هامش ثقافي

الناقد.. الأديب.. والمتلقي

بقلم غسان عبد الله

إن علاقة النقد بالأدب علاقة تكاملية إبداعية من كلا الطرفين، وليست علاقة تنافر وتضارب، وتصيّد الهفواتِ والزلات، وقد يكون الناقدُ مبدعاً كما الشاعر أو الأديب، أو قد يتفوّق عليه أحياناً إن كان ناقداً حصيفاً، يمتلك مخزوناً معرفياً كبيراً. وبرأيي أن علاقة الناقد بالقارئ أهم من علاقة الناقد بالأديب، لأن الأديب عندما أبدع منجزه الأدبي لم يضع في الحسبان أن هناك من سيأتي ويدرس ما كتب دراسة نقدية ليبين مواطن القبح والجمال في نتاجه.

الناقد بالنسبة للقارئ في أكثر الحالات صديقٌ حميمٌ يُمسِكُ بسراجِهِ ويمشي أمامَه ليدلّه على جمالياتٍ معينةٍ في النص قد يغفل عنها أو يمرّ عليها سريعاً لولا وجودُ الناقد، بل إن وجودَ الناقدِ في حياةِ القارئ يستفزُّه إيجابياً في كثير من الحالات فيُعمِلُ عقله فيما يقرأ ويطلق على النص أحكاماً نقدية في أحايين كثيرة تكون منطقية وواقعية. لا نريد أن نقول بأن علاقة الأديب بالناقد هي سمنٌ على عسل وبردٌ وسلام دائماً، بل أحياناً تصل إلى حدِّ الخصومة، والشخصنة، ويتعدّى الأمرُ احترافَ النقدِ أو الأدبِ، لكن وجود هذه الحالات الفردية لا يشكل ظواهر عامة، أو لا ينسحب على علاقة الأديب بالناقد بشكل عام.

إن كان الناقد محترفاً في نقده، ويحترم ما يقوم به، ويقدّر القرّاء والجمهور، فسيكون نقدُهُ حينها أقربَ إلى الموضوعيةِ والمهنية، يحاولُ تحييدَ عواطفِهِ وذاتيّتِه أثناء تناولِه لقطعةٍ أدبية، ويتعاملُ معها قَدْرَ الإمكانِ بشكلٍ مجرّد، بغضِّ النظرٍ عمّن كتبها، وبذلك ينصبُّ اهتمامُهُ على النصِّ فقط، دوَن الالتفاتِ للكاتب، وهذا ما يسمّونَه في النقدِ الأدبيِّ (موت الكاتب). لكنّ النقدَ ليس علماً معيارياً كالفيزياء والكيمياء، على الرغم من أن له قواعده وأدواته وأصوله، لكنّ الذاتيةَ تدخلُ فيه من بعض الزوايا من حيث ثقافةِ الناقدِ وقدرتِهِ على استكناهِ بواطنِ النص. لكنّ بعضَ النقادِ يـتأثّرون عند تناولِ نصٍّ ما إما بعاطفةٍ أو بعلاقةٍ شخصيةٍ مع الكاتبِ فتصدرُ أحكامُهم انطباعيةً ذاتيةً لا تخضعُ لمنطقِ الحياةِ والنّقد معاً، ويحاولونَ إبرازَ جمالياتٍ مزعومةٍ ليس لها وجود في العمل الأدبي أصلاً، وقد يفعل بعضُ النقاد ذلك من بابِ المجاملة، أو كضربٍ من التشجيع. وقد رأينا بعض الأعمال التي انبرى لها نقّاد بالتطبيلِ والتّزمير، وأشادوا بعبقريةِ كاتِبها وأن مستقبلَهُ واعدٌ، لكن تلك الأعمال كانت كفقّاعةِ صابونٍ أو صرخةٍ في وادٍ سرعان ما اختفى أثرها.

وقد يشعرُ بعضُ النقّاد بالإحراجِ فيجاملُ كاتباً أو أديباً، خوفاً على علاقةٍ شخصيةٍ معه أو مراعاةً لمشاعره. وهنا يجب أن يتبنى النُّقادُ مقولةَ إن الصراحةَ في النقدِ لا تُفسِد في الود قضية، لأن الناقد تقع عليه مسؤولية أخلاقية أمام القارئ؛ فيكون الناقدُ كمن يسقي العطشانَ كدراً وطيناً ويحاول إقناعه بأنه زلالٌ صافٍ. من تلك الزاوية يجب أن يفهم الأدباء أن مهمةَ الناقدِ هي ليستْ مدحَ ما تنتجه أقلامِهم، وإظهارَ السماتِ الجماليةِ فقط، بل تتعدى ذلك إلى الإشارةِ لمَوَاطِنِ الخللِ والضّعفِ، ومطلوبٌ من الكاتبِ أو الأديبِ ألا يتوقّع كلَّ ما يصدُرُ عنه هو كلامٌ فوق النّقدِ والتصويب، وأن النّقادَ والقرّاءَ سيتلقفونَ نتاجَهُ دون تمحيص. لكن على الرغم من كلِّ ذلك ما زال المشهدُ النقديُّ والأدبيُّ يعاني ضعفاً بسبب اعتبارِ العلاقة الشخصية بين الناقد والأديب أولويةً أهمّ من موضوعيةِ النقد. والنقد الأدبي هو إنشاءٌ عن الأدب، وبالتالي فهو يعنى بتوصيفِ الأعمالِ الإبداعيةِ ودراستها وسبرِ أغوارِها وتقويمها ما استطاعَ إلى ذلك سبيلاً.

إن انكماش الحركة النقدية الإبداعية الموضوعية، أدى إلى قلة الأعمال الأدبية الإبداعية الحقيقية المتفردة على الساحة الأدبية، وهذا بدوره أدى ببعض النقاد إلى إجازة نصوصٍ سطحيةٍ تخلو من الهمّ السياسيّ والإنسانيّ والاجتماعيّ، ولا تناقشُ قضايا قوميةً أو وطنية، ولا تُعتَبَرُ لبنةً في بناءِ الإبداعِ بل هي نصوصٌ تعاني من ركاكةٍ في اللغة وضعفٍ في البناء الفني، وتعتمدُ على الإثارة الحسية. وانبرى نقّادٌ ينتمون إلى مؤسساتٍ نقديةٍ معيّنة لتزكيةِ هذه الأعمال التي لا ترتقي بذوقِ القارئِ ولا تضيفُ له شيئاً جديداً، أو تقدِّمُ له متعةً حقيقيةً كبعض أعمال عمالقة الأدب العربي. لكن بالمقابل هناك من النقّاد المبدعين المجيدين، وإن كانوا قلّة؛ الذين يحاولون أن يؤسسوا لنظريةٍ فكرية ونقديةٍ عربية جديدةٍ تتسق مع روح ثورةِ عصرِ العولمة التي تجتاح العالم، ويحاولون أن يعيدوا ألق الثقافة العربية الذي خَفَتَ بعض الشيء.

أخيراً نقول إن للنقد دوراً مهماً ومحورياً في تعزيز المستوى الأدبي الراقي ورفع شأن حركة الثقافة. فالنقدُ يعتبرُ إحدى أهمِّ ركائزِ الأدبِ وأهمّ المقوماتِ والمؤثرات الفاعلة في الحركة الأدبية، وهو إرادةٌ واعيةٌ ومنهجٌ يستطيع به الناقدُ تصحيحَ مسارِ حركةِ الأدب والتأثير فيه. لأنه يضمنُ عدمَ الانحرافِ والتجاوزِ في مسارِ الحركةِ الثقافيةِ ويضمن استمرارَ الإبداعِ وتجدّدَه، من خلال موضوعيةٍ تامةٍ تبتعدُ عن المجاملةِ والمحاباة أو التملق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *