
أوروبا ترفع مستوى انتقادها لسياسية العدو الإجرامية في غزة تراجع حاد في تأييد تل أبيب في الأوساط الشعبية الأوروبية
بقلم ابتسام الشامي
مع استمرار الحرب الإبادية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة ومواصلة العدو سياسة الحصار والتجويع، يرتفع منسوب الانتقاد لتل أبيب في الخطاب الرسمي الأوروبي، بينما تدفع بعض الدول باتجاه اتخاذ اجراءات عقابية بحق العدو عبر مراجعة اتفاقيات التعاون والشراكة معه.
سفينة الحرية لكسر الحصار عن غزة
انطلقت قبل أيام عدة، من جزيرة صقلية الإيطالية، سفينة أسطول الحرية وعلى متنها 12 ناشطاً دولياً يسعون إلى الوصول إلى شواطئ غزة وتقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين الذين يستفرد بهم العدو الإسرائيلي ويفترسهم بطائراته الحربية وبالتجويع المتعمد. محاولة النشطاء الدوليين الجديدة لكسر الحصار عن غزة بعد محاولة مماثلة انتهت في نيسان الماضي بالاعتداء على السفينة ومنعها من الوصول إلى مقصدها، تأتي في وقت يرتفع فيه مستوى الانتقاد الأوروبي لكيان العدو، مترافقاً مع سلسلة من الخطوات التي تعكس تحولاً في الموقف الرسمي لعدد من العواصم الأوروبية إزاء ما يجري في قطاع غزة، وهو تحوّل فرضته وحشية العدو وشهيته المفتوحة على الفتك بالمدنيين لاسيما من الأطفال والنساء من جهة، وضغط الرأي العام من جهة أخرى، وعلى متن سفينة الحرية ما يعبّر عن المزاج الشعبي الغربي، الذي يدفع بالنشطاء الدوليين إلى عدم الاكتفاء بالتظاهرات والتنديد بالمجازر وإنما الانتقال إلى خطوات عملية، وإن كانت قد تعرّض حياتهم للخطر. وفي هذا الإطار، قالت النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي ريما حسن إنهم “مستعدون على متن السفينة المتجهة نحو غزة لاحتمالات متعددة”، مشيرة في اتصال مع قناة الجزيرة إلى أن “إسرائيل” أعدت مسبقاً مجموعة من السيناريوات لمواجهة السفينة، ولم تستبعد “تعرّضهم لهجوم إسرائيلي عبر المسيّرات أو الغواصات أو تفجير السفينة من أسفل أو إلقاء القبض على الفريق من قبل قوات إسرائيلية”.
وعن دوافع النشطاء خلف هذه المبادرة مع ما تنطوي عليه من مخاطر، أوضحت البرلمانية الفرنسية أن الموجودين على ظهر السفينة “دفعتهم قناعاتهم الشخصية لاتخاذ مثل هذه الخطوة، وهم يتضامنون مع غزة ومتّحدون ضدّ أي محاولة هجوم على سفينتهم”، وإذ وصفت ما قد يواجهونه على متن السفينة بالخطير، أكّدت أن ذلك “لا يقارن بما يتعرّض له الفلسطينيون منذ عقود من الزمن، وليس فقط منذ السابع من تشرين الأول 2023”.
بدورها عضو تحالف أسطول الحرية “مكويفا بلاترلي” أن أي هجوم على السفينة يُعدُّ انتهاكاً للقانون الإنساني ولقانون البحار، مشيرة إلى أن “إسرائيل” تنتهك القوانين الدولية عقوداً طويلة باحتلالها لفلسطين. ودعت في اتصال مع قناة الجزيرة هيئات الأمم المتحدة والدول والمنظمات الإنسانية لتأمين سلامة السفينة، وللتحرك من أجل أن يقولوا “كفى، كفى للإبادة الجماعية” التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة. مشددة على أن الصمت إزاء ما يحدث في غزة يعد تواطؤاً في الإبادة الجماعية. وإذ دعت الحكومات إلى التحرك لوقف مسلسل الإبادة المتواصل منذ أكثر من عشرين شهراً في قطاع غزة، قالت بلاترلي: “نحن خذلنا أطفال فلسطين، ويجب أن يتغير ذلك”، وعلى المجتمع الدولي والحكومات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام إيصال صوت الناشطين على متن السفينة “مادلين” لإيصال رسالتهم ولحمايتهم.
الإجراءات العملية ضد كيان العدو
وبالموازاة مع تحرك الناشطين الدوليين نحو قطاع في محاولة فك الحصار عنها، اتخذت بعض العواصم الأوروبية إجراءات عملية تهدف من خلالها إلى الضغط على العدو لوقف حربه الإبادية، وكان البارز في المشهد الأوروبي على هذا الصعيد خلال الأيام الماضية، إلغاء إسبانيا صفقة شراء مئات الصواريخ المضادة للدبابات من شركة رافائيل الإسرائيلية، بعد إلغاء عقد للذخائر مع شركة إسرائيلية أخرى. ونقلت صحيفة “إل باييس” الإسبانية عن مصادر حكومية قولها إن “قيمة العقد المذكور بلغت 287,5 مليون يورو، وكان من المقرر تصنيع المعدات في إسبانيا بموجب ترخيص من الشركة الإسرائيلية”، علماً أن عدد الأسلحة العسكرية في الصفقة الملغاة، بلغ 168 قاذفة و1680 صاروخاً مضاداً للدبابات. ونقلت وكالة فرانس برس عن مصادر في وزارة الدفاع الإسبانية تأكيدها، أن عملية إلغاء التراخيص الإسرائيلية قد بدأت بالفعل، مشددة على أن الوزارة ستعمل على “إعادة توجيه البرامج نحو تحقيق هدف الاستقلالية التكنولوجية”. وتأتي الخطوة الإسبانية هذه، تنفيذاً لقرار كانت وزارة الداخلية الإسبانية قد اتخذته في نيسان وقررت بموجبه إنهاء عقد لشراء ذخيرة من شركة إسرائيلية، بضغط من حزب سومار اليساري الراديكالي، الشريك في الحكومة إلى جانب الاشتراكيين بزعامة بيدرو سانشيز. والأخير يعد من أشد الأصوات الأوروبية انتقاداً لنظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وللعدوان الإسرائيلي على غزة. وهو ما يشاطره فيه شركاؤه في الحكومة من حزب سومار، التي أوضحت القيادية فيه يولاندا أن بلادها لا تستطيع ممارسة “أعمال تجارية مع حكومة إبادة جماعية… ترتكب مجازر بحق الشعب الفلسطيني”.
وإذا كانت الهوية السياسية للحكومة الإسبانية تنسجم وصوت مدريد المرتفع ضد تل أبيب في المحافل الدبلوماسية ومؤسسات صناعة القرار في الاتحاد الأوروبي، فإن ارتفاع أصوات أخرى من حلفائها التقليديين يعبر عن حجم استياء بروكسل من سياسة الحكومة الإسرائيلية. ومن تموضعها المعروف كأقوى حلفاء كيان العدو، وجهت ألمانيا صفعة سياسية قوية للأخير، حيث وصف المستشار الألماني فريدريش ميرتس الضربة الإسرائيلية التي استهدفت مدرسة في غزة بأنها لم تعد مبررة بذريعة محاربة “إرهاب حماس”، مؤكداً أن على إسرائيل ألّا تتجاوز حدوداً قد تدفع حتى أقرب حلفائها إلى التخلي عنها. بدورها قالت رئيسة حزب الخضر الألماني لصحيفة دير شبيغل الألمانية، إنه لا يجوز استخدام أسلحة ألمانية في غزة بطريقة تنتهك القانون الدولي. وفي السياق، وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، المعروفة بمواقفها المؤيدة للكيان الغاصب، توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة بأنه “مروّع”. وتأتي هذه المواقف على مسافة أسابيع قليلة من إعلان كل من فرنسا وبريطانيا وكندا دعم خطوات قد تصل إلى الاعتراف بدولة فلسطينية.
تراجع التأييد لتل أبيب لدى الرأي العام العالمي
تنامي الغضب الأوروبي من استمرار العدوان على غزة واستخدام تل أبيب التجويع سلاحاً ضد الفلسطينيين، يشكل استجابة، وإن متأخرة، لمزاج الرأي العام الأوروبي المناهض للعدو وحربه العدوانية على قطاع غزة. وفي هذا السياق كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة يوغوف البريطانية، عن تدنٍ غير مسبوق في مستوى تأييد الأوروبيين لـ “إسرائيل”، منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل 20 شهراً. وأشارت الدراسة إلى أن “نحو ربع المستطلعين فقط في فرنسا وألمانيا والدانمارك ما زالوا يبدون دعمهم لإسرائيل، في حين لم تتجاوز تلك النسبة 18% في بريطانيا، وتقلصت إلى 9% في إيطاليا”.
وتظهر نتائج الاستطلاع أن ما بين 13% و21% فقط من المستطلعين في كل دولة أوروبية كانت لديهم ردود إيجابيه بشأن “إسرائيل” وسياساتها ضد الفلسطينيين في غزة، وهي أدنى نسب مسجلة في استطلاعات الرأي منذ “أحداث 7 أكتوبر”، في حين تراوحت نسب الغاضبين من السياسات الإسرائيلية بين 63% و70% في كل بلد أوروبي.
وفي سياق متصل نشر مركز “بيو” الأمريكي للأبحاث استطلاعاً عالمياً واسع النطاق أظهر تزايدا ملحوظا في المشاعر السلبية تجاه “إسرائيل” ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في معظم دول العالم. الاستطلاع الذي شمل 24 دولة بمشاركة أكثر من 28 ألف شخص، كشف أن نتنياهو لم يحصل على تأييد يتجاوز الثلث في أي من الدول المستطلعة – باستثناء كينيا ونيجيريا – وفقاً لما أشارت إليه صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في قراءتها لنتائج الاستطلاع. كما أظهرت النتائج أن النظرة العامة تجاه كيان العدو كانت سلبية في 20 من أصل 24 دولة شملها الاستطلاع، إذ عبّرت الأغلبية التي شملها الاستطلاع عن آراء غير مؤيدة لتل أبيب.
وحول نتائج الاستطلاع، أوضحت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن “منظمات ترصد معاداة السامية في الولايات المتحدة لاحظت تزايد الربط بين الهجمات ضد اليهود وإسرائيل أو الصهيونية”. كما أظهرت استطلاعات رأي أمريكية – بحسب الصحيفة – ارتفاعاً في النظرة السلبية تجاه “إسرائيل” منذ بدء الحرب على غزة، مقابل تنامي الدعم لحركة التضامن مع الفلسطينيين.
خاتمة
تعكس المواقف والخطوات المشار إليها آنفاً على المستوى الأوروبي خاصة والدولي عامة، وجود تحول رسمي وشعبي إزاء حقيقة ما يجري في فلسطين المحتلة والطبيعة العدوانية للكيان الغاصب، وإذا كان ما يُسمع في الأوساط السياسية وعلى المنابر الدولية من كلام انتقادي للعدو مهم في حد ذاته، فإن المطلوب الانتقال من دائرة الأقوال إلى الأفعال، وأن تفعّل العواصم الأوروبية أدوات ضغطها بما يحقق هدف وقف العدوان ووقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.