أول الكلام

أسئلة بلا جفون

بقلم غسان عبد الله

لم يَأْفُلِ العمرُ الذي‏ انسربتْ مناسكُهُ سدى.‏. ما زالَ يستبقي لفافةَ شَيبهِ‏ لكهولةِ الأحلامِ‏ قال النّبضُ لي:‏ هَيئ سواقي راحتيكَ لرحلةٍ،‏ تُدْنيك من بَرٍّ شبيهٍ بالقيامةِ‏ إن عبرتَ جسورَها‏ تَصل الخلودَ‏ أو الرّدى..‏

دعني على ظمئي‏ فقد غابت بعيداً عن يدي‏ رطبُ الجوابِ،‏ أكونُ؟‏ أو لا؟‏ من يجوسُ حطامَ أسئلتي ليكتبَ:‏ “كان يصعدُ حافياً‏ جبلَ الحقيقةِ‏ حينَ آثرَ موتَه”؟‏، خَلَتِ السّفينةُ بي‏ وآوي الآن من زبدٍ‏ إلى رملٍ‏ وأنمو قربَ ناقوسينِ‏ يندسّان في كفيَّ‏ صبّاراً.. وعصفوراً،‏ أكادُ أُجَنُّ.. كيف أعيشُ في ضدّي؟‏ ومن سيمدُّ لي كفَّ التّشابهِ‏؟ من سيمسحُ لوعتي، ويدلّني؟‏ حقٌّ تأبّطني على شجرِ الصّراطِ‏ فكنتُ زيتاً في قناديلِ اليقينْ؟‏ أم باطلٌ‏ يستعطفُ الشهواتِ في ثلجِ الضّلوع بدمعهِ؟‏ أم بيْنَ… بينْ؟‏.

من فَرْطِ ما انحنتِ المآذنُ دمعةً‏ حتى تُعانِقَ من تَمدَّدَ في الجهادِ‏ بثوبِ شاهدةٍ تَخَامَدَ صوتُها،‏ من فَرْطِ ما شقَّتْ لغيبتِهم نداءَ الدَّمعِ‏ وهي تورِّثُ الفردوسَ‏ عطراً من دماهمْ،‏ لن ترى من أسطحِ الجيرانِ‏ رقصاً للحمامِ‏ إذا يوازي عرشُها‏ غيبوبةَ الطّرقاتِ،‏ هل ينمو بغرَّتِها‏ أذانُ الفجر بعدَ الآن؟‏ لا…‏ للموتِ طبعُ الليلِ يختلسُ المدى‏ في غفلةٍ من أعينِ الكونِ‏ المضرَّجِ بالتّعبْ‏.. للموتِ ما خبَّأتُ سِرّاً‏ من أراجيحٍ تَماهَتْ في غنائيَ‏ كي أُسرّحَ شعرَها يوماً‏ إذا النبضاتُ خالجَها الحطبْ.‏ كم أنتهي خلفَ اهتراءِ أصابعي‏ حينَ المسافةُ بين أجفاني‏ وبينيَ‏ لا تخيطُ سوى جنازةِ من أحِبُّ،‏ وإنْ أكُنْ‏ أخَّرتُ إغفاءَ السَّتائرِ‏ رؤيةً… أو غفلتينْ.‏. لن تستطيع غوايةُ الإسراءِ‏ للأحلامِ‏ أن تَلِجَ المقابرَ شمعةً‏ لتَرُدَّ من باعوا لعنقودِ الضياءِ فتيلهمْ،‏ هي خدعةٌ‏ أنَّ الشُّموس تزفُّ غيمتَهم إلى إشراقنا،‏ قُلْ: أين تقرأُ قمحَهمْ‏ في حقلِ شقوتنا اليباسْ؟‏ هي خدعةٌ‏ أنّا سنلبسُ طرحةَ العيدِ النديّ‏ إذا نصومُ عن الخيانةِ،‏ كذبةٌ،‏ أن الحقائبَ حين تفتحُ صدرَها‏ ينثالُ فوق جباهنا‏ ملكوتُ أورادِ الحنينْ.‏.

محفورةٌ بخطايَ‏ ذاكرةُ الشّوارعِ،‏ كم غمرتُ سكونَها بصدى صبايَ‏ ومشَّطتْ بظلالِها خوفَ الفتى،‏ كم جئتُها‏ لتعيدَ ترتيبَ الهواءِ بصدرِ أوردتي‏ فَأَلْقَتْ‏ طفلَ أغنيتي ببئرِ التيهِ‏ آهٍ……‏ كم حلفتُ بأنَّني‏ سأزجُّ رأسيَ في غياباتِ السّجودِ‏ إذا تخلَّفَ عن وداعيَ‏ ذئبُها!!‏ كم قلتُ لي أهلونَ أفتتحُ السماءَ بوردِهم‏ دونَ ابتسامتِها‏ فدوخَّني الضجرْ!!‏ وتأخّرتْ عنّي زنودُ الشَّمسِ‏ أضَلَّ مرافئي سرُّ القمرْ.‏ فأتيتُ متَّكئاً على دربِ اشتياقيَ‏ للفوانيسِ التي‏ غمرت برعشتها برودَ سواحلي..‏ الآن انتهيتُ من احتضاريَ،‏ جئتُ أقصدُ وجهَها،‏ متعثِّراً بدمي‏ وأنيابُ القبائلِ لم تبدِّلْ لونَها،‏ أرنو إلى المدنِ الشهيدةِ‏ كي تقاسمَني العيونُ‏ دموعها مطرَّزاً بالحزنِ،‏ لا‏.. لا أنشُدُ الرَّغباتِ‏ إذْ تَلِدُ المخاطرَ والكرى،‏ هي دمعةٌ‏ من رقَّةِ الأجفانِ‏ أحلمُ أن أضمِّدَ غربتي بحريرِها‏ لتفوحَ ذاكرتي‏ بأعنابِ الأمومةِ والقُرى.‏ فأنا تعبتُ‏ من المناديلِ الخضيلةِ‏ ليسَ لي‏ قلمٌ تَرِقُّ له حروفُ الرُّوحِ‏.. تفتحُ بابَ موقدهِ يداي.‏ وأنا تعبتُ‏ وقد فقدتُ جهاتِ وجهيَ‏ في ضجيجِ الشَّكِ‏.. هل حقَّاً سأبصِرُني‏ إذا أمطرتُ وجهيَ في المرايا‏ أم يباغِتُني سواي؟‏.

أمشي ويَمْشي في خُطايَ‏ سَرابُ أرغفةِ السّماءِ‏ ولا يعانقُ خلْوَتي‏ إلا رصيفُ الجوعِ‏ يثقبني رصاصُ العابرينْ..‏ طينٌ أبادِرُهُ العناقَ‏ فيطلِقُ المنْفى عَلى قَلْبي‏ ويزهق في فضاء الرّوحِ‏ أسرابَ النوارسِ‏.. فاعذروني‏ إنْ سئمتُ مما تناثرَ‏ في كتابِ الطيّبينْ.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *