
الشرع أمام ساعة الحقيقة.. التطبيع مع الكيان الصهيوني
بقلم توفيق المديني
يكاد لا يمر يومٌ واحدٌ إلا وتتحدث التقارير الغربية والعربية عن موضوع التطبيع بين سوريا والكيان الصهيوني، فها هو الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع يقول في تصريحاتٍ لافتةٍ: “نحن و “إسرائيل” لدينا أعداء مشتركون.. وترامب رجل سلام”،(صحيفة عربي 21، تاريخ السبت 31 مايو2025).
ولم يعدْ خافياً على أحدٍ عن وجود اتصالات ومحادثات بين السلطات السورية الجديدة و”إسرائيل”، مما أثار تساؤلاتٍ عميقةٍ حول التحولات الممكنة في السياسة السورية الخارجية.
فها هي قناة “آي 24” الإسرائيلية، تنقل مساء الجمعة الماضي، عن مصدر سوري أنَّ الكيان الصهيوني وسوريا سيوقعان “اتفاقية سلام” قبل نهاية عام 2025، زاعماً أنَّ مرتفعات الجولان ستتحول بموجب الاتفاقية إلى “حديقة سلام”. وأضاف المصدر، الذي لم تكشف القناة عن هويته، أنَّ من شأن هذه الاتفاقية تطبيع العلاقات بين البلدين بشكل كامل، موضحاً أنه “بموجب الاتفاقية المذكورة، ستنسحب إسرائيل تدريجياً من جميع الأراضي السورية التي احتلتها بعد غزو المنطقة العازلة في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بما في ذلك قمة جبل الشيخ”.
وعقب ذلك، قال وزير الخارجية الصهيوني، جدعون ساعر، في مقابلة تلفزيونية يوم السبت 28 يونيو 2025، إنَّ بقاء “إسرائيل” في مرتفعات الجولان شرط أساسي لأي اتفاقية تطبيع محتمل مع سوريا، مؤكداً أنَّ اعتراف دمشق بـ “سيادة إسرائيل” على الجولان يُعَدُّ خطوةً ضروريةً لإبرام اتفاقية مع الرئيس السوري أحمد الشرع.
أمَّا صحيفة نيويورك تايمز فقد نشرت تقريراً بتاريخ 2 تموز/يوليو 2025، كتبه مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز في بيروت بن هابرد، بالاشتراك مع مراسلة الصحيفة في الشرق الأوسط إيريكا سولومون، وجاء فيه: إنَّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفعت معظم العقوبات عن سوريا في بادرة حسن نية تجاه الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، لاسيما أنَّ قرار رفع العقوبات كان موضع ترحيب شعبي في سوريا، حيث يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، إلا أنَّ العقوبات التي رفعها ترامب لا تشمل الإجراءات كافة، لأنَّ بعضها يحتاج إلى موافقةٍ من الكونغرس. ولكنَّ هذا التقارب الدبلوماسي ليس مجانياً بل مشروطاً بتوقعاتٍ أمريكيةٍ محدَّدةٍ، ألا وهو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
رفع العقوبات ومتطلبات واشنطن من سوريا حول التطبيع
أعلن البيت الأبيض يوم الاثنين 30 يونيو2025، أنَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيوقع أمراً تنفيذياً يرفع بموجبه معظم العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، في خطوةٍ تهدف إلى دعم جهود إعادة الإعمار وتعزيز الاستقرار في البلاد التي مزقتها الحرب الأهلية على مدار أكثر من 14عاماً.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت خلال مؤتمر صحفي عقدته مع الصحفيين إنَّ الأمر التنفيذي سيستثني عدداً من العقوبات التي تستهدف الرئيس السابق بشار الأسد، بالإضافة إلى شركائه في السلطة والأشخاص المرتبطين بعمليات منافية للقانون مثل انتهاكات حقوق الإنسان وتجارة المخدرات، وكذلك أولئك المرتبطين ببرامج الأسلحة الكيميائية وتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيماته الفرعية، فضلاً عن وكلاء إيران في المنطقة. وأضافت ليفيت أنَّ “الرئيس ترامب ملتزم بدعم سوريا مستقرة وموحدة، تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها”، وأشارت إلى أن هذا القرار يأتي استجابة للوضع المتغير على الأرض، لا سيما بعد لقاء الرئيس الأمريكي بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع خلال زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط، مؤكدة أنَّ هذه الخطوة تمثل “تعزيزاً للسلام والاستقرار في المنطقة”.
لا شكَّ أنَّ رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، ليس حباً من إدارة الرئيس ترامب لسوريا وشعبها وقيادتها الجديدة، بل هو يأتي في سياق هندسة جديدة وشاملة لمنطقة الشرق الأوسط، التي شهدت منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، تداعياتٍ خطيرةٍ، لعل أهمها: سقوط النظام السوري الذي كان يمثل أحد الركائز الأساسية لمحور الممانعة، وخراب اقتصادي واجتماعي وتهتك سياسي، حَلاَّ في كل الدول العربية التي كان يمكن أن تكون قوى إقليمية وازنة، كمصر والعراق وسوريا، تلعب دوراً ما في مواجهة حرب الإبادة الأمريكية – الصهيونية ضد الفلسطينيين في قطاع غزَّة، واندلاع العدوان الصهيوني – الأمريكي على إيران بهدف تصفية برنامجها النووي، وانكشاف موقف الرئيس التركي أردوغان، الذي ظل متفرجاً على زلازل المنطقة، ومكتفياً بإطلاق القنابل الصوتية ضد “إسرائيل”، وازدياد عدوانية وجرائم الكيان الصهيوني نظراً لما يمتلكه من فائض القوة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط جرَّاء دعم الإمبريالية الأمريكية له، وتعاظم مشاريعه التوسعية المنبثقة من العصبية الصهيونية ووعود دينية عمرها آلاف السنين، من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وبناء “دولة إسرائيل الكبرى” التي تمتد من النيل إلى الفرات.
وبما أن موازين القوى مختلة إلى حد بعيد لمصلحة الكيان الصهيوني بعد 22 شهراً من الحروب التي خاضها، في غزَّة، ولبنان، وسوريا، وأخيراً ضدَّ إيران، الأمر الذي مكَّنه من السيطرة المطلقة على أجواء الشرق الأوسط، فإنَّ أي اتفاق سلام مع سوريا سيأتي ليعكس هذا التفوق. ومن هذا القبيل، يشدد المسؤولون الإسرائيليون على أن أي اتفاق مع سوريا، لن يتناول هضبة الجولان المحتلة.
ضمن هذا السياق تعمل إدارة ترامب على مسار وقف النار في غزَّة، وعلى الدمج الأمني والاقتصادي لسوريا في النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي الذي تقوده الإمبريالية الأمريكية، خصوصاً بعد ضرب أهم مرتكزات محور المقاومة، وبعد أن باتت سوريا في ظل قيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، تنتهج سياسة خارجية جديدة تقوم على القطع مع فكر التنظيمات الجهادية التكفيرية باعتباره شرطاً أمريكياً – غربياً – صهيونياً، واعتمادِ نزعةٍ براغماتيةٍ من خلال عدم دخول سوريا في أيِّ صراعٍ مع دول الجوار بما فيها دولة الاحتلال الصهيوني، وإقامة أحسن العلاقات مع الدول الغربية، والقبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وفقاً للشروط الأمريكية الصهيونية، والتقدم نحو اتفاق بين سوريا و”إسرائيل” ينهي حال العداء بين الجانبين، لكنَّه لم تتبلور بعد طبيعته، هل يتخذ طابعاً أمنياً فقط، أم يتجاوز ذلك نحو البحث في تطبيع كامل للعلاقات؟.
وفي خلفية هذه المسارات، تضغط إدارة ترامب على لبنان لحسم ملف سلاح “حزب الله”، وعلى إيران المجيء إلى طاولة المفاوضات لإبرام اتفاق نووي الآن، أو البقاء عرضة للضغوط القصوى واحتمال شنِّ عدوان أمريكيٍّ – صهيونيٍّ في المستقبل، للحؤول دون تمكينها من استعادة ترميم برنامجها النووي.
في اللقاء الذي جرى في القصر الرئاسي في دمشق بين الرئيس السوري أحمد الشرع ورجل الأعمال الأمريكي جوناثان باس، الجمهوري المقرب من ترامب ورئيس شركة أرجنت للغاز الطبيعي، الذي زار دمشق مؤخراً، وعرض على الشرع خطةً للشركات الغربية لتطوير موارد الغاز السورية، بحسب ما نشر الأخير في صحيفة “جويش جورنال” اليهودية، قال الشرع: إنَّ سوريا و”إسرائيل” لديهما أعداء مشتركين.. وترامب رجل سلام. وإنَّ زمن التفجير والقصف والانتقام بلا داعي يجب أن يتوقف، معبراً عن رغبته بالعودة إلى اتفاق فك الاشتباك لعام 1974. وأضاف الشرع: “أريد أن أكون واضحاً يجب أن ينتهي عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي. لا تزدهر أي دولة عندما يملأ الخوف سماؤها. الحقيقة هي أن لدينا أعداءً مشتركين، ويمكننا أن نلعب دوراً رئيسياً في الأمن الإقليمي.
وعن التطبيع مع الكيان الصهيوني، امتنع الشرع عن الإقرار برغبته في تطبيع فوري معه، إلا أنه أبدى انفتاحاً على الأمر في إطار القانون الدولي والسيادة. وقال الرئيس السوري: “يجب كسب السلام بالاحترام المتبادل وليس بالتخويف، سننخرط في الأمر حينما يكون هناك صدق ومسار واضح للتعايش، ولا شي أقل من ذلك”.

هل سيقبل الشرع بالتطبيع مع “إسرائيل” دون استرداد الجولان المحتل؟
على الرغم من عدم توفّر رغبة ذاتية لدى القيادة السورية للانفتاح على الجانب الإسرائيلي وتطبيع العلاقات معه، وذلك بتأثير توجهاتها الأيديولوجية السابقة وضغط الموقف الشعبي السوري القومي المؤيد للقضية الفلسطينية والرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني، فإنّ هناك مؤشرات قوية تؤكد على انخراط القيادة السورية الجديدة في التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن أبرزها:
أولاً: اللقاء الذي حصل بين عضو مجلس الكونجرس الأمريكي كوري ميلز والرئيس السوري في دمشق في 18 نيسان/أبريل 2025، حيث قال ميلز إنّ أحمد الشرع أبدى انفتاحاً على تحسين العلاقات مع “إسرائيل”، وبأن سوريا مهتمة بالانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” حين تتوفر الظروف المناسبة لذلك. كما التقى عضو مجلس الكونجرس مارلين ستوتزمان الرئيس الشرع في 21 نيسان 2025، وتحدث ستوتزمان عن رغبة الشرع بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وبأن ذلك مرهون بشروط أبرزها ضمان سيادة سوريا ووحدة أراضيها. ونقلت شبكة الجزيرة عن مصدر سوري قوله إن لقاء الشرع مع ميلز تطرق لمواضيع عديدة منها “اتفاقيات أبراهام”، مضيفاً أنّ الشرع أكّد على ضرورة توقّف “إسرائيل” عن قصف سوريا والانسحاب من الجولان قبل الحديث عن أي اتفاقيات.
ثانياً: تأكيد القيادة الجديدة في دمشق أنَّ سوريا انتقلت نهائياً من محور المقاومة إلى محور الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي الأمريكي، بعد سقوط نظام الأسد، وخسارة طهران سوريا التي كانت نقطة ارتكاز النفوذ الإيراني في المنطقة. ولما كانت السلطات الجديدة بقيادة الشرع التي وصلت إلى الحكم في دمشق تعاني من الضعف، وغياب الشرعية السياسية الشعبية باعتبارها حكومة غير منتخبة من قبل الشعب السوري، فإنَّ الشرعية الوحيدة التي تستمدها من أجل البقاء في الحكم هو نيل الشرعية من الغرب، والأنظمة العربية الحليفة للإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني.
لهذه الأسباب مجتمعة تعمل إدارة ترامب على دعم الحكم الجديد وتحصينه برفع العقوبات الأمريكية وتدفق الاستثمارات الغربية والعربية، وإقامة التطبيع بين سوريا و الكيان الصهيوني، إذ تخشى الولايات المتحدة من تفكك سوريا إلى فيدراليات طائفية، خصوصاً أنَّ الشعب السوري لم يعد موحداً في ظل الانقسامات العمودية التي تشقه على جميع الصعد الطائفية والمذهبية والعرقية، وهذا ما سيجعل من السهل على إيران بناء مواقع نفوذ في سوريا، طبقاً لوجهة النظر الأمريكية.
وفي هذا السبيل، أسقطت واشنطن الكثير من المطالب التي كانت وضعتها كشروط مسبقة للتعامل مع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، مثل طرد المقاتلين الأجانب أو الأخذ في الاعتبار واقع الأقليات العرقية، كالأكراد والأقليات الدينية مثل العلويين والدروز والمسيحيين. وتضغط واشنطن على “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) لتنفيذ اتفاق آذار/ مارس، الذي نص على “الاندماج” بالجيش السوري الناشئ بحلول نهاية العام.
ثالثاً: يعتبر نتنياهو المدعوم بقوة من جانب ترامب، أن الكيان الصهيوني دخل في مرحلة بناء نظام الشرق الأوسط الجديد بقيادته، وإعادة رسم خرائط وحدود المنطقة من جديد، وجني المكاسب الاستراتيجية لحروب الكيان الصهيوني، في ضوء انحسار النفوذ الإقليمي لإيران الإسرائيلي، وحصد المكافآت السياسية، والوصول إلى تحقيق التطبيع بين سوريا والكيان الصهيوني، بالديبلوماسية.
من الجانب الأمريكي، أعلن المبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك، أن اتفاقيات السلام مع إسرائيل باتت “ضرورية لسوريا ولبنان بعد الحرب”، مشيراً إلى أن التصعيد بين إيران وإسرائيل قد “فتح طريقاً جديداً في الشرق الأوسط”. وأكد باراك وجود “محادثات هادئة بين سوريا وإسرائيل حول مختلف القضايا”، داعياً إلى منح الإدارة السورية الجديدة فرصة لإثبات جديتها، وسط ما وصفه بـ “الفراغ الإيراني” في سوريا بعد سقوط الأسد.
الكيان الصهيوني يريد فرض السلام بالقوة، عبر مراكمة تفوقه العسكري والاستراتيجي، إضافة إلى اعتباره الجولان السوري المحتل منذ حرب حزيران 1967، أصبح خاضعاً للسيادة الصهيونية منذ أكثر من نصف قرن، ولا مجال للقيادة السورية الحالية من استرداده. ومع ذلك يجمع الخبراء والمحللون إن المفاوضات الجارية بين المسؤولين السورين والإسرائيليين، لا ترقى إلى مستوى تطبيع شامل، فما يجري الآن هو مسار محدود يهدف إلى “منع الاعتداءات الإسرائيلية ووقف الاستفزازات”، دون التخلي عن الحقوق السورية الثابتة.
فالمحادثات غير المباشرة بين سوريا و”إسرائيل”، تُجْرَى على مستويات استخبارية ودبلوماسية، مع تركيز الجانبين على نموذج تدريجي لتثبيت الهدنة دون تطبيع كامل للعلاقات، وتهدف إلى إعادة صياغة اتفاق فك الاشتباك لعام 1974، وسط تحركات دبلوماسية تقودها الولايات المتحدة، وعبر وسطاء من قطر والسعودية، بينما أبدت الولايات المتحدة استعدادها للضغط من أجل تحقيق تقدم تدريجي في هذا المسار. ويفكر الطرفان السوري والإسرائيلي في إشراك قوات أمريكية على طول خط وقف إطلاق النار في الجولان، في إطار اتفاق جديد “لا يرقى إلى مستوى معاهدة سلام شاملة”. فالخيار البديل المطروح يتمثل في تعديل بنود آلية الهدنة الحالية، بعيداً عن معاهدة السلام، بما يشمل إعادة النظر في دور قوات الأمم المتحدة، وتثبيت أو سحب القوات على الجانب السوري من الجولان المحتل.
وتجدر الإشارة إلى أنّه حتى لو اختارت القيادة السورية السير في مسار التطبيع والانفتاح على الكيان الصهيوني، فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة الحصول على درجة الرضا الكاملة التي تسعى إليها؛ إذ أنّ عناصر الابتزاز والضغط الصهيوني والأمريكي والغربي ستتواصل لتنفيذ الكثير من الطلبات وتحقيق العديد من المعايير، التي تفقد النظام السوري عناصر هويته الوطنية والقومية والإسلامية، وتُخضعه لمنظومة الهيمنة الصهيونية والأمريكية. كما أنّ عناصر الشكّ والتخوّف ستبقى قائمة تجاه قادة سوريا الجدد بسبب خلفياتهم الإيديولوجية الجهادية، وهو ما يعني أنّ الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ودول التطبيع ستفضل سياسة التدرّج المشروط، كما ستفضل تغيير هذه القيادة إلى قيادة أكثر براغماتية وولاء وانسجاماً مع الهيمنة الأمريكية – الصهيونية في المنطقة.