إقليميات

الاتفاق الأمني مع “إسرائيل” يضع سوريا أمام مفترق طرق تاريخي

بقلم توفيق المديني

هذا ما ذكرته “القناة 12 الإسرائيلية” في تقريرها يوم الثلاثاء 25 آب/أغسطس 2025، إِذْ قالت القناة إنّه “من المتوقع أن تُوقّع “إسرائيل” وسوريا على تسوية ‏أمنية، هدفها استقرار الوضع في سوريا ومنع التهديدات ضد “إسرائيل”.

أبرز بنود الاتفاق

‏• ‏نزع السلاح من منطقة الجولان السوري: من دمشق وحتى ‏السويداء، لمنع تهديدات إرهابية من المنطقة المحاذية لـ “إسرائيل”.‏

•‏ منع إعادة بناء الجيش السوري على يد تركيا: نقطة تعتبرها “‏إسرائيل” بالغة الأهمية.‏

•‏ حظر نشر أسلحة استراتيجية داخل سوريا: بما في ذلك ‏الصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي، بهدف الحفاظ على حرِّية العمل ‏والتفوق الجوي لسلاح الجو الإسرائيلي في المنطقة.‏

‏ممر إنساني إلى جبل الدروز في منطقة السويداء: قضية ‏حساسة ترتبط مباشرة بالطائفة الدرزية وبالمساعدات الإنسانية لها.‏

‏المكاسب للنظام السوري: وعود بإعادة إعمار الدولة بمساعدة ‏أمريكية وخليجية.‏

ووفقاً للتقرير الإسرائيلي، فإنّ التفاهمات المتوقّعة تشمل نزع السلاح من الجولان ‏السوري، حظر نشر أسلحة استراتيجية، وإنشاء ممر إنساني للدروز في ‏السويداء. ‏وفي المقابل، سيحصل النظام في دمشق على مساعدات لإعادة الإعمار من ‏الولايات المتحدة ودول الخليج – خطوة تهدف إلى استقرار سوريا ‏وإبعادها عن المحور الإيراني، وذلك وفقاً للإعلام الصهيوني. ‏

وبحسب انتشار التقارير الإعلامية الإسرائيلية والغربية التي لا يمكن التأكد من مدى صحتها ودقتها، فإنَّها تفيد باحتمال ترتيب اجتماع في نيويورك الشهر المقبل بين الرئيس أحمد الشرع ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، على هامش الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، قد يتخلّله، أو يسبقه، توقيع اتفاق أمني بين الجانبين، يكون بمثابة خطوة أولى نحو انضمام سورية إلى مسار “الاتفاقات الابراهيمية”. فقد يُوقّع الطرفان السوري والإسرائيلي الاتفاق في 25 أيلول/سبتمبر2025، برعاية ‏أمريكية وخليجية.

وكان لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دورٌ محوريٌّ في هندسة الاتفاق الأمني  الإسرائيلي – السوري، بوصفها المحرّك الرئيس في هذا التقارب؛ إِذْ ضغطتْ على الكيان الصهيوني لتسريع المفاوضات، خصوصاً أنَّ المبعوث الأمريكي إلى سوريا ولبنان والكيان الصهيوني توماس برَّاك يتلهف لتحقيق إنجازٍ دبلوماسيٍّ رمزيٍّ  قبل اجتماع نيويورك، يريده الرئيس الأمريكي الساعي لترسيخ صورته عالمياً  كـ “مهندس للسلام” في الشرق الأوسط، ويسعى إلى إعلانه باعتباره اتفاقاً بين “إسرائيل” وسوريا في الأمم المتحدة، حتى لو كان محدود الأبعاد، حيث يسعى ترامب إلى ضم سوريا إلى قائمة “إنجازاته” للترشّح لجائزة نوبل للسلام.

الاتفاق الأمني يعدُّ انتهاكاً لسيادة الدولة الوطنية السورية

ترى الولايات المتحدة أنَّ المعنى الأوسع للاتفاق هو محاولة لإعادة سوريا ‏إلى وضع أكثر استقراراً في الشرق الأوسط بعد سنوات الحرب الأهلية، مع إبعادها عن النفوذ ‏الإيراني. أما “إسرائيل”، فهي تسعى لضمان أمنها، سواء في مواجهة ‏محور إيران وحزب الله، أو في مواجهة احتمال نشوء محور سُّنِّي ‏متطرف جديد على الحدود، يشمل عناصر من “داعش” و”الإخوان ‏المسلمين”.

‏في هذا السياق، الاتفاق الأمني ينزع حرفيّاً سيادة الدولة السورية عن الجنوب، حيث قال الرئيس السوري أحمد الشرع ‏‎ ‎إنَّ “المفاوضات مع ‏إسرائيل وصلت إلى درجة ومرحلة متقدمة، بحسب ما نقلت صحيفة ‏‏”إسرائيل اليوم”. ‏وأضاف الشرع أنه “إذا تمَّ الاتفاق الأمني مع “إسرائيل”، فسوف يكون ‏على قاعدة اتفاقية فك الاشتباك عام 1974 بين الجيش السوري ‏والإسرائيلي”، ولا يرى الشرع في المرحلة الحالية إمكانية للتوصل إلى ‏اتفاق سياسي.‏

والحال هذه لن يكون هناك تطبيعٌ شاملٌ بين سوريا والكيان الصهيوني، بل يمكن أن تقود المحادثات الجارية إلى إبرام اتفاقٍ أمنيٍ سيتضمن التزامات أمنية لمنع تموضع فصائل المقاومة القريبة من إيران، من محاربة الكيان الصهيوني انطلاقاً من الأراضي السورية، وفرض الهدوء في المنطقة الحدودية. ولن يتضمن هذا الاتفاق الأمني بين “إسرائيل” وسوريا أيَّ تغييرٍ في السيادة على الجولان، وإنَّما خطوات تدريجية في قلب سوريا فحسب.. أمّا أسس الاتفاق المتوقع فتستند إلى وثيقة فض الاشتباك بين سوريا و”إسرائيل” والعائدة إلى العام 1974 وبموجبها انتهت حرب أكتوبر/تشرين الأوّل 1973، وفترة حرب الاستنزاف؛ حيث رسّمت الحدود، وحُدِّدَ نشر القوات، ونُظمت الرقابة، ومُذّاك ظلتْ محافظة على صمودها في أكثر الفترات تصعيداً وتوتراً. وعليه فإنَّ الأوساط الصهيونية تعتقد أنَّه بالإمكان تحديثه ليتلاءم مع التحدِّياتِ الراهنةِ.

وكانت سوريا وقعت اتفاقية فض الاشتباك عام 1974 مع دولة الاحتلال الصهيوني، وهي اتفاقية التزمت سوريا بها بينما انتهكتها “إسرائيل” بشدَّةٍ خصوصاً على مدى السنوات الأخيرة. وبعد سقوط نظام الأسد أواخر العام الماضي، أعلنت دولة الاحتلال الصهيوني انهيار الاتفاقية وشَنَّتْ مئات الغارات على سوريا بينها في محيط القصر الرئاسي، بينما شدَّدَتْ دمشق في أكثر من مناسبةٍ على التزامها باتفاقية فضِّ الاشتباك وعدم تهديدها لأي دولة في المنطقة.

الاتفاق هو استثمارٌ إستراتيجيٌّ إسرائيليٌّ في نظام شرق أوسط أمريكي – صهيوني أمني جديد، يُقصي إيران، ويُضعف الجهات غير الدُّولية المعادية للكيان الصهيوني، ويُرسِي “استقراراً دائماً” على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة ، كما يرسّخ مفهوماً جديداً عنوانه: استقرار الدول العربية ودعم أمريكا لها، مرهونٌ بالتزاماتها بالحفاظ على أمن الكيان الصهيوني. لا يقتصر الأمر على ترتيباتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ في الجولان والجنوب السوريَّين، بل يشمل: وقفاً دائماً لإطلاق النار بين الجانبَين؛ تجميد الوضع على الحدود، أي أنَّه لن تكون هناك عودة للنظام السوري إلى الجولان، ولا انسحاب إسرائيلي من المناطق التي توغّل فيها جيش الاحتلال الصهيوني عقب سقوط النظام؛ وتبادل للمعلومات الاستخبارية لمكافحة التنظيمات الجهادية؛ وحرِّية الحركة على طول الحدود لجيش الاحتلال؛ ودعم وإشراف أمريكيان، عبر قوات مراقبة أو آلية تفاهمات لم تُحدّد بعد.

في هذه الحالة تتحول سوريا، بعد سقوط نظام الأسد، إلى حارس أمن للكيان الصهيوني، بما أنَّها لم تَعُد قوّة عسكرية، ولا لاعباً إقليميّاً مستقلّاً، بل دولة منهارة تبحث عن شرعية وبقاء. فالرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع لا يمتلك في حوزته خيارات كثيرة، إذ يبدو أنّ جلّ ما يسعى وراءه، هو البقاء في السلطة، وهنا يُرْهِنُ رغبته تلك بِرِضَى القوى الدولية والإقليمية، ولا سيّما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، لهذَا يُصْبِحُ التوجّه إلى التفاهم مع هذا الأخير، ضرورةً “وجوديةً”، وانحناءً تحت الضغط، وخضوعاً لواقع لا قدرة للشرع على تغييره، وليس خياراً تفاوضيّاً، أو مبادرة إستراتيجية.

تعمل الحكومة الصهيونية إلى استغلال أزمة النظام الجديد في دمشق، وتجذّر الانقسامات حول مشروعه في الحكم، لانتزاع اعتراف من قبل أحمد الشرع بالواقع الجديد الذي تحاول فرضه في الجنوب السوري، بما في ذلك اشتراط العودة إلى اتفاق فصل القوات لعام 1974 باعتراف دمشق، في مرحلةٍ ما، بالسيادة الصهيونية على مرتفعات الجولان المحتلة عام 1967، والقبول باحتفاظها، “إلى حين”، وبقمّة جبل الشيخ وأجزاء من المنطقة العازلة التي احتلتها أخيراً، والموافقة على تحويل كامل الجنوب السوري إلى منطقة منزوعة السلاح (نزع سيادة الدولة السورية تماماً عنها تمهيداً لإنشاء مليشيات محلية مرتبطة بها، كما يحصل حالياً في السويداء)، وحظر امتلاك الجيش السوري صواريخ بعيدة المدى، ووسائل دفاع جوي، وكل ما من شأنه أن يشكّل تحدّيّاً للسيطرة الإسرائيلية المطلقة على المسرح السوري.

وبالمقابل، لن ينسحب الكيان الصهيوني من أيّ موقعٍ إستراتيجيٍّ سيطر عليه في الأراضي السورية؛ بل على النقيض من ذلك: يُصِرُّ على البقاء في قمّة الحرمون ومناطق أخرى في جنوب سوريا. وكما أكّد وزير الأمن، يسرائيل كاتس، فإنّ إسرائيل “لا تتفاوض من موقعِ ضُعْفٍ، بل من قمّةِ القوّةِ”: جيش سوري منهار، لا يمتلك صواريخ ولا طائرات، ونظام جديد يعتمد على دعم أمريكي للبقاء. وفضلاً عن ذلك، يَفْرُضُ الكيان الصهيوني على النظام الجديد في دمشق قواعد جديدة: لا “ميليشيات جهادية” على الحدود (بمعنى لا جيشاً سورياً جديداً على هذه الحدود)، لا نشاط أو نفوذ إيرانيَّين: إنَّه البند المحقّق المتَّفق عليه بين السوريين والإسرائيليين، و”حماية الأقلية الدرزية”، مع الالتزام بعدم التصعيد الأمني ومنعه. وهي شروطٌ لا تمثّلُ تنازلاً من جانب الكيان الصهيوني، بل فرضاً للاستقرار، وفق معاييره.

حكومة الشرع أمام خيارين

يواجه النظام السوري بقيادة أحمد الشرع ضغوطاً متواصلة للتأثير في توجهاتها السياسية والإقليمية. فالإمبريالية الأمريكية رهنت رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا بمدى تجاوبها مع الملفات الداخلية الحساسة (الأقليات، والطوائف، والمرأة، والتعليم) وموقفه من العلاقة مع الكيان الصهيوني. والحال هذه وجد الشرع نفسه أمام خيارين:

الأول: الاستجابة للشروط والإملاءات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية مقابل الحصول على الشرعية والدعم والانفتاح. ويبرز الكيان الصهيوني كقوة احتلال يحاول استغلال المرحلة الانتقالية الحساسة في سوريا لإعادة تشكيل المشهد بما ينسجم مع أطماعه ومصالحه الأمنية. وهو يسعى إلى استخدام أدوات متعددة، عسكرية وسياسية، وصولا إلى تحركات دبلوماسية متسارعة لإضعاف موقف دمشق، في محاولة منها لفرض مسار تطبيعي بالقوة على الحكومة الجديدة.

من بين أوراق الضغط التي يوظفها الكيان الصهيوني في تعاطيه مع الوضع السوري ما بعد الأسد، الاستثمار في “ورقة الأقليات” والتوترات الداخلية في سوريا من خلال دعم بعض الأطراف الدرزية لخلق نوع من “الحكم الذاتي”، وبذلك تتحول السويداء إلى قاعدة متقدمة، يحميها الكيان الصهيوني ويتدخل عبرها بشكل أو آخر في بقية الأراضي السورية.

حكومة الشرع، لا تملك التمثيل الكافي، أو الشرعية السياسية اللازمة للتنازل عن أي شبرٍ من الأرض السورية، أو توقيع اتفاقٍ تتنازل بموجبه عن الجولان السوري المحتل، وكذلك الجنوب السوري، فهي حكومة غير منتخبة من قبل الشعب السوري، وبما أنَّها حكومة انتقالية لا يجوز لها الخوض في قضايا مصيرية من دون إجماع وطني حولها. استسهال التعامل مع قضايا وطنية كبرى، باعتباره “تفكيراً من خارج الصندوق”، لا يؤدّي إلا إلى تعميق الشروخ في النسيج الاجتماعي والوطني السوري الممزّق أصلاً.

التوقيع على اتفاق أمني مع الكيان الصهيوني يضع القيادة السورية الجديدة أمام معادلة شديدة التعقيد: من جهة، الاتفاق قد يفتح باب الإعمار بدعم أمريكي ومساعدات من دول الخليج، في محاولة لإعادة البلاد إلى حالة استقرار، مع تقليل النفوذ الإيراني في المنطقة، وتخفيف الضغط العسكري الإسرائيلي؛ وبقاء الشرع في الحكم لمرحلة معينة، ومن جهة أخرى، القبول بالشروط والإملاءات الأمريكية – الصهيونية يُعَدُّ انتهاكاً لجوهر سيادة الدولة الوطنية السورية. فإذا سار النظام الجديد في هذا الخيار، التنازل عن الجولان والجنوب السوري، فبماذا يختلف هذا السلوك عن نظام الأسد (الأب والابن) الذي ضحى بالجولان عام 1967 من أجل الاحتفاظ بالسلطة في دمشق؟

الثاني: رفض التجاوب مع الضغوط الأمريكية – الصهيونية، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية للدولة الوطنية السورية، والانسجام مع الموقف السوري التقليدي الرافض للتطبيع وتفعيل دور المجتمع المدني والقوى الشعبية لتعزيز صلابة الموقف الرسمي ورفض التطبيع، بما يوفر للنظام حصانة داخلية في مواجهة الضغوط الدولية.

وتجدر الإشارة إلى أنّه حتى لو اختارت القيادة السورية السير في مسار التطبيع والانفتاح على الكيان الصهيوني، فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة الحصول على درجة الرضا الكاملة التي تسعى إليها؛ إذ إنّ عناصر الابتزاز والضغط الصهيوني والأمريكي والغربي ستتواصل لتنفيذ الكثير من الطلبات وتحقيق العديد من المعايير، التي تفقد النظام السوري عناصر هويته الوطنية والقومية والإسلامية، وتُخضعه لمنظومة الهيمنة الصهيونية والأمريكية. كما أنّ عناصر الشكّ والتخوّف ستبقى قائمة تجاه قادة سوريا الجدد بسبب خلفياتهم الإيديولوجية الجهادية، وهو ما يعني أنّ الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ودول التطبيع ستفضل سياسة التدرّج المشروط، كما ستفضل تغيير هذه القيادة إلى قيادة أكثر براغماتية وولاء وانسجاماً مع الهيمنة الأمريكية – الصهيونية في المنطقة.

خاتمة: تخطئ الحكومة السورية الجديدة، وكذلك الأمر للحكومة اللبنانية التي تطالب بنزع سلاح حزب الله، إذا أعْرَبَتَا عن استعدادهما لإقامة علاقات تطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو لا يزال يحتلّ أراضيهما ويعلن إملاءاته على الملأ وكأنَّهُ وَصِيٌّ عليهما، فلن يكون موضوع التطبيع الانسحاب من الجولان المحتل والعودة إلى حدود عام 1967، بل التدخّل في شؤون البلدين الداخلية. ولا سبيل لمقاومة هذا المخطّط الأمريكي – الصهيوني في سوريا سوى تبنِّي مشروعٍ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ تعدُّديٍّ غير طائفيٍّ، بل معادٍ للطائفية، قادر على توحيد الشعب السوري في الشمال والجنوب والشرق، وبناء دولته الوطنية الديمقراطية التعددية، القادرة وحدها على توحيد البلاد، ومع سوريا من التفتيت.

في الواقع العربي، هناك خياران يتصارعان، خيار المقاومة وبناء ذات الأمة الديمقراطية بالمعني العصري لهذه الكلمة الذي تتبناه الشعوب العربية، وخيار الخضوع للإستراتيجية الأمريكية – الصهيونية، الذي تتبناه الأنظمة العربية، ويقود إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتهويد الأراضي العربية المحتلة، ويفسح في المجال لنتنياهو لتحقيق حلم “دولة إسرائيل الكبرى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *