الثقافة العربية في أزماتها وأبرز تحدياتها الراهنة ماذا عن دور المثقف؟
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
ليست الثقافة عموماً مجالاً ضيقاً للفهم والوعي، وعلى هذا يسلك تعريفها والإحاطة بمعناها، منحيين اثنين:
الأول- المنحى المعنوي القيمي:
حيث أنها ليست مجرد معلومات متراكمة أو معارف أو آداب رفيعة لها تصنيفات وأجناس متعددة، وإنما هي نظام قيم وفكر ومعتقد غير مادي، تأتي كمنظومة متكاملة من الموروثات والاعتقادات والقيم التي تستبطن في داخلها النظرة إلى الحياة والوجود، في محاولة وعيها والموقف منها، لتمثل طريقة للتفكير وتفسير الأحداث والتحولات الجارية في حركة الزمان، وربط الأسباب بالنتائج.. والثقافة تختزن اللغة كأحد أوجهها، باعتبارها وعاء الفكر وناقل التراث وطريقة رؤية العالم.. وفيها أيضاً الرموز والدلالات والتعابير والمعاني التي تتضمنها تلك النظرة والرؤية على مستوى الروايات والقصص وكثير من حوادث التاريخ.
الثاني- المنحى المادي العضوي:
ويتضمن العادات والتقاليد المادية التي تورثها الشعوب من جيل إلى آخر، في طرق وآليات تفاعلها وتعاملها مع بعضها ومع محيطها، والتي تتجسد في النظم والمؤسسات الاجتماعية وغير الاجتماعية من الأسرة، إلى النظام السياسي، والقضاء، والمؤسسات التعليمية وغيرها.. وهي بمجملها تنتج الفنون والعمارة والأدب والموسيقى وكثير من تقنيات الحياة.. وكل ما تقدم يشكل هوية بشرية، توجه السلوكيات، وتمنح الشعور بالانتماء.. إنها محاولة الإجابة على سؤال: كيف نعيش ونحيا؟ ولماذا نعيش بهذه الطريقة أو تلك؟!..
أما الثقافة العربية فتمثل اللغة العربية عمودها الرئيسي كونها لغة القرآن، وحاملة تراث ضخم من الأدب والفكر وغيرهما، مع عوامل أخرى يتداخل فيها التاريخ مع الدين والقيم المشتركة والاجتماعيات المختلفة.. وهذا كله يجعل من الثقافة العربية هوية جامعة مشتركة..
ومع مجيء الإسلام اكتسبت الثقافة العربية أبعاداً جديدة في طبيعة اللغة العربية التي باتت وعاء للعقيدة والفكر والعلم، مما أدى إلى تطور العلوم والفنون، وترسيخ قيم أخلاقية ومفاهيم اجتماعية جديدة؛ كما ساهمت منظومة التفكير القيمي الإسلامي في بناء حضارة إسلامية موحدة شملت تطورات في العمارة، والعلوم، والأدب، والخط، مع بناء أسس معرفية مشتركة بين العلماء العرب.. حيث حث الإسلام على العلم والمعرفة والانفتاح على الثقافات والعلوم والحضارات، أي أنه شكل حافزاً ودافعاً لنقل العلوم القديمة وترجمتها، مما فتح آفاقاً جديدة وواسعة للإبداع والاستكشاف العلمي لدى العرب في شتى المواقع الفكرية والفلسفية والعملية.. كما أنشأ أسساً وقواعد معرفية مشتركة في مجالات مختلفة مثل الطب والفلك والرياضيات، وأدى إلى ظهور كتابات وأبحاث في علوم الدين واللغة والآداب والفلسفة وغيرها.
.. نعم قدمت الثقافة العربية الإسلامية في تاريخها عطاءات كثيرة كما قلنا، ولكن اليوم، ما وهو وضع هذه الثقافة؟ وما دور المثقفين العرب؟ وما هي التحديات الراهنة التي تواجههم؟.. وأين هو المثقف النقدي حامل لواء النقد والمساءلة الحضارية.. هل بقي له شأن يذكر في ظل تحولات العالم وغرق المجتمعات بفوضى القيم وعشوائية السياسات النفعية الاستهلاكية المادية الفجة؟!..
في الواقع تمر الثقافة العربية الإسلامية اليوم بمنعطف حاسم في تاريخها، حيث تواجه مجموعة متشابكة من التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد بتهميش دورها وتأثيرها، وهي ليست تحديات وليدة اللحظة الراهنة، بل نتيجة تراكمات تاريخية ومعاصرة تستدعي وقفة جادة للتشخيص والتحليل والمعالجة على مستوى الثقافة ذاتها في تطبيقات قيمها، ودور مثقفيها..!!..
كما تعاني الثقافة العربية من آثار ما يمكن تسميته بــــــ “الصدمة الحضارية”، التي نتجت عن الانتقال من موقع الريادة الحضارية في عصور سابقة إلى موقع التبعية والاستلاب التي طالت واستطالت.. وقد خلق هذا الانتقال حالة من الازدواجية بين التمسك بالماضي المجيد، بما فيه وعليه، وبين الرغبة العارمة في اللحاق بركب الحضارة المعاصرة..!!.
وتواجه الثقافة العربية إشكالية عميقة في علاقتها مع التراث، حيث تتأرجح بين:
– التقديس المطلق للتراث وجعله سلطة فوق النقد.
– القطع الجذري مع التراث والانسلاخ عن الهوية.
– عدم القدرة على تطوير منهجية متوازنة للتعامل مع الإرث الثقافي.
كما تفتقرُ الساحةُ الثقافية العربية إلى وجود تقليد راسخ في النقد الموضوعي البناء.. وتعاني من حاجة ماسّة لحرية تعبير تكونُ كافية لممارسة النقد الجريء والمساءلة الشجاعة، حيث ثقافة المنع ومصادرة الرأي والاستبداد السياسي راسخة وعميقة.. ولعلَّ الطامة الكبرى هنا تأتي مع عودة هيمنة الخطابات الطائفية والتعصب للمذهب والطائفة، ومحاربة الاختلاف، أي عدم وجود فضاء ثقافي عربي رصين ومعياري عملي لتقبل الرأي الآخر المغاير، فكراً وعملاً..
.. في ظلّ ما تقدّم من تحديات وكوارث ثقافية وعملية تستحكم على واقعنا العربي العام، تتوجه الأنظار بالدرجة الأولى للمثقف كأحد صانعي الموقف الرؤيوي الثقافي العملي.. أين هو؟!.. حيث أن الواقع المرير أصاب الناس في مقتل، وجعل اليأس والإحباط صديقاً لها، والكل يسأل عن الأسباب والمسببات، وعن دور الثقافة والمثقف في مواجهة تلك المظاهر المتخلفة.. الكل يسأل عن مصداقية رؤية المثقف للإشكاليات والتحديات القائمة، ومدى نجاحه ليس في التحليل فقط، بل في المعالجة واقتراح الحلول والمعالجات الحقيقية.. والكل يسأل أيضاً عن أسباب هذا التركيز الدائم على الجانب الثقافي في مثل هذه المراحل الصعبة والمنعطفات الخطيرة التي تمر بها الأمة..
ولكن من جهة أخرى، لماذا لا نسأل السياسة وأهلها أيضاً قبل الثقافة والمثقفين، الذين نحمّلهم مندرجات الفشل ونتائجه على الأرض؟ ولماذا لا نملك الجرأة الكافية لمساءلة “صُناّع القرار” عن دورهم في واقع الأزمات والمشكلات القائمة، أو عن النتائج المتواضعة التي أظهرتها عقودُ التطبيق النخبوي الفوقي القسري لبرامج وسياسات التحديث القشري الفاشلة، والتي دعوا إليها وطبّقوها قسراً وبالقوة، وكانوا مشاركين فيها مباشرة أو عن غير قصد..!!؟..
فالمثقف ينطلق في عمله من حقيقة أنه يفتقر إلى سلطة القرار والتأثير المباشر التي يمتلكها السياسي.. فهو لا يبحث عن هذه السلطة أو تلك.. لكنه يدرك أن التغيير الحقيقي يستحيل دون قوة داعمة وصاحبة قرار.. وهو كمثقف عضوي معني بالإصلاح، سلاحه الوحيد هو قوة الفكر والكلمة، ورسالته تكمن في ضغطه الفكري والمعنوي المستمر، الساعي لإقامة دولة الحق والقانون التي لا تخضع لسيطرة فرد أو فئة.
وعلى الرغم من ذلك، تهاب السلطات هذا المثقف المنعزل في محرابه أكثر من خوفها من المتطرف المسلح، لأن خطورة العقلانية النقدية المستمرة تفوق خطر العنف اللحظي.. فالمثقف الحقيقي طبيب حضارات، يمتلك بصيرة نافذة وقدرة على كشف الأوهام وهتك الأستار الذهنية التي تحجب الحقيقة.
لكن هذا – بطبيعة الحال – لا يعفي المثقف العربي من مسؤوليته عن الأخطاء التاريخية التي ساهمت في الأزمات الراهنة.. فكثيرون وقعوا في فخ الطائفية، وأيدوا نظم الفساد، وعجزوا عن استيعاب روح الثورات العربية، بل وساهموا في نشر أفكار الانقسام تحت مسميات دينية ومذهبية، مما أدى إلى تأجيج الصراعات التي مزقت أوطاناً عربية عديدة وعلى رأسها سوريا..
وهذه الأفكار الطائفية، التي روجها ويروجها بعض المثقفين، ورجال الدين عبر وسائل الإعلام المتعددة المختلفة، أصبحت تستخدم كأداة من قبل أنظمة وأجهزة استخبارات محلية وأجنبية.. والنتيجة هي تراجع الطبقة الوسطى التي كانت عماد التغيير، وبروز عقليات إقصائية دموية تفرق العالم إلى معي وضدي، في مواجهة مصيرية تحدد مستقبل الأمة. وبتنا نحن اليوم في مواجهة عقليات إقصائية دموية إرهابية تحيط بنا من كل حدب وصوب، تنطلق من فكرة بدائية غاية في الابتذال الأخلاقي والقمع الفكري وهي: إما أن تكون معي، وبالتالي تكون ضد الآخر.. وإلا فلا تكون..
وأما عن استشراف آفاق المستقبل وضرورات الإصلاح.. فإن الوضع يتطلب العمل الكثير، من أجل تجاوز الأزمة الثقافية المتعددة الأوجه.. إنه يتطلب إصلاحاً تعليمياً جذرياً، ودعماً للمؤسسات الثقافية المستقلة، وتشجيعاً لحرية الإبداع والتعبير، وتطويراً لسياسات ثقافية واضحة.. والأهم من ذلك القيام بإجراءات عملية لصيانة الحقوق والتنمية العقلية والعلمية..
وهذا كله يتطلب قبل أي شيء، شجاعة في المواجهة، وإرادة حقيقية للتغيير.. فليست الثقافة العربية في حاجة إلى قطع مع تراثها، بل إلى إعادة قراءته قراءة نقدية خلاقة، وفتح حوار جاد مع الثقافات الأخرى دون انغلاق أو ذوبان..
إننا نعتقد أنَّ مستقبل الثقافة العربية مرهون بمدى قدرتها على تجديد أدواتها ومناهجها، والتواصل مع جمهورها، والانفتاح على العصر دون فقدان لهويتها. إنها معركة وجود تستحق أن نخوضها جميعاً، لأنَّ الثقافة ليست ترفاً، بل هي أساس وجودنا وهويتنا، وتحديد موقعنا في هذا العالم.
