بين الإسلام والحداثة.. الاجتهادُ كمنهجٍ علمي
بقلم غسان عبد الله
كثيرةٌ هي الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات التي تعرَّضَتْ لمفهوم الحداثة على أنها تعبير عن اليأس والقنوط والكفرِ بكلِّ القيمِ وإلغاءٌ أو نفيٌ للقديم (الأصالة أو التراث).. ناهيك عن أن هذه المقالات تُخفي بين طياتها كثيراً من الطروحات العرقية والتكفيرية المخالفة للشريعة الإسلامية..
في هذا الهامش أتناول مفهوم الحداثة لكن برؤية أكثر شمولية وعمقاً ومنطقية أي برؤية إسلامية.. ربما نسيَ البعض أن الثورة الاجتماعية ذاتها، وبواكير الديمقراطية قد ذكرها الله في القرآن، وتحققت في سُنّة النبي، ونهج أئمة أهل البيت عليهم السلام.
بالطبع هناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي دعتْ إلى الديمقراطية والحقوق والانفتاح الفكري والعلم والعمل والإنسانية والمحبة والتسامح والأخوة و…. إذن؛ لماذا كان وما يزال الموقف العام من النظريات والاكتشافات الفكرية والثقافية الحديثة في المجالات غير المادية، كعلم النفس والتربية والاجتماع والتاريخ، واللسانيات والأدب والفن موقفاً سلبياً بل قائماً على أفكار مذهبية تتعارض والدين الإسلامي ذاته؟. متى كان الإسلام يرفض التّقدم، أليس مفهوم التقدم في الإسلام أقوى طرحاً وعمقاً منه في الطروحات الغربية؟.
ألم يدعو الإسلام إلى التفكّر وطلب العلم والسـّير في الأرض ودراسـةِ الآثار واكتشافِ آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق؟.. *أليست أفكار لوك (تصور جديد لعالم سياسي يقوم على الحرية الشخصية حيث لا سيادة لأحد على آخر) هي ذاتها أفكار بل جوهر الإسلام؟ لماذا استسلمنا لأحضان الحداثة التكنولوجية والعلمية والعسكرية.. بينما نعارض الحداثة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية؟. ألسنا في ذلك نشبه الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض؟.
لماذا يرفض بعضُ المسلمين الحداثة؟ مع العلم أن الإسلام دين الاعتدال والانفتاح؟.. ومتى سَيَفْهَم المسلمون بأن قوّة الغرب تكمن في أسلوب العمل وليس الحياة؟ أليسَ الإسلام منهجَ حياة؟ أليسَ القرآن هداية؟.. أم أن المسألة صراع حضارات كما صرَّح هنتنغتون؟. وللتذكير أقول بأن الحداثة الفكرية والعلمية والتقنية الغربية (القرن السادس عشر) تعود للفكر العربي الإسلامي.. حيث جسَّد العلماء والحكماء ذلك في تعاملهم مع العلم والبحث العلمي في التعليم والتحصيل والكتابة والتأليف والترجمة والبحث والتحقيق.
كلهم كانوا من الأندلس والمغرب ومصر والكوفة وخراسان وفارس والبصرة والهند وأثينا و.. و.. و… إذن لولا انفتاح الأمة الإسلامية على الأمم الأخرى، ما كانت لتصلَ إلى أوج الحضارة والازدهار والتطور وقتئذٍ؟.
الحداثة إذن تعني أن للمفردات دلالة كما الحياة، الطبيعة، الإنسان، والكون بأسره.. فهي بذلك قائمةٌ على العقلانية والتنوير لا على الغيبيات والخرافات والأساطير والغموض والديني و… وبذلك ننفي تلك التهمة القائلة بأن الحداثة مذهبٌ فكريٌّ جديد يحمل أصوله من الغرب.
فالعقلانية والحرية والعدالة واحترام إنسانية الإنسان ليست قيماً غربية، بل هي قيم كونية تستمدُّ وجودها من تطلّع الإنسان عبر التاريخ إلى الكمال.. ﴿ولقد كرَّمنا بني آدم…﴾..
وعليه؛ فالإنسان ليس لعبةً في يد التاريخ بل عليه أن يوجِّهَ حركةَ التاريخ نحو أهدافٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ لإعطاءِ معنى لوجوده.. من هنا لجأَت المجتمعات الغربية إلى نزعاتٍ روحيةٍ انتهت إلى نهايةِ الفلسفةِ ونهايةِ التاريخِ ونهايةِ الإنسان.
والسؤال؛ لماذا عجزتْ البشرية عن إيجاد الحل لأزمة الإنسان الذي فقدَ معنى وجوده؟.. قطعاً لأنها عجزتْ عن فهمِ واستيعابِ الواقع.. لذلك انتهت إلى قيمٍ ضدّ القيم.. هذه القيمُ والمفاهيمُ والفلسفاتُ الغربيةُ انعكاسٌ للواقعِ وللتاريخ، فهي بذلك لا يمكنها أن توجّه التاريخ.
وهل نستطيع أن نغيِّرَ العالم إن لم نتمكَّنَ من إعطاءِ معنىً له؟.. هنا نحن بحاجةٍ إلى فلسفةٍ تستمدُّ رؤيتها من الدين بصورةٍ تعبُّدية واجتهادية.. فالشريعةُ الإسلاميةُ كانت ولا تزال صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وحالٍ لكنّ ذلك لن يتمَّ إلاَّ عن طريقِ الاجتهاد كمنهجٍ علمي.
فالاجتهاد يتطلَّبُ تعاملاً مع النص يتصفُ بشدّةِ الفحصِ وعمقِ النّظرِ ما يجعل النصّ مفتوحاً للمعنى في كل زمان ومكان.. ما يمنع احتكار الفهم على طبقة أو جيل من الناس.. والاجتهاد ابتكار والحداثة إبداع.. وليس بين الإبداع والابتكار أي فرق.
وها هو العالم الإسلامي وقد تحرّر من أقصاه إلى أقصاه منذ الخمسينيات، لكن أين هو من بناءِ الأمةِ الواحدةِ ومؤسساتها واكتسابِ العلومِ وتأمينِ الازدهارِ للناس؟!… بعد نصف قرنٍ نتبيَّن أن مشاريع التنمية كانت عبارة عن خطط عشوائية.. وأن الإدارات فاسدة.
بالطبع نشعر بخيبةٍ كبيرة إثر هذه الإخفاقات والهزائم والانكسارات العربية الإسلامية. لذا انصرفنا عامةً ومفكّرين بحثاً عن الأصالة والهوية والخصوصية بدل أن ننكب على إنجاز مشروعنا الذاتي للحداثة ما أضاعَ مصيرنا فيما يتعلق بمشاريعِ التنمية والبناءِ وتحسين العيش وتحقيق الكرامة الإنسانية.
وها هي الأمة الإسلامية وقد أصبحت على مفترق الطرق، ومصيرها معلّق بإعادة النظر في رؤيتها إلى الإنسان والمجتمع والتاريخ.. بينما في الغرب ظهرت الحداثة كتمرّد ضد الماضي وضد القيم المرتبطة بالكنيسة وترافقَ ذلك تحديث السلطة وتقييدها، وإطلاق المبادرات الفردية عن طريق إطلاق الحرية الشخصية.. ونحن!.. ألا تهمّنا الأرض وما يدور عليها من كوارث وحروب ودمار؟.. ألسنا عليها لإعمارها برفض الظلم والطغيان الاجتماعي؟.
وهذا الكون المحيط بنا، ألم يحن الوقت لفكِّ رموزه وألغازه بما يخدم مصلحتنا؟.. وهل الله خلقَ السماء والأرض والإنسان عبثاً؟.. وهل العلوم والمعارف ستبقى حكراً للغرب؟!.. وهل التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي محرَّمٌ علينا؟.
وإلى متى سنبقى في التقوقع بعيداً عن أية قدرة أو نفوذ أو وجود شأننا في ذلك شأن أهل الكهف؟.. وهل يُعقَل أن نبقى في تخلّفنا لنغوصَ أكثر في الاغتراب والعولمة؟.. ومتى سنواكب الواقع ونتطور في الزمان وفقاً لمشروعنا الحضاري الإسلامي؟.
ما هو العقل؟.. ممَّ يتشكَّل وماذا يُشكِّل؟.. ما قيمة الإنسان بلا عقل؟.. ومتى سنعقِل هذا الكلام؟!.
إن القراءة التي تنزع إلى خلقِ رؤيةٍ فنيةٍ وجماليةٍ ما بين النصّ والقارئ، تعمل على إنتاج قراءةٍ بمفاهيم لا تخضعُ للتقليديّ والنمطيّ، إنما للفلسفيّ المعرفيّ الذي يمسُّ النص وسلطته المعرفية والقارئ وسلطته المعرفية.
هذه القراءة حداثوية لأن التلقّي في هذه الحالة لا ينزعُ إلى تقبيلِ اللحى أي التقليدي السائد إنما إلى إنتاج وإخراجٍ جديد (حداثوي).. وهذا ما أعلنه بارت في الستينات (موت المؤلف).. وذلك لأن النص هو الأكثر أهميةً من كاتبه أو مؤلِّفه.
نحن (في الإسلام) ليس يهمنا البحثُ في الذاتِ الإلهية أو عنها إنما الوصولُ إلى معنى النصّ القرآني.. إلى جوهرِهِ والمضمون.. كذلك (في النقد) ليس يهمّنا البحثُ في ذات الكاتبِ إنما الوصولُ إلى جوهرِ النصِّ ومضمونهِ ومعناه.. فما مِن تعارُض ولا تنافٍ بين الإسلام والحداثة.. وعليه؛ فالنص الحداثوي المنطلِق من وعيِ الكاتبِ وتجاربِهِ ومرجعياتِهِ الثقافيةِ وحسِّهِ الفنيِّ والأدبيِّ يحتاجُ إلى حركةٍ نقدية مميزة شموليةٍ لا تنتمي إلى مذهبٍ نقديٍّ معيّن وإلاَّ أصبحَ الناقدُ في مأزقٍ لا يُحسَد عليه.. ولأننا (في الإنسان) ليس يهمُّنا البحث في شكله أو بيئته أو جنسيته إنما إنسانيته وسلوكياته، ندعوه أن يكون أكثر شموليةً وعمقاً وانفتاحاً على المطلق.. ﴿وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا…﴾.
