إقليميات

نزاع السويداء وخفاياه

بقلم زينب عدنان زراقط

النزاع في السويداء بين الجيش السوري والطائفة الدرزية ليس مجرد صراع محلي عادي بل هو انعكاس لأزمات عميقة في هوية الدولة السورية، وطبيعة النظام السياسي، والتداخلات الطائفية، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية.

فما هي الرواية حول الذي جرى من اقتتال بالسويداء جنوبي سوريا؟ وما الدوافع التي أججت هذا الصراع والخفايا السياسية التي تحوم حوله؟ وهل انتهت القضية بوقف القتال؟.

الرواية وما خلفها من خفايا

تُروى الحادثة على أنها بدأت بحزازيات عشائرية تفاقمت مع خطف أحد تجّار المدينة أثناء مروره على طريق يربط السويداء بمحافظة درعا من قبل مجموعة مسلّحة تنتمي إلى إحدى العشائر البدوية في ريف درعا الشرقي. ما أدى إلى اندلاع اشتباك مسلح أوقع قتلى وجرحى من الطرفين، ومع تزايد التوتر، توسّع نطاق التحرك العسكري داخل أحياء السويداء وامتدّ إلى أطرافها الجنوبية والغربية، حيث تنتشر قرى مختلطة درزية وبدوية.

تزامن التصعيد مع خطاب عالي النبرة صدر عن المرجعية الدينية للطائفة الدرزية، عبّر فيه الشيخ حكمت الهجري عن استيائه مما وصفه بـ “تكرار انتهاك كرامة أبناء السويداء على الطرق العامة”، ووجّه تحذيراً مبطناً من “السكوت على الإهانات”. في المقابل، أصدرت مجموعات عشائرية في درعا بيانات تتهم فصائل السويداء بمهاجمة قراها ومنازلها، الأمر الذي غذّى دورة عنف متصاعدة. وبحلول الأحد 13 يوليو/ تموز، تحوّلت المواجهات إلى اشتباكات عسكرية منظمة، مع ظهور أسلحة ثقيلة واستخدام سيارات مزوّدة برشاشات، ما دفع الجيش السوري إلى إعلان حالة استنفار جزئي في المنطقة، تمهيداً للتدخل، وهو ما تم فعلياً بعد ساعات قليلة.

هنا دعا الشيخ حكمه الهجري وهو زعيم الموحدين الدروز، ” ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتدخل لإنقاذ السويداء”، ما زاد من تعقيد المشهد وعزز الانقسامات داخل المجتمع. إلا أنه لا يعكس رأي كامل أهالي السويداء، بل هو جزء من خطاب متطرف ينعكس سلباً على فرص المصالحة الوطنية. فما يجب إدراكه أن المكون الدرزي في سوريا ليس مجرد طائفة عادية، بل له تاريخ نضالي بارز في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ممثلاً في شخصية سلطان باشا الأطرش. واستهداف هذه الطائفة والاعتداء عليها هو استهداف مباشر لجذور النضال الوطني السوري، ما يثير استياءً شديداً ويؤكد أن من يقومون بهذه الممارسات لا يمثلون الشعب السوري الحقيقي.

إلاَّ أن الأزمة تفاقمت حدتها مع مُسارعة التدخل الإسرائيلي الذي استهدف آليات عسكرية ومواقع تابعة للجيش السوري في محيط البلدة جنوبي السويداء، وبدأت الريبة تلوح على مظاهر النزاع جليّاً. ومع بلوغها الذروة باستهداف مبنى هيئة الأركان العامة في قلب العاصمة دمشق، سرعان ما سعى وجهاء الطائفة للسعي بفضّ هذا النزاع. وأعلن مصدر في وزارة الداخلية وأحد شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز، يوسف جربوع، – يوم الأربعاء 16 يوليو/تموز – التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار يقضي بدمج السويداء بالدولة في حين أن رفض الرئيس الروحي للطائفة حكمت الهجري هذا الاتفاق داعيا لمواصلة القتال حتى “تحرير المحافظة” ممن وصفهم بـ “العصابات”.

بنود الاتفاق التي نصت على “وقف إطلاق النار وضمان الأمن والاندماج الكامل للمحافظة ضمن الدولة السورية… إيقاف كامل لجميع العمليات العسكرية بشكل فوري والتزام جميع الأطراف بوقف التصعيد العسكري أو أي شكل من أشكال الهجوم ضد القوات الأمنية وحواجزها مع إعادة قوات الجيش إلى ثكناتها”.  كما شمل الاتفاق تعزيز وجود الأمن الداخلي والشرطة المحلية، وبنود أخرى اجتماعية أخلاقية ومحاسبة للمعتدين..

بالمقابل، رفض الهجري، أي اتفاق مع الحكومة السورية الحالية، مُشدداً على “أنه لا يوجد أي اتفاق أو تفاوض أو تفويض مع هذه العصابات المسلحة التي تُسمّي نفسها زوراً حكومة. ونُحذّر من أن أي شخص أو جهة تخرج عن هذا الموقف الموحّد، وتقوم بالتواصل أو الاتفاق من طرف واحد، ستُعرض نفسها للمحاسبة القانونية والاجتماعية دون استثناء أو تهاون”. وأكّد “إننا في الرئاسة الروحية نؤكد على ضرورة الاستمرار في الدفاع المشروع، واستمرار القتال حتى تحرير كامل تراب محافظتنا من هذه العصابات دون قيد أو شرط، ونعتبر ذلك واجباً وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً لا تهاون فيه”.

وإلى حدّ هنا انتهت الرواية مع حقنٍ للدماء وهدنة لا يُعلم إن كان سيتم الالتزام بها، وإلى ما ستؤول إليه أطماع الإسرائيلي الذي سبق وأن توسّع في الجنوب السوري واحتل جبل الشيخ ومحيطه، وأعرب الجولاني عن عدم مواجهة الإسرائيلي، بل يمهّد للتطبيع معه.

الحقيقة أبعد مما يُحكى

ما يجب الإحاطة به علماً أولاً، أن السويداء ليست خارج إطار الدولة السورية، وهذه المحافظة تقع تحت إدارتها، حيث يوجد محافظ معين من قبل الحكومة الانتقالية وقائد شرطة تابع لوزارة الداخلية، ما ينفي ما يُقال عن وجود حكم ذاتي أو تمرد. هذا يؤكد أن الأزمة ليست انفصالاً ولكنها خلافات سياسية داخلية. يوجد خلافات سياسية وإنما وجهاء وأهالي السويداء لم يرفضوا الدولة بشكل كامل، وأسباب رفضهم للانخراط في العملية السياسية، تكمن من خلال تساؤلاتهم وشروطهم حول كيفية إدارة الشأن السياسي، خصوصاً بعد وصول النظام الحالي إلى السلطة. هذا يعكس حالة من عدم الثقة وعدم الرضا السياسي أكثر من كونها صراعاً مسلحاً. وكل ادعاءات المجازر ووجود فلول النظام في السويداء هي اتهامات واهية وكذبة إعلامية مُضلله يُروّج لها لتُستخدم كذريعة تبرر التدخل العسكري أو السياسي، ما يعكس حجم التضليل الإعلامي في الملف السوري. كذلك هناك انتقاد واضح لسياسة نزع السلاح التي لا تطبق بشكل متساوٍ، وتمييز في سياسة نزع السلاح بين العشائر، حيث يسمح لبعض العشائر بحمل السلاح بينما يُمنع آخرون، ما يخلق حالة من الغضب والاحتقان بين السكان المحليين ويعمّق الانقسامات الاجتماعية والسياسية.

 تظهر تحليلات الأوساط السياسية، أن الولايات المتحدة وإسرائيل، بمساندة بعض الدول العربية المتعاونة، من ضمنهم الإمارات تلعب دوراً رئيسياً في تنفيذ السياسات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، من خلال دعمها العسكري والسياسي لمشاريع تقسيم الدول العربية وزرع الفتن؛ تستغل الخلافات الطائفية والقومية لزرع الاقتتال الداخلي وإضعاف الدول العربية، ما يؤدي إلى تفتيت الكيانات الوطنية وحدوث أزمات مستمرة. هذا التدخل يُعد استمراراً لسياسة “الشرق الأوسط الجديد” التي تهدف لتقسيم المنطقة تحت ذريعة محاربة الإرهاب، لكنها في الواقع تخدم مصالح الاحتلال، وما جرى في السويداء دافعه أكبر بكثير من السبب المباشر الذي يُحكى على القنوات الإعلامية.

المعتدون في السويداء لا يرتدون زيّ الجيش أو الشرطة ولا ينتمون رسمياً لأي جهة أمنية، ما يثير تساؤلات حول الجهات التي تقف خلفهم، ومدى وجود تنسيق رسمي أو دعم لهذه الانتهاكات، ولجأوا إلى إهانة المواطنين الدروز بقص الشوارب في الشوارع ليست فقط تصرفات فردية، بل تعكس حالة فوضى وانهيار مؤسسات الدولة وغياب القانون، حيث يقوم أشخاص مدنيون بممارسات غير قانونية، ما يدل على تفشي حالة “شريعة الغاب” في بعض المناطق. وهذا يهدد الوحدة الوطنية ويعمق الانقسامات الطائفية التي يمكن أن تفضي إلى تفتيت البلاد.

هذا ما يُخوّل الاحتلال الإسرائيلي استغلال الأوضاع في السويداء لتوسيع نطاق نفوذه عبر إقامة مناطق عازلة وتحكم في السلاح، ما قد يحوّل الجنوب السوري إلى منطقة محمية من قبل الاحتلال تمنع وجود أي قوة تهدد أمنه، ويتحقق الهدف الإسرائيلي من السيطرة على الجنوب السوري والتمدد.

هذا ما يُؤكّد تحليلات الأوساط السياسية من أن الدخول العسكري إلى السويداء قد تمَّ تحت إشراف إسرائيلي وأمريكي مُباشر، أي أن دخول العناصر التابعة للجولاني ومن يقف خلفه إلى السويداء جاء بموافقة إسرائيلية، حيث تم الاتفاق على ألا يكون هناك سلاح ثقيل يهدد الاحتلال، ما يدل على تنسيق استخباراتي وسياسي بين الأطراف الدولية المحلية لضبط المشهد الأمني في الجنوب.

بالنسبة للإقليم والمنطقة، النزاع في السويداء تسبب في توترات أمنية على الحدود اللبنانية السورية، وحتى توترات داخليه من قِبل اللبنانيين المنتمين للطائفة نفسها، حيث بدأت بعض الاحتجاجات والتوترات تظهر في لبنان، ما يربط الأوضاع السورية بالتوازنات الإقليمية ويؤكد على خطورة استمرار الأزمة. لبنان، وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية، يظهر نوعاً من النضج السياسي والاجتماعي يمنعه من الانزلاق بسهولة في صراعات داخلية كما حدث في سوريا. هذا الوعي مهم للحفاظ على وحدة لبنان واستقراره، خصوصاً في ظل التهديدات الخارجية التي قد تنجم عن تفكك سوريا أو تصعيد الصراعات في المنطقة.

في الختام، الاتفاقات القائمة قد لا تكون قابلة للتنفيذ عملياً ما قد يهدد المنطقة بفصل دامٍ جديد، كما أن هذا الوضع من عدم وجود دولة فعالة تفرض القانون وتحمي المدنيين يترك الناس في حالة من الضعف والخوف، ما يدفعهم إلى اللجوء إلى الفصائل المسلحة والقيادات المحلية المسلحة كوسيلة للحماية. هذا الواقع يشكل تهديداً لاستقرار المجتمع ويعزز من بقاء النزاعات المسلحة.

المشهد الراهن يعكس تصاعداً في الصراعات الطائفية والمذهبية التي قد تؤدي إلى إعادة رسم الخرائط الجغرافية والسياسية في المنطقة، بما يشمل سوريا ولبنان وأجزاء من الأردن، مع احتمال تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية. فهل تنجح إسرائيل بإنشاء حزام أمني في الجنوب السوري يمتد من الناقورة حتى حدود الأردن، مع تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية ضمن مشروعها ببناء دولة إسرائيل الكبرى؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *