“أفضل من لا شيء”.. شعارٌ للأفضلِ المؤجّل
بقلم غسان عبد الله
“أفضل من لا شيء” جملة نرددها في كل المناسبات آنياً ما دام الأفضلُ لم يأتِ بعدُ وربما لن يأتي!!. لذلك، فلا خيار أمامنا سوى التحاف ما يقدَّمُ لنا بوصفهِ كساءَ عزاءٍ يعانقُ الموتَ الحريريَّ في زمنٍ يخونُهُ اللازمان، ويستلبُ فيه صمتَ البيئةِ المحرومةِ دهشةُ اختراقِ الفرحِ لحظةَ الإعلان عن ضرورةِ الأفضل.
إننا نعيش حلقات أعظم دراميةٍ ممسرحةٍ تعتذرُ عن جحيمِها الآنيِّ بوعودِ البحثِ عن حلمِ الأفضلِ وعن القوى الخفيةِ القابضةِ عليه. فنحن في سنواتِ المرحلةِ الانتقالية؛ مرحلةِ التّكاذُبِ التي تستلهِمُ من زلزلةِ روحِ الأفضل سحرَ الإحساسِ بأننا نعيش حياةً طبيعية، وبتعبير أدقّ، نتخيل حياتنا – الحياة الطبيعية – تخيلاً حسياً فيحضرُ الأمر ونقيضُهُ بشكلٍ يختلطُ فيه الحلُمُ والخياليُّ والمستحيلُ بالواقعي. هذه الحالةُ تجعلنا نتخيّلُ أن لدينا تعليماً يُعلّم، ومنظومةَ صحةٍ تعالِج، وجهازَ عدالةٍ يُنصِف… بينما الأسوأ هو رضانا بمؤسسةِ التعليم التي لا تعلّم، وبمؤسسةِ الصحةِ التي لا تداوي، وبمؤسسةِ العدالةِ التي تظلِم… بل الأبشع من هذا وذاك هو عدمُ القدرةِ على استشعارِ الأفضلِ والعجزُ عن تشخيصِهِ وكأننا حُرِمنا من الشروطِ الضروريةِ التي تسمحُ لنا بتفعيلِ قدراتِنا الفطرية.
“أفضل من لا شيء” شعارُ استنفارٍ أقصى تضيعُ به بوصلةُ الاتجاه، بل شعارٌ مؤسّسٌ للحركةِ الضامنةِ لتدجينِ التفكيرِ بالأفضلِ ولاحتواءِ الوجهِ الآخرِ لحظةَ الشعورِ بفداحةِ الظلمِ والاستبداد. إنه شعارٌ للأفضلِ المؤجّلِ طبعاً لأننا في المرحلةِ الانتقالية، والأفضلُ المؤجلُ ليس أفضلاً بالتأكيد لأنه يُرجى دونَ أن يتحقّق. إنه حلقةُ توسُّطٍ بين الموتِ والحياةِ تحجُبُ اللغزَ الذي بمقتضاه لا ينفكُّ الأفضلُ ينهارُ باستمرارٍ ويستحيلُ إلى عرشٍ شُيِّدَتْ متاريسُ صروحِهِ على تيّار ماٍء متدفّقٍ بلا توقف.
“أفضل من لا شيء” عبارةٌ فضفاضةٌ يستيقظُ معها الاستبدادُ على صرخةِ عذابٍ يرسمُ بدمهِ ويخطُّ بدموعهِ أفضلاً تراجعَ إلى النقيضِ المتاخمِ لوضعِ الانقضاءِ، والضّمورِ، والموت. عبارةٌ تخفي ميولاً ساديةً وأنماطاً لا إنسانيةً للارتباطِ نتيجةَ فقدانِ القدرةِ على الحلمِ وعدمِ الاستطاعةِ على رسمِ شروطِ الأفضل. إنها انخراطٌ قاهرٌ في قوالبِ الأصنام، والمؤسسةُ لسلطةِ الوصايةِ والاستثمارِ التي تجرّمُ حافزَ تشخيصِ الأفضلِ حين الإلقاءِ بنا في محنةِ العجزِ عن التفكيرِ فيه والاحتفاظِ بالسكوتِ حياله، حيث تغيبُ كلُّ إجابةٍ فيتولّدُ قلقُ استحالةِ العثورِ على موضوعٍ مخصوصٍ للأفضل.
“أفضل من لا شيء” فكرةٌ وُصِفت بالإشراقةِ حين ارتبطَ زمنُها بسياقٍ قلَّمتِ البلادةُ أظافره. والبلادةُ ليست سوى لحظةِ الرحيلِ إلى عالم اللاإنتماء والتجلّي المغشوش بارتعاشةِ الفكرةِ المصحوبةِ بأضاليلها، ليستلذَّ شهقَتَها المستبدُّ الرابضُ والمثقفُ المُداري. فكرةٌ أبعَدَتْنا عن وضعنا الطبيعيّ المتمثلِ في السّعيِ الشّرعيِّ نحو أصالةِ الأفضلِ حيث بساطةُ العيشِ وعفويةُ التصرف. فبترتيباتها الاجتماعيةِ المصطنعةِ، ونُظُمِها الأخلاقيةِ المتكلّفةِ – على نحوٍ فيه الكثيرُ من الادّعاءِ والنفاق – أصبحنا أمامَ مفارقاتٍ يتسلى الكثيرُ باستنطاقِها، مفارقاتٍ لا تفعلُ شيئاً سوى إحلالِ التبريرِ محلَّ التفكير ليتولّد خليطٌ هجينٌ انحدرتْ فكرتُه المضلِّلةُ من سلالةِ التّبريرِ كعلامةِ عياءٍ أفرغتْ محتوى المجتمع. فقد أضحى هذا الأخيرُ شبيهاً بمحارٍ أُفْرِغَ من الحياةِ ليتحوّل إلى صدفةٍ مشطورةٍ إلى نصفين، ومبعثرةٍ على شاطئ الأزمنةِ الحديثة. فطرفا الصدفةِ تجسِّدُهُ الجدليةُ الصراعيةُ لأطروحةِ المحاكاةِ في نسختَيْها؛ ففي الحالةِ الأولى لسنا أكثرَ من ببغاءٍ مقلّدٍ تلحُّ محاولاتُهُ الرجعيةُ على المطابقةِ التأصيليةِ لفكرةِ الأصلِ القابعِ في دهاليزِ الماضي، وفي الحالةِ الثانية لم نبارحْ قَطُّ دورَ الوكيلِ التجاريِّ الذي يسوِّقُ بضاعةً أجنبيةً بدعوى إمكانيةِ استنساخِ علامتِها التجاريةِ محلياً.
“أفضل من لا شيء” تعبيرٌ تهكميٌّ مسكنُهُ العَرَضِيّةُ والفوضى السائدةُ، مؤكداً أنْ ليس هناكَ جيدٌ أو رديء، خيِّرٌ أو شرير. لعلّه تهكميٌّ ما دام ينظرُ بعينِ الهُزءِ للأفضلِ والحسِّ السليم، بل هو تهكّمِيٌّ لأنه مدفوعٌ بعدميةٍ تعكسُ الوجهَ المقلوبَ للحظاتِ العجزِ التي تخترِقُنا عندما نظنُّ أن أفضلَ طريقةٍ لنفرضَ على المستبدِّ ألماً يدوم طويلاً هو أن نُظْهِرَ له ما كان يبدو له ذا أهميةٍ قصوى تافهاً لا طائل منه. فالتهكُّم عدميةٌ من جنسِ الذي يساعدُنا على الانعتاقِ من الحسرةِ والمرارة، ذلك أنه لم يكن لشيءٍ أن خَذَلنا مثلما خَذَلنا الساسةُ والمثقفون. لقد وعدونا بأشياءَ كثيرةٍ، ونحن بدورنا توقّعنا منهم أكثرَ مما يستطيعون، ولكن، ويا لحظِّنا العاثر، لم نخرجْ معهم إلا بالإحباطِ وخيبةِ الأمل.
هذه الحقيقةُ المريرةُ جعلَتْنا نعيشُ في حيرةٍ مضنيةٍ بعد أن تسرّبَتْ مرارةُ الفشلِ إلى قاعِ أنفسِنا وأكّدَتْ لنا أننا نقفُ أمامَ جدارِ المستحيل. فمن قاعِ تلك الحيرةِ المدلهمّةِ تنفجرُ صرخةُ التّهكُم جاثمةً على أكفِّ العدميةِ لنتكلم لغةً مترعةً بالشكِ باعتبارها المرآةَ المشروخةَ والعاكسةَ لجنونِ الانعتاقِ من الحيرةِ الدائمة.
