أنتَ امتلائي مثلُ قبّرةٍ يطوف غناؤها. مَنْ قالَ: تشتعلُ الطّيوبْ؟‏ ألقٌ شبيهُ العشقْ يغمرُهُ الجمامُ. والكونُ مشتعلٌ يضيءُ به الغمامُ. كم كنتُ أحلمُ أنْ أرى فرحي وقدْ طفحَ الهُيامُ.‏

ها أنتَ أغنيتي.. أبداً يوحِّدُنا الظلامُ.. وإليكَ قلبي سوفَ يرحلُ.. رايتي.. شمسُ ارتعاشاتي وقد هطَلَ الكلامُ.. هيّا ابذرْ أرضي قصائدَ من حنينِ العشْقِ لم يَحُنِ الفطامُ… أخّرتُ قلبي ريثما يُهدي الصباحُ طيورَهُ وأتى ملاكي وهو يبتدعُ الضياءْ.. فازدانَ من فرحٍ وحطَّ بقربهِ يشدو.. كان إذا سارَ على القدمينِ يتركُ أنجماً فوقَ الدروبْ.. كان إذا حدَّثَ يتوّجني الضياءْ.. ‏ كانَ إذا ضحكَ يُكَوْكبُ موطني..‏ كانَ إذا لفظَ كلامَ الرّوحِ يُعلنُه دمي..

أخّرتُ قلبي، آهِ كَمْ أخَرْتُهُ!! جسدي يثقّبُهُ الرصاصْ وأظلُّ أبدعُ من عظامِ الصدرِ زورقْ، ليصيرَ ملحمتي، لكنني فوّحْتُ أسرارَ الجريمةِ قربَ نزفي نجماً وباخرةً وبيرقْ‏.. كم كنتَ رائعاً إذ ابتهجتْ بنا سحبٌ وغطانا ظلامْ!‏ نسعى إلى غدنا ليزدهر التوحّدُ في الختامْ. تعبي يتوّجني وأنتَ نوافذي، وقصائدي في مهجتي لا تستكينْ، آتي إليكَ مُوزِّعاً فرحي على شجرِ الجنوب، قلبي وقبّرتي معي.. هل كانَ حُلْماً أن أراكَ ترتّبُ مدامعي؟ وتفاجئُ بيادري بالقمحِ حيناً والحرائقِ بعدَ حينْ،؟ من لي وقدْ رحَلَ الشراعْ؟ أول الكلام أقول: تعبي يتوّجني وأنتَ منافذي.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *