التّراثُ الإسلامي وإمكانيّةُ التّجدد والتّجديد هل من إمكانية للنّظر والاعتبار والتّحوّل الإيجابي المثمر؟!
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
لماذا ننطلقُ في كثير من تحليلاتنا ومقارباتنا لقضايا الحياة والإنسان في مجتمعاتنا العربية الإسلامية من الزاوية القيمية الإسلامية، وما تختزنه من أفكار وتعاليم وقيم وصياغات معرفية تراثية؟!..
باختصار لأنَّ القضية التراثية ما زالت تشغلنا وترتبط بوجود الإنسان المسلم والمجتمع الذي يعيش فيه، فالتراث بكل ما فيه من قيم وحمولات ورأسمال رمزي مفاهيمي وعملي يسيطر على الذهنية والسلوكيات، بشكل وبآخر.. بمعنى أنه يتحكم في الواقع والسيرورة الفردية والجماعية، على مستوى الذات والموضوع، ولهذا أية محاولة للنظر والتعديل في حركة هذا الفرد، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار النظر لما يحرّكه من بنى فكرية وتاريخية تراثية دينية (إسلامية بالتحديد)، في عالم متحرك متغير سيّال وذي سيرورة تحوّل غير مسبوقة..!!.
نعم، لا شك بأنّ الخطوط العامة للتراث ولهذا الفكر الإسلامي تتركز على أساس إنسانية الإنسان، وضرورة بناء معاييره القيمية الحقوقية اللازمة لفاعليته الوجودية، وهي عموماً خطوط وقيم لا تختلف كما قلنا مع اختلاف الزمن والتاريخ.. لأن القضايا التي تتحرك وتنطلق – في العمق الوجودي – من إنسانية الإنسان هي من القضايا الثابتة والراسخة التي لا تطالها تغيرات الزمان في كل حركة الحياة.. ومن هنا تكون الحلول التي قدمها (ويقدمها) الإسلام للإنسان – على هذا المستوى – هي من الأمور الثابتة التي لا تتغير مع تغير وتقادم الأيام، وتوالي العهود والأزمان.. لأنها حلول مقدمة للحياة والإنسان، ومنطلقة في حركيتها الذاتية والموضوعية بالاستناد على عمق الإحساس الإنساني، وجوهره الروحي بعيداً عن كل الخصوصيات التي يمكن أن تتنوع في الحياة.. فالعدل كقيمة إنسانية لا تتبدل في عمق معناها الذاتي البنيوي، ما يتغير فيها شكل التطبيق والتنفيذ بما يحقق جوهر المعنى العميق… وكذلك هي قيمة الحرية وغيرها من المبادئ الحقوقية الإنسانية التي لا يمكن لأي فرد أو مجتمع أن ينمو ويتطور ويزدهر من دون تمثلها عملياً في وعي أفراده وسلوكياتهم، وقبلها في وعي منظومته الفكرية والسياسية الحاكمة المعنية أساساً بسياسات التطبيق والتنفيذ..
ونحنُ عندما نؤكد على ضرورة أنْ يتجدد الفكر في التطبيق العملي لا الجوهري الذاتي، مع تجدد الأيام، وأن يدخل الإسلام بقوة إلى العصر، فإننا لا نعني بذلك أن ينخرط الإسلام في كل تعقيدات العصر وسلبياته وصوره العاكسة لحداثته المشوهة فكراً وعملاً، ليتبنى كل ما فيه من أفكار وطروحات، أو يسقط تحت تأثير خطوط (وتيارات) العصر، بل نحن نعني أن يخاطب كل عصر بحسب لغته، في طبيعة المناهج، وأساليب التفكير والوعي السائدة فيه، لنؤكد من خلال ذلك فكرنا القائم على الأصالة الإنسانية ورسالة الدين في بناء حياة متكاملة روحياً ومادياً من خلال المفهوم والأسلوب الذي يتحرك، أو يقتنع به إنسان هذا العصر.. ونحن نعتقد أن فكرنا الإسلامي -الذي نريده حاضراً في هذا العصر وعياً ومسؤوليات رسالية إنسانية- يمتلك رؤى ومفاهيم وخطوطاً معرفية، لا تتقادم مع الأيام، باعتبارها من فكر الحياة الأساسي غير المرتهن للذات والنزعات المتغيرة.. والإسلام الذي جاء بهذه الأفكار هو دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؛ ولكن هذا كله لا يعني أن يبقى المرء قابعاً في سكونية هويته ومتجمداً عند نقطة معينة في وعيه للأمور، وفي ممارسته للحياة.. فالعلماء الذين فهموا الإسلام في السابق لا شك أنهم انطلقوا في ذلك من خلال طبيعة العصر والزمن الفكري والعملي الذي تربوا فيه وعاشوا بين مقتضيات أفكاره وتعاليمه، حيث كانت لهم ظروفهم ومكتسباتهم وأوضاعهم، وكانوا متأثّرين في وعي وفهم حركة النص في الواقع للظروف والملابسات التاريخية والقيم التي تحكم وتتحكم بهم في حركة ذلك الزمان.. ولذلك فإننا نجد – نحن أبناء هذا العصر الجديد – أنه من حقنا أن نفهم الإسلام – في حركة التطبيق – بطريقة تختلف عن فهمهم ووعيهم، وبأسلوب يختلف مع أسلوبهم وحركتهم وقناعاتهم الخاضعة لظروف عصرهم كما قلنا، وهو عصر مختلف كلياً عن عصرنا الذي سيختلف بدوره (بلا أدنى شك) عن العصر أو العصور القادمة.. ونحن – حقيقةً – لا نقول هذا الكلام ولا نحلل مثل هذا التحليل من منطلق التجديد لغاية التجديد، أو تطلّباً للجدة والحداثة والعصرنة، وضرورة الاستجابة لتغيرات العصر بكل ما فيها، والخضوع لمقتضياتها، وما يتطلبه من إحداث التغيير بأي أسلوب أو ثمن..!!. ولكننا نقوله حرصاً على قيم الإسلام وحياة المسلمين، ورغبةً في تطورهم وتمتعهم بثمار الحياة والعيش الرغيد القائم على معاني القيم الإسلامية التي تمتد مع حياة الإنسان في آخرته وحسابات ما بعد موته الجسدي، وأن يكون للإسلام القوة والمنعة والامتداد إلى ساحة الحياة الإنسانية كلها، بالرغم من أننا لا نرى أي تناقض بين مقولة العصرنة، وبين مسألة الإصرار على الثوابت قيمية والحقوقية الإسلامية، باعتبار أن هناك فرقاً كبيراً بين أن تتبنى بعض أو كثير من أدوات ووسائل التحديث والتطوير أو العصرنة – كأحد أساليب الدخول الأساسية إلى هذا العصر – وبين أن تتجاوز المضمون الفكري لهذا النوع من الحداثات والتطويرات.. ولذلك نحن لا ننزع – من خلال تبني هذا النوع من القراءات – إلى تجاوز المضمون الفكري القيمي العميق للإسلام، ولكننا نريد تأصيله بأسلوب، وفكر جديد مؤكد بفطرة الإنسان، وأصالة وجوده الحي..
من هنا نقول بأن كل خطاب تغييري لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه – بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة – أن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني.. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك..
والماضي – أساساً – هو تجربةُ أناسٍ عاشوا قبلنا، فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً. ولذلكَ فإنَّ الماضي شأنهم هم وليسَ شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أنَّ الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة.. فالحياة تحتاج إلى أن تُعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين- الذين قدموا لها تلك الأفكار – فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار وقيم ومبادئ حقوقية إنسانية من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة أبداً، بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرفٍ لها.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارفَ وأفكاراً تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم، بما يجعل عملية إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً.. يقول تعالى: ﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾] البقرة: 134[؛ ويقول عز وجل: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾] يوسف: 111[.
وبالنظر إلى ذلك فإننا نعتبر أن الماضي هو زمن رحل ولن يعود، ولكنه أيضاً هو ساحة لأخذ الدروس والعبر على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع.. وهذا الوعي للماضي لا يمكن يقودنا إلى تقديس أفكار الماضي إلا بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل-كما ذكرنا- بالحياة.
من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر- على حد زعم تلك النخب – “ماضوية” و “ما قبل وطنية أو قومية”، يمكنُ أنْ تكونَ سبباً وجيهاً للتّوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي للأمة، ويزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري الإسلامي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.
وهذا الأمر لا يقتصر على تاريخنا وأمتنا، إذ أنّ الأمم جميعاً مكونة من أقوام وشعوب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ولديها تراث ومفاهيم وعادات وتقاليد ومنظومات تفكير تاريخية حاكمة فيها، ولكن مع ذلك كله، استطاعت (تلك الأمم) بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، منتجة وفاعلة، جعلتها تزدهر وتتمكن في عيشها ووجودها، على الرغم مما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب وتراث مهيمنة، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.
وعندما نركز على التراث والدين، كمنظومة قيم حاكمة، نعتقد بأن الدين هو رسالة إنسانية تدعو الى بناء مجتمع فاضل إنساني يقوم على الحقوق وخاصة منها العدل والحق، وهو يعطي الإنسان معنى لوجوده لا يقتصر على الحياة الدنيا، بل يمتد بمعناه لما بعد الموت، وهذا هو جوهر ربط العمل بالمعنى المستمر والمتواصل بغايات قيمية إنسانية تتطلب من الإنسان البقاء حريصاً على معنى وجوده وربطه بالتنفيذ والعلاقات والسلوكيات الاجتماعية في حياته..
طبعاً، الدين ليس محل اتفاق عند البشرية، فهناك أديان ومذاهب وطوائف وملل ونحل لا تعد ولا تحصى، وكل واحد منها يدّعي أنه الحق ويملك حقيقة الفكر والنظر والاعتقاد والقناعة.. يسري هذا الأمر حتى في بلداننا ومجتمعاتنا العربية التي بات كثير منها متعد ومتنوع الأفكار والجماعات والتنظيمات والخلفيات الاعتقادية التاريخية الدينية وغير الدينية، بما يتطلب وجود آلية فكرية وتنظيمية سياسية تتقوم بالقانون والحرية والتعددية، لا تتدخل في الشأن الديني الخاص للناس (المختلفين المتنوعين).. بحيث تكون تلك الآلية العملية حيادية تجاه الأديان كلها وعلى مسافة واحدة منها كلها.. بما يعني أن القياس والمعيار في مثل هذ الواقع القائم، هو الحقوق والقانون وسيادته على الجميع بلا تمييز ولا تفضيل.. ولو أننا نظرنا إلى حال المسلمين في كل مكان، وحال غير المسلمين من الدول المتقدمة التي نحتاجها ونخضع لها علمياً وتقنياً وفي كل شيء تقريباً، سنجد أنهم تقدموا وأننا تراجعنا حتى في مسألة وعينا لقيمنا وتراثنا الدين… ربحوا وخسرنا.. وما زلنا نتقاتل ونتصارع ونقتل بعضنا بعضا باسم التراث والدين والإيمان والقيم الدينية.. ولا يوجد حتى دولتين أو جماعتين أو فئتين من المسلمين على توافق أو انسجام حقيقي حول أقل الأمور الدينية والحياتية الواقعية.. فنحن نعيش ونتعايش مع مأزق بل مع مآزق متفاقمة، باتت تشكل خطورة وجودية علينا جميعاً، نتيجة التداخل الديني والسياسي واستثمار الدين واستغلاله أيضا من قبل نخب السياسة، وانخراط كثير من رجالات وممثلي المؤسسة الدينية في تلك الخلافات والصراعات..!!.
وللأسف نقولُها بصراحة وبالفم الملآن: ليسَ للثقافة التعددية والاعتراف بالآخر أية بيئة حاضنة قوية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فالغالبية العظمى تنظر إليها شذراً وربما رفضاً.. إنها (أي التعددية) في قناعة الكثيرين من هؤلاء، كفرٌ وزندقةٌ، وفي نظر البعض الآخر غزوٌ ثقافي غربي، ونبتةٌ شيطانية مستوردة لا نريدها..!!. على الرغم من وضوح النظر الإيجابي لتراثنا الديني حولها وفيها، وإقراره لمعناها ومقتضياتها العملية..!!.
.. وفي مثل هذه البيئة الرافضة والشروط المضادة والقابليات المعاكسة، كيف يمكن أن نتخيل أو نتصور نجاحَ أي مشروع للإصلاح والتغيير المجتمعي والسياسي الحقيقي المنتج والمؤثر في بلداننا العربية التي أدمنت الرأي الأوحد والهيمنة والوصاية..؟!!.
إنَّ نهضة الشعوب وتطور البلدان، ورفعة مجتمعاتها وسعادة أبنائها وازدهارهم، تتحقق فقط عبر تأسيس وبناء دول المؤسسات.. أي دول التعددية والثقافة التعددية، وتحكيم قيم المواطنة غير المشخصنة التي لا صوت يعلو فيها فوق صوت القانون والحقوق والعدالة.. وهذه هي قيم قارّة جوهرية تم تأصيلها وعمّقت معانيها كثير من عقولنا الإسلامية الحضارية الواعية والحكيمة والمسؤولة.
