إقليميات

حاجة حكام سوريا إلى عقد اجتماعي جديد يقوم ببناء الدولة التعددية

بقلم توفيق المديني

إمّا لتثبيت سردية “الشرعية الثورية” أو لتسويق تركة “المظلومية السُّنية”، في ظل تنامي دور “السنيّة الدينية”، ذات الطابع السلفي (وليس الجهادي) في إقليم الشرق الأوسط.

تعارض السلفية الجهادية مع المجتمع السوري التعددي

 ومن الواضح أنَّ هذا الحكم الجديد يلقى قبولاً متزايداً دولياً وعربياً، لكنَّ الأقليات تتحفظ على طبيعة مكوِّناته وأشخاصه الذين خرجوا للتوّ من عباءة “التنظيمات الجهادية” وفروعها العقائدية التي لا تقبل بالتعدد، ولا تؤمن ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وهي لا تلتقي مع الإسلام السوري الوسطي والمعتدل الذي يشكّل القوم الأغلبي السنّي المديني، وهو غير طائفي بالتعريف! وهو منتشر في دمشق ومعظم الحواضر السورية. فالأكثرية السنية المدينية لها خياراتها وتناقضاتها أيضاً، وإذ أمضت الشهور الأخيرة في فرحة الخلاص من الحكم السابق، فإنَّها تعرّف نفسه تاريخياً بتديّنها الأشعري أو الصوفي، أو قل ما شئت من مذاهب سنّية حضارية منفتحة. إنَّها لم تعرِّف وطنيتها يوماً بالطائفية، حتى تحت مذبح الأسد.

في ظل هذا الزمن العربي الرديء، وانقسام المجتمع السوري إلى طوائف وعشائر وإثنيات وأقليات، عرب، كرد، تركمان، آشوريون، أرمن، شركس. ليس هذا وحسب، بل هنالك أديان وطوائف متعددة: المسلمون (سنة، شيعة، علويون، دروز، إسماعيلية)، والمسيحيون، هم أيضاً متعددون بدورهم وينتمون إلى عدة كنائس أبرزها: الأرثوذكسية الشرقية، الكاثوليكية، الأرمنية، الأشورية.. فضلاً عن وجود أعدادٍ وإن أقل من الأيزيديين، فيما اليهود السوريون الذين كان لهم وجود في دمشق والقامشلي وحلب، فقد غادر معظمهم البلاد. يضافُ إلى ما سبق، وجود تيار واسع جداً عابر للطوائف والعرقيات، يؤمن بـ “العلمانية” وبأن الهوية المدنية هي الأساس الذي من خلالها يقدم نفسه ويبني علاقاته مع الآخر.

دور الهوية الوطنية في تعزيز الوحدة المجتمعية

في ظل كل ما تعيشه سوريا الآن، تواجه الهوية الوطنية تحدِّياتٍ كبيرةٍ، من وعدم الارتقاء بالحالة المجتمعية إلى مستوى ما من مستويات الاندماج القومي تمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التوكيد على البعد القومي للهوية التي يجب استعادتها وإعادة بنائها. والحل بالنسبة لمكونات الشعب السوري هو اختيار بلا تردد للبعد القومي للهوية. فالهوية العربية الإسلامية بالمعنى الحضاري والتاريخي، حين تكون هوية عصرية وحديثة وديمقراطية ومنفتحة على الحداثة بكل مندرجاتها الفكرية والثقافية والسياسية، ومنفتحة على الثقافات العالمية، ومتجهة إلى المستقبل، ليست في تضاد مع الهوية السورية أو المصرية أو التونسية الخ.. فلا نعود إزاء مفهومين وطني / قومي (سوري) عربي، متعارضين ومتنابذين، بل إزاء مفهومين يُحِيلُ الوطني أو القومي معهما على الحقل السياسي، أي على الدولة الوطنية، ويُحِيلُ الثاني، أي العربي، على الحقل الثقافي، وهو حقل كوني بامتياز.

السوريون يبحثون عن تشاركية حقيقية في الدولة من دون إقصاء

في وقت يسعى فيه النظام الجديد إلى إعادة بسط نفوذه وبناء مؤسساته من جديد، يواجه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تحدِّياً بالغ التعقيد من جانب الطائفة الدرزية، وكذلك باقي الأقليات، حيث يُصرّ السكان على الاحتفاظ بأسلحتهم الخفيفة، في رفض صريح لمطالبة الدولة بتسليم السلاح.

ويعتقد الخبراء والمحللون الملمّون بالشأن السوري الداخلي، أنَّ هذا الرفض لا يعكس مجرد تمسك محلي بالسلاح، بل يعكس أزمة أعمق تتمثل في انعدامٍ متجذرٍ للثقة  بالحكم المركزي الجديد  الذي لم يتحْ، حسب رأي السكان، في تقديم ضماناتٍ أمنيةٍ حقيقيةٍ، ولا يزال عاجزاً عن ضبط العصابات المسلحة التي تهدِّدُ أمن الأقليات، لا سيما أنَّ هذا الحكم ظلَّ يستعين بمن يثق بهم من الفصائل الجهادية التي لا تؤمن أصلاً بالتعدد والاختلاف والتنوع، وبقي في حيّز حلقته الضيّقة (بما في ذلك إدخال مقاتلين أجانب إلى وزارة دفاعه) ولم ينفتح – مضطرّاً – إلا بمقدار ضئيل في تشكيل “حكومته”، ولم تُنسَ بعد المآخذ على “حواره الوطني” و”إعلانه الدستوري”.

وفي الوقت الذي تطالب فيه الحكومة الجديدة التي تقودها جماعات إسلامية جهادية حملة لنزع السلاح في محيط دمشق، ومحافظة السويداء، ومحافظة درعا في الجنوب السوري، وفي المنطقة الشرقية حيث تسيطر “قسد”، فإنَّ الدروز، شأنهم شأن كثيرين في مناطق سوريا عديدة ينظرون بعين الريبة إلى نوايا الحكومة وقدرتها على حمايتهم بعد سنوات من الانفلات الأمني، وأشهر من التوترات المتصاعدة بين الطوائف. ويرى أبناء الأقليات والطوائف أنَّ السلاح ليس وسيلةَ تحدٍّ، بل ضرورة وجودية في وجه احتمالات تكرار سيناريوهات العنف الطائفي، كما حدث في الساحل السوري مؤخراً في السويداء.

ففي ظل غياب دولة قادرة على تنظيم أجهزة أمنية فاعلة، وبناء جيش وطني سوري الانتماء، وتزايد نشاط العصابات والجماعات المسلحة في مناطق عدة من سوريا، وعدم امتلاك الحكم الجديد مشروعاً وطنياً للمّ شمل “مكوّنات” المجتمع السوري، يبدو مطلب نزع السلاح كأنَّه محاولة لتجريد المكونات الضعيفة من أدوات الدفاع الوحيدة التي تمتلكها، من دون تقديم بدائل حقيقية للأمن. وتظل الأطراف الإقليمية والدولية تعبث في الواقع السوري الداخلي الذي بات يشكل الخطر الأكبر والداهم. يقيناً أنَّهُ لا يمكن أي جهة إقليمية أو دولية أن تحقق مشاريعها إلا إذا وجدت تناقضات داخلية يمكن اللعب عليها.

وبدا استقطاب الدروز يستدعي اهتماماً أكبر بعدما لوّح نتنياهو أنَّ لديه اختراقات باتت الآن تبدو عميقة في النسيج السكاني لـ “جبل العرب”، لا سيما حين طلب الشيخ حكمت الهجري بتدخل “قوات دولية لحفظ السلم” في سوريا. وحين توصل الحكم الجديد إلى اتفاق مع جهات درزية أخرى في السويداء يسهّل تعاون قوات السلطة والقوى المحلية على تأمين الأمن في محافظة السويداء، ردَّ نتنياهو بعدوانٍ جويٍّ مكثّفٍ لإحباط ذلك الاتفاق، مذكّراً بأنَّه يمنع دمشق من إرسال قواتها إلى الجنوب.

فالمشروع الصهيوني يريد تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، ويعمل على الاستثمار الذكي في التصدّعات الطائفية واللعب على الأوتار السورية المشدودة، وفرض استراتيجية غزو عسكري جديد لبناء شرق أوسط جديد يقوده العدو الصهيوني، الذي يواصل استهداف سوريا بذريعة إحباط التهديدات، ومنع دخول أسلحة استراتيجية، وضمان حرِّية الحركة الجوية.

الصراع الدولي والإقليمي على الحصص من الكعكة السورية

أمريكا، والقوى الاستعمارية الأوروبية، والكيان الصهيوني، وروسيا، وتركيا، والدول الخليجية، جميع هذه الأطراف الدولية والإقليمية، تُفَضِّلُ أنْ تكون الدولة في سوريا مَضْبُوطَةً بالاستبداد أو التوافق، ولا تُفَضِلُ بِنَاءَ دولةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ تعدديةٍ في سوريا، وكانت تلك سِيَاسَاتُها تُجَاهَ نِظَامِ الْأَسَدِ، الذي استطاع دائماً ضبط البلاد والتوافق معهم. وإلا فليسقط. فإنْ بقيتْ سوريا موحّدة يسودها السلم الأهلي، استبداداً أو توافقاً، فسيسعون لإدماجها في خرائطهم. وإِنَ لم تتمكن، فَلْيَقْتَطِعْ كل طرفٍ دوليٍّ أو إقليميٍّ قطعة من سوريا، وَلْيَبْقَ الصِرَاعُ بين السوريين مؤبّداً، و”فخار يُكَسِّرُ بَعْضَهُ”.

إذا أراد الحكم الجديد إعادة بناء الدولة الوطنية السورية، فعلى الرئيس الشرع أن يتبنى استراتيجية وطنية جديدة، يتم بلورتها من خلال فتح حوار وطني حقيقي تشارك فيه كل مكونات المجتمع السوري من دون إقصاء، وكذلك القوى السياسية الوطنية والديمقراطية والمنظمات الشعبية، والنقابات العمالية والفلاحية، ومنظمات المجتمع المدني، ويؤدي إلى توافق طوعي يُعيد السلم الأهلي، ويقطع الطريق على الجنون الطائفي الذي يستعر ليقطع أواصر العيش المشترك، وهذا أكثر ما تنتظره القوى الاستعمارية الغربية و الكيان الصهيوني.

ومن خلال هذا الحوار الوطني ينتج منه حكومة إنقاذ وطنية، مهمتها التعامل مع العالم ورفع العقوبات، ومواجهة اعتداءات الكيان الصهيوني، بصفتها ممثّلةً لكل مكوّنات المجتمع السوري من دون إقصاء، وقيادة المرحلة الانتقالية الصعبة نحو برّ الأمان، لبناء دولة سورية وطنية وديمقراطية وتشاركية تقوم على أساس المواطنة، وتعبر عن انتظارات  وطموحات ومصالح الشعب السوري، وعدم ترك الساحة السياسية لزعماء  الطوائف ورجال الدين وحدهم كي يقوموا بصناعة الرأي العام في سوريا. وتشكل مسألة ضبط السلاح الفالت الخطوة الأولى لبناء الدولة، التي من بين مهامها احتكار العنف.

وهذا يستدعي حلّ الفصائل المسلّحة، وفي المقدّمة المحسوبة على الحكم الجديد، الذي يتوجّب عليه أن يقدّم القدوة في ذلك، ويعمل بصورة جادّة لبناء جيش وطني يتولى الدفاع عن سيادة البلد بوجه الاعتداءات الصهيونية المستمرة، وجهاز أمن يعمل على تحقيق الاستقرار وتوفير الأمن للمواطنين.

والسؤال المطروح سورياً وعربياً، هل يمتلك الرئيس السوري أحمد الشرع استراتيجية وطنية وفكر سياسي راديكالي لتحويل سوريا التي تعاني من خطر التقسيم على أسس طائفية وعرقية، من موقع نموذج الدولة القابلة للاندماج في النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي الأمريكي المتوحش، والخاضع للسيادة الأوروبية – الأمريكية، إلى موقع متمرد على هذه السيادة.

خاتمة: تحتاج سوريا في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ من أجل بناء نظامها الديمقراطي الجديد. إذ لا يمكن تصور إمكان قيام نظام وطني ديمقراطي في سوريا يحظى باحترام جميع مكونات المجتمع السوري، بما فيها الأقليات، من دون هذا الاتفاق على هذا المشروع المجتمعي المشترك، بين الحكومة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع، وبقية فصائل المعارضة على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية. وحين يعجز المجتمع عن بلوغ مثل هذه المواطأة على المشروع الجامع، تتحول فيه صناديق الاقتراع الى مجرد وسائل للتغلب والاستيلاء تعوض وسائل القوة الحربية!‏.

إنَّ الحلقة المفقودة فيما بات يعرف في الخطاب السياسي بـ “الربيع العربي” الذي هيمنت عليه تيارات الإسلام السياسي، هو غياب مثل هذا العقد الاجتماعي، الذي يجب أن يقوم على الحرية والمواطنة واستقلال المجال السياسي، هو ما يجعل السياسة ممكنة، بما هي تعبير عن مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية، وبما هي منافسة سلمية وحضارية على إدارة الشؤون العامة.

إنَّ الإصلاح الديمقراطي في سوريا يتقدم بتوافر الشروط الأساسية التالية:‏

أولاً: وحدة قوى المعارضة، ومِن ثُم الوحدة الجدلية للمعارضة والسلطة.‏

ثانياً: تحويل الدولة السورية، إلى دولة وطنية هي تعبير حقوقي وسياسي عن هوية المجتمع، مع اقتراب الانتخابات التأسيسيّة الأولى. ولا يتحقق ذلك إلا بإجراء انتخابات في موعد يتم الاتفاق عليه بين السلطة والمعارضة، وبناء نظام ديمقراطي يحول دون عودة النخب الفاقدة الشرعية، التي قد تعيد تجميع نفسها من أجل وضع اليد على مقاليد الحكم مجدّداً. هذا النظام الديمقراطي قوامه: سيادة القانون والحرية، وفصل السلطات، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن.‏

ثالثاً: لما كان مصدر قوة ومشروعية ومبرر وجود المعارضة الديمقراطية هو الوطن والقانون والحرية، فلا بد لمشروع بناء النظام الديمقراطي الجديد بوصفه المخرج الوحيد لانتظارات الشعب السوري، من أن يستجيب لتطلعات كل مكونات المجامع السوري إلى التعددية والديمقراطية، ويواكب التطورات الإقليمية والدولية التي جعلت من الديمقراطية المدخل الأسلم للمحافظة على استقرار البلد وتماسكه المجتمعي. إن قوام الديمقراطية هو فصل السلطات، فعندما لا يكون استقلال السلطة القضائية مضموناً، لا يستطيع الناس أن يتمتعوا بحماية قانونية. ويعتبر وجود سلطة تشريعية مستقلة في الديمقراطية الفتية، وتشكل حرية التعبير عن الرأي، وضمان الحقوق المدنية والسياسية، وتأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات والانضمام إليها لتمكين الفقراء من المطالبة بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أمراً حيوياً للديمقراطية الشاملة.‏

 كما أن الدولة الوطنية يجب أن تتأسس على قاعدة احترام الحريات العامة والفردية، ومبادئ العدالة، والحقوق المطلقة للمواطنين التي لا يجوز التصرف بها، فليس للدولة أن تَفرُض أيّاً من الواجبات على مواطنيها، وليس للسلطة أن تَفرُض أيّاً من الواجبات على المعارضة. ذلك لأنَّ قوام الدولة والسلطة الممسكة بزمامها هو القانون، والسهر على حسن تطبيقه، فهما أي الدولة والسلطة تعبيران مباشران عن الكلية العينية، كلية المجتمع والشعب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *