إعرف عدوك

الأزمة الصامتة.. كيف تنظر الدول العربية إلى إسرائيل في الوقت الحالي؟

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

وفي حين أنهم يقدرون الإنجازات العسكرية التي حققتها إسرائيل في الحرب وإمكاناتها في التأثير الإيجابي على الشرق الأوسط، فإنهم يشعرون بقلق عميق إزاء ما يتم تفسيره على أنه التزام إسرائيلي بنهج عسكري أحادي البعد، أي استخدام القوة العسكرية كأداة دائمة وحصرية. في الواقع، ووفقاً للفهم السائد في العالم العربي، فإن النهج الإسرائيلي الحالي يتجاهل الفرصة لإنهاء الحرب وضرورة الاستفادة من الإنجازات العسكرية في المبادرات السياسية، ومن ثم في العملية السياسية التي من شأنها أن تؤدي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتشكيل واقع جديد من السلام والازدهار في الشرق الأوسط

ومن الانتقادات ذات الصلة التي سمعت في دول السلام العربية شدة القوة التي تستخدمها إسرائيل ضد قطاع غزة وسكانه. إن صور الأطفال والنساء القتلى والجوعى في قطاع غزة، والتي توزعها وسائل الإعلام العربية، إلى جانب اتهامات الإبادة الجماعية، قد تظل تشكل عبئاً ثقيلاً على العودة إلى العلاقات الطبيعية مع إسرائيل لفترة طويلة قادمة.

لا تزال دول السلام ملتزمة – حتى علناً – باتفاقيات السلام ورؤية التطبيع مع إسرائيل واندماجها في الشرق الأوسط، وتقدم خطوطاً عريضة مرنة لأفق سياسي بهذه الروح في الأيام التي تلي الحرب. ومع ذلك، هناك قلق متزايد من أن السياسة الإسرائيلية الحالية سوف تسبب أضراراً متعددة الأبعاد للعلاقات بين الطرفين: انقطاع وتضرر الثقة بين المستويات الرسمية؛ تطرف الرأي العام العربي ضد إسرائيل؛ وتعزيز العناصر الإسلامية المتطرفة. إن هذا الواقع يقوّض التطبيع عملياً، ويعزز اتجاه الدول العربية إلى صياغة استراتيجيات إقليمية لا تنخرط فيها إسرائيل.

على مدى العقدين الماضيين، وخصوصاً منذ توقيع اتفاقيات إبراهام، نشأت علاقة بناءة بين إسرائيل والدول العربية التي أقمنا معها ترتيبات. وترتكز العلاقة على مصالح استراتيجية مشتركة، بما في ذلك تقييد خطوات إيران، والتعامل مع العناصر الإرهابية السلفية الجهادية في المنطقة، وتعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والطاقة. وفي هذه الفترة، تم تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” و”منتدى النقب”، وبدأ رجال الدولة مناقشة هيكلية شرق أوسطية جديدة ترتكز على المصالح الإقليمية المشتركة.

إن الحرب التي اندلعت في السابع من تشرين الاول، والتي بدأتها حماس، من بين أمور أخرى، بهدف نسف عمليات التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى، نجحت بالفعل، في الوقت الراهن، في وقف الاتجاهات الإيجابية. وقد تجلى هذا بشكل بارز في الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس ترامب إلى المنطقة، والتي روّج خلالها لرؤية التكامل الإقليمي في سلسلة من اللقاءات السياسية والاتفاقيات التجارية، بعضها تاريخي (على سبيل المثال، لقاؤه مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع)، في حين كان مكان إسرائيل غائباً. وأقر ترامب خلال زيارته أيضاً بأن التطبيع بين إسرائيل والسعودية من المرجح أن يتأخر بسبب الحرب المستمرة في قطاع غزة.

وفي الوقت نفسه، هناك أدلة دامغة طوال فترة الحرب على الضرر التراكمي الذي لحق بصورة إسرائيل بين الحكومات والشعوب في العالم العربي. ويُنظر إليها في أوساط عربية واسعة على أنها تصر على الاستمرار في العمل بالقوة فقط، وتتخلى عن استراتيجية أكثر تعقيداً، تتضمن استخدام أدوات سياسية ومدنية واقتصادية. إن هذا السلوك يضر بالمصالح الاستراتيجية العربية والإسرائيلية على حد سواء، ويشجع دول السلام العربية على إعادة النظر في الافتراضات الأساسية التي تبنتها فيما يتصل بعلاقاتها مع إسرائيل. وتتعلق انتقادات الدول العربية المعتدلة لإسرائيل بعدة جوانب:

أولاً، الشعور بالنصر على حماس في الحرب. ويعتقد كثيرون في الدول العربية أن إسرائيل تسعى إلى مواصلة الحرب بهدف تحقيق “نصر كامل” على حماس، في حين أن المنظمة في الواقع هُزِمت بالفعل: لقد عانت من هزيمة عسكرية، وخسرت دعم الجمهور الفلسطيني، وتعاني من انقسامات داخلية، وهي في حالة ضائقة استراتيجية بشكل عام بسبب الدمار الذي ألحقته بنفسها، وبقطاع غزة، وبالمجتمع الفلسطيني. وفي ظل هذه الظروف فإن استمرار إسرائيل في تمجيد التهديد الذي تشكله حماس يؤدي إلى ترسيخ وعي زائف يدفع إسرائيل نفسها إلى “الغور في طين غزة”، ويؤثر سلباً عليها وعلى المنطقة بأسرها.

ثانياً، يُنظر إلى أمل إسرائيل في احتلال القطاع والقضاء عسكرياً على حماس “حتى آخر عنصر”، دون الدفع بعملية سياسية تكميلية تركز على إنشاء حكومة فلسطينية بديلة في القطاع، على أنه أمل عقيم وغير واقعي. وفي نظر دول السلام العربية، فإن الاعتماد المستمر على الضغط العسكري وحده لن يؤدي إلى تحقيق أهداف الحرب كما حددتها إسرائيل نفسها. فهو لن يؤدي إلى نزع سلاح حماس، ولن يساعد في إعادة الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى المنظمة، ولن يسمح باستقرار القطاع من دون حماس. ولن يحظى هذا النهج الإسرائيلي أيضاً بأي مساعدة من الشركاء في الدول العربية المعتدلة.

ثالثاً، إن سياسة إسرائيل – التي تسعى إلى إيجاد حلول بالوسائل العسكرية وحدها – تهدد عدداً من المصالح الاستراتيجية العربية الإسرائيلية المشتركة: فهي تعمل على تآكل اتفاقيات السلام القائمة وتقوّض توسعها إلى بلدان إضافية؛ وتغذّي مشاعر الكراهية والانتقام ضد إسرائيل؛ تجعل من الصعب الحفاظ على العلاقات الطبيعية القائمة، ناهيك عن إخراجها إلى حيز الوجود؛ ويصرف انتباه إسرائيل والمحور العربي المعتدل عن التعامل مع المشاكل والتحديات المهمة حقاً التي تواجه المنطقة، من إيران وقطر وتركيا وسوريا “الجديدة” وجماعة الإخوان المسلمين.

رابعاً، إن تركيز إسرائيل على الحلول العسكرية وحدها يغذّي المشاعر المتطرفة في المنطقة، ويخدم منطق العناصر الإسلامية المتطرفة التي تسعى إلى تقويض الاستقرار الإقليمي، ويعززها، ويخدم مصالحها. هناك قلق في دول السلام العربية من أن هذا الواقع يسهل على حماس تجنيد ناشطين جدد من بين جيل الشباب في غزة (طالما أنهم لا يملكون بديلاً عن حماس ومسارها) وعن محور المقاومة؛ ويزيد من جاذبية العناصر الإسلامية في الدول العربية، وفي مقدمتها الأردن ومصر؛ وهذا يجعل من الصعب على لبنان أن يتقدم نحو واقع جديد بدون هيمنة حزب الله. في حين أن إنجازات الجيش الإسرائيلي في لبنان وسوريا تركت انطباعاً إيجابياً في الدول العربية المعتدلة، فإن الانتشار الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية والسورية ينظر إليه من قبل هذه الدول على أنه قسري وغير شرعي.

 خامساً، إن الاستمرار في نهج “إدارة الصراع” – من دون السعي إلى حله – لن يوفر أمناً مستقراً لإسرائيل، بل يحافظ على حالة مزمنة من انعدام الحل، وهو ما يؤدي إلى إدامة المشاكل وتفاقمها. وتنظر دول السلام العربية إلى إسرائيل على أنها تفضل القوة على الدبلوماسية، ما يؤدي إلى إدامة واقع القتل والدمار وانعدام الأمل، والذي لن يكون من الممكن في ظله تحقيق الاستقرار الأمني لإسرائيل، وتعزيز عمليات نزع التطرف في قطاع غزة، وتوسيع علاقات التطبيع.

سادساً، هناك حاجة إلى تعزيز التدابير الرامية إلى تعزيز السلطة الفلسطينية. ومن بين دول السلام العربية، هناك توقّع بأن السابع من تشرين الأول كان بمثابة “جرس إنذار” لإسرائيل من نظرتها إلى “حماس باعتبارها أصلاً والسلطة الفلسطينية باعتبارها عبئاً”. ومن وجهة نظرهم، وعلى الرغم من العديد من النواقص والضعف لدى السلطة الفلسطينية، فإنها مستعدة للتفاوض مع إسرائيل، ولكنها لا تمتلك شريكاً إسرائيلياً في الوقت الراهن.

تداعيات استمرار الوضع على مستقبل العلاقات السلمية

تشعر دول السلام العربية بالقلق إزاء الآثار السلبية المستمرة للحرب على علاقاتها مع إسرائيل. وتتعلق أخطر سيناريوهات الأزمة بالإجراءات الإسرائيلية التي ينظر إليها على أنها انتهاك مباشر للأمن القومي لتلك الدول وتشكل “خطاً أحمر” في نظرها، مثل التشجيع المباشر أو غير المباشر للهجرة الفلسطينية الجماعية من قطاع غزة والضفة الغربية إلى مصر و/أو الأردن. وقد تعتبر هذه الخطوات انتهاكاً لاتفاقيات السلام وتؤدي إلى تجميدها أو إلغائها. وتشمل التطورات الإضافية التي من شأنها أن تعرض العلاقات السلمية للخطر ضم الأراضي من قبل إسرائيل، وانهيار السلطة الفلسطينية، واندلاع الانتفاضة الثالثة في الضفة الغربية.

من الواضح أن الحرب ألحقت الضرر بالعلاقات القائمة على الثقة والتي بنيت على مر السنين بين المستويات الرسمية في إسرائيل ودول السلام العربية، كما ألحقت الضرر بصورة إسرائيل في الرأي العام العربي. إن مشاهد القتل والتجويع المتواصلة والتي لا تنتهي القادمة من قطاع غزة (بالإضافة إلى إثارة الانتقادات الحادة لإسرائيل في جميع أنحاء العالم)، تضع الأنظمة العربية في موقف حرج وتخلق ضغطاً شعبياً عليها لاتخاذ إجراءات احتجاجية ضد إسرائيل. وهي تلهم التضامن العربي مع المعاناة الإنسانية التي يعيشها السكان الفلسطينيون في قطاع غزة، حتى بين كثيرين ممن يشعرون بالاشمئزاز من أيديولوجية حماس. على الرغم من استمرار الالتزام الأساسي باتفاقيات السلام، فإن الاتجاهات الحالية قد تؤدي إلى تآكلها وفقدان الفرصة التاريخية القائمة لتوسيعها. وكما أثبتت زيارة الرئيس ترامب الأخيرة إلى الرياض، فإن يأس المملكة العربية السعودية من السياسة الإسرائيلية الحالية واستمرار الحرب في غزة دفعها منذ فترة طويلة إلى عقد صفقات ثنائية مع الولايات المتحدة، مع استبعاد إسرائيل.

الحلول العربية لأزمة غزة

تترافق الانتقادات العربية لإسرائيل مع دعوات لتغيير سياستها وتبنّي حلول بديلة، وفي مقدمتها تلك التي تعتمد على المقترح المصري الذي وافقت عليه جامعة الدول العربية في آذار 2025، وهو المقترح الذي رفضته إسرائيل بسرعة ودون مناقشة معمقة. وبحسب المقترح المصري العربي، فإنه في المرحلة الأولى – التي تستمر ستة أشهر – سيتم إعلان وقف دائم لإطلاق النار، وتشكيل حكومة مدنية فلسطينية تكنوقراطية تحلّ محل حكومة حماس، ودخول قوات الشرطة الفلسطينية المدربة في مصر والأردن إلى قطاع غزة. وفي المرحلتين الثانية والثالثة – واللتين ستستغرقان أربع سنوات ونصف إجمالاً – سيتم إطلاق خطة لإعادة تأهيل الإسكان والزراعة والخدمات والبنية التحتية في قطاع غزة واستقرارها، بتمويل ومشاركة من جهات عربية ودولية. وتقدر تكلفة إعادة الإعمار بأكثر من 50 مليار دولار.

ومن وجهة نظر دول السلام العربية فإن المقترح المصري العربي يسترشد بعدد من نقاط المنطق الذي يتعارض مع السياسة الإسرائيلية الحالية:

• إنهاء الحرب بسرعة للحد من أضرارها على مصالح الدول العربية وإسرائيل، بالتزامن مع إدخال المساعدات الإنسانية وبدء عملية إعادة الإعمار، دون ربط هذه الخطوات بنزع السلاح الفوري من قطاع غزة ونزع سلاح حماس هنا والآن.

• بناء حكومة فلسطينية مدنية بديلة، يتم إنشاؤها في البداية بعلاقة فضفاضة مع السلطة الفلسطينية، وتهدف إلى إعداد الأرضية لعودة السلطة الكاملة إلى قطاع غزة في وقت لاحق. إن هذا البديل من شأنه أن يؤدي إلى انتزاع السيطرة على الحياة المدنية في قطاع غزة من حماس، وتحييد سيطرة المنظمة على السكان من خلال توفير الغذاء والخدمات الاجتماعية والتعليم، وعلى المدى الطويل، خلق الظروف التي من شأنها تسهيل عملية تفكك حماس تدريجياً ككيان عسكري.

• خلق أفق سياسي لحل جذري للمشكلة الفلسطينية، مع الامتناع عن التسويات الجزئية التي تقتصر على قضية غزة، والتي قد تؤدي إلى جولات إضافية من العنف في المستقبل وتبديد جهود التسوية وإعادة الإعمار. إن تعزيز هذا النوع من الأفق السياسي من شأنه أيضاً أن يقود إلى عمليات التكامل الإقليمي، والتي في إطارها ستندمج إسرائيل في المنطقة وتكون قادرة على العيش في سلام وأمن إلى جانب الدولة الفلسطينية.

حتى لو لم يتم التصريح بهذه الأمور علناً، فمن المتوقع أن يأخذ العرب في الاعتبار المخاوف الأمنية الإسرائيلية بما يتجاوز النسخة الرسمية الحالية من اقتراح جامعة الدول العربية للتوصل إلى تسوية في قطاع غزة. وقد تشمل الضمانات الأمنية الإضافية التي يمكن أن تحصل عليها إسرائيل الموافقة على السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المحيط الأمني على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة؛

– إنشاء آليات أمنية مشددة لمراقبة الحدود والإشراف على المعابر الحدودية لقطاع غزة لمنع تهريب الأسلحة.

– إشراك قوات دولية وربما قوات عربية مشتركة في تطبيق هذا الاتفاق؛ وحتى الموافقة الضمنية على نشاط إسرائيل لمكافحة الإرهاب ضد التهديدات الإرهابية الملموسة داخل القطاع أو القادمة منه.

خلاصة

تنظر إسرائيل بين شركائها العرب في السلام إلى نفسها باعتبارها دولة تعيش حالة من الصدمة، على الرغم من الإنجازات العسكرية التي حققتها في الحرب منذ السابع من تشرين الأول؛ باعتبارها عملية منفصلة عن الواقع الإقليمي وغير صحيحة استراتيجياً، وتتجاهل احتياجاتها الأمنية واحتياجات الدول العربية، في حين أن الأمن القومي لكل طرف متشابك معها.

إن أنماط العمل التي تنتهجها إسرائيل تدفع علاقات دول السلام العربية معها إلى أزمة ثقة حادة، وتؤدي إلى تآكل مكانتها كشريك استراتيجي، وتزيد من مشاعر الغضب والإحباط بين صناع القرار والجماهير في العالم العربي. إن استمرار الحرب بشكلها الحالي – مع تجنب تقديم رؤية سياسية إسرائيلية مكملة للتحرك العسكري – من شأنه أن يعزز القوى المتطرفة، ويضعف التحالف الإقليمي المعتدل، ويؤدي إلى فقدان فرصة التطبيع مع المملكة العربية السعودية.

 وفي الوقت نفسه، فإن النافذة التاريخية لتعزيز التكامل الإقليمي لم تُغلق بعد. ولا تزال الدول العربية المعتدلة مهتمة بمواصلة شراكتها مع إسرائيل، وتسعى إلى الترويج معها لخطة تدريجية ومسؤولة لإعادة إعمار قطاع غزة واستقراره وحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل إنها مستعدة حتى للاستجابة لاحتياجاتها الأمنية في هذا الإطار. إن القرارات التي ستتخذها إسرائيل في المستقبل القريب – أو تمتنع عن اتخاذها – ستكون مصيرية ليس فقط فيما يتصل بأهداف الحملة في قطاع غزة، بل وأيضاً فيما يتصل بمستقبل علاقاتها مع العالم العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *