ترامب يريد تدمير حماس والاستيلاء على غزَّة
بقلم توفيق المديني
بدعمٍ أمريكيٍ كبيرٍ، يواصل جيش الاحتلال الصهيوني حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزَّة، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، التي خلّفت 63 ألفاً و746 شهيداً و161 ألفا و245 مصاباً، معظمهم أطفال ونساء، وآلاف المفقودين، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة قتلت 367 فلسطينياً بينهم 131 طفلاً، حتى الأربعاء 3 سبتمبر 2025.
وكشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أنَّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تدرس خطة لما بعد الحرب على غزة، تقضي بأن تتولى الولايات المتحدة إدارة القطاع لفترة لا تقل عن 10 سنوات، مع إعادة تطويره وتحويله إلى مركز سياحي وصناعي.
وقالت الصحيفة إنَّ الخطة، المؤلفة من 38 صفحة وتحمل اسم “صندوق إعادة الإعمار والتسريع الاقتصادي والتحول في غزة”، أعدتها ما تسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من واشنطن، والتي تعمل بالتنسيق مع جيش الاحتلال الصهيوني وشركات أمريكية خاصة في مجالات الأمن واللوجستيات.
وتتضمن الخطة نقل سكان غزة، البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، إما “طوعاً” إلى بلد آخر أو إلى مناطق محددة داخل القطاع خلال إعادة الإعمار، بشكل “مؤقت”، على أن يحصل كل من يغادر على 5 آلاف دولار نقداً، ومساعدات غذائية لمدة عام، إضافة إلى إعانات لتغطية إيجار 4 سنوات. كما ينص المقترح على منح “رموز رقمية” لأصحاب الأراضي مقابل حقوق إعادة تطوير ممتلكاتهم.
وبحسب واشنطن بوست، فإنَّ الخطة تنص على إدارة أمريكية مباشرة على النظام القائم تحت إشراف الأمم المتحدة، والذي تعتبره “إسرائيل” غير فعال ويسمح “للمسلحين” بالتحكم في المساعدات. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت في أغسطس/آب المنصرم أن أكثر من ألف فلسطيني استشهدوا أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات منذ بدء عمل مؤسسة غزة الإنسانية في مايو/أيار2025.
وترى الصحيفة أن تفاصيل الخطة تتماشى مع تصريحات سابقة لترامب، الذي قال في فبراير/شباط إن على الولايات المتحدة “السيطرة على غزة” وإعادة بنائها لتصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”، وهو ما أثار حينها غضب الفلسطينيين والمنظمات الإنسانية خشية التهجير القسري.
يأتي ذلك بينما تواصل قوات الاحتلال تصعيد عملياتها في مدينة غزة، التي أعلنتها “منطقة قتال خطيرة”، في وقت يعقد فيه المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر اجتماعا لمناقشة خطة السيطرة على المدينة، وسط تحذيرات من منظمات إغاثة من تفاقم أزمة الغذاء التي تهدد أكثر من نصف مليون فلسطيني بالمجاعة.
“حماس” تجدّد التأكيد: “غزَّة ليست للبيع”
أكدت حركة “حماس” رفضها الخطة الأمريكية التي يُحكى عنها لإخلاء قطاع غزة وتحويله إلى “منطقة اقتصادية وسياحية”، بعد تقارير نشرتها صحيفة “واشنطن بوست”. وأكد عضو المكتب السياسي لحركة “حماس” باسم نعيم لوكالة “فرانس برس”، موجّهاً كلامه للإدارة الأمريكية: “انقعوها واشربوا ماءها، كما يقول المثل الفلسطيني بالعامية، غزة ليست للبيع”. وأضاف أنّ غزَّة “ليست مدينة على الخريطة أو جغرافيا منسية، بل جزء من الوطن الفلسطيني الكبير”. وأوضح نعيم أنّ “حماس وشعبنا يرفضان هذه الخطة التي تنص على نقل سكان القطاع خارج غزة ووضعه تحت إشراف أمريكي لمدة عشر سنوات، لتحويله إلى منطقة سياحية ومركز للتكنولوجيا المتقدمة”.
وقال مسؤول آخر في الحركة، طلب عدم ذكر اسمه، إنّ “حماس” “ترفض كل هذه الخطط التي تهجّر أبناء شعبنا وتبقي المحتل على أرضنا، إنها خطط بلا قيمة وظالمة”. وأكد أنّ الحركة “لم تتلقَ أي شيء رسمي بشأن هذه الخطط، وسُمعت عنها عبر وسائل الإعلام فقط”.
وبالمقابل، أكدت حركة حماس في بيان أصدرته يوم الأربعاء 3 سبتمبر 2025 استعدادها للتوصل إلى “صفقة شاملة” يتم بموجبها إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل عدد متفق عليه من الأسرى الفلسطينيين في إطار اتفاق لإنهاء الحرب في قطاع غزة.
وأضافت حماس “تجدد الحركة التأكيد على موافقتها لتشكيل إدارة وطنية مستقلة من التكنوقراط لإدارة شؤون قطاع غزه كافة وتحمل مسؤولياتها فوراً في كل المجالات. كما أكدت الحركة استعدادها لصفقة تتضمن انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، وفتح المعابر، وبدء عملية إعمار شاملة، باعتبارها شروطاً أساسية لأي اتفاق قادم.
ويأتي بيان حماس بعد فترة وجيزة من دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحركة إلى إطلاق سراح كل المحتجزين المتبقيين وعددهم 20. وتقدر تل أبيب وجود 48 أسيراً إسرائيلياً بغزَّة، منهم 20 أحياء، بينما يقبع بسجونها أكثر من 10 آلاف و800 فلسطيني يعانون تعذيبا وتجويعا وإهمالا طبيا، استُشهد العديد منهم، حسب تقارير حقوقية وإعلامية فلسطينية وإسرائيلية. ومؤخراً وجهت عائلات الأسرى الإسرائيليين عدة مناشدات لترامب، آخرها الثلاثاء، طالبته خلالها بالضغط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإبرام صفقة تعيد ذويهم من قطاع غزة، الذي يشهد إبادة جماعية ترتكبها تل أبيب بدعم من واشنطن منذ عامين.
وفي 18 أغسطس المنصرم، وافقت “حماس” على مقترح للوسطاء بشأن صفقة جزئية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة، إلا أن إسرائيل لم ترد على الوسطاء، على الرغم من تطابق بنوده مع مقترح سابق طرحه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، ووافقت عليه تل أبيب.
وبدل ذلك، يدفع نتنياهو نحو احتلال مدينة غزة بدعوى إطلاق سراح الأسرى وهزيمة “حماس” وسط تشكيك كبير في إمكانية تحقيق ذلك من قبل معارضين ومسؤولين سابقين وتأكيد الجيش الإسرائيلي أن العملية تشكل خطرا على حياة الأسرى.
نتنياهو واستمرار الحرب على غزة للبقاء في الحكم
يشنُّ نتنياهو حرب الإبادة الجماعية والتجويع على غزَّة منذ ما يقارب السنتين، إضافة إلى تطبيقه نظام الأبارتهايد المفروض على الفلسطينيين منذ عقود، وهو يعتقد أنَّ كل هذه الفظاعات الفاشية لم تعد كافيةً، لذا يعمل الآن على القيام بخطوات راديكالية تماماً من نوع دفع السكان بالقوة خارج الحدود، وتدمير أماكن سكناهم، ومصادر عيشهم.. وقد وضعت الحرب الحالية هذه الخيارات على جدول الأعمال.
بدأ جيش الاحتلال الصهيوني باستدعاء 60 ألفاً من جنود الاحتياط استعداداً لاحتلال مدينة غزة، في معركة يتوقع أن تستمر أشهراً عدة. وتأتي الاستدعاءات على الرغم من موجة تململ في صفوف جنود الاحتياط. ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، عن مجموعة من جنود الاحتياط أنهم توقفوا عن الخدمة لأسباب بينها سلوك غير أخلاقي ضد الفلسطينيين، بينما قال آخرون إنهم وصلوا إلى نقطة الانهيار لأنه “لا يمكن القضاء على حماس بسبب أسلوبها في حرب العصابات”.
وكشف المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل عن أن جنود الاحتياط لن يُرسلوا، في معظمهم، إلى القطاع، بل سيّوجّه نحو نصفهم إلى المقرّات، بينما سيلتحق النصف الآخر بالكتائب التي ستحلّ محل الوحدات النظامية المنتشرة حالياً في الضفة الغربية، وعلى حدود “إسرائيل”. وفي المقابل، يخطط رئيس هيئة الأركان العامة لنقل أغلبية قوات الجيش النظامي المقاتلة إلى جبهة القطاع، وخصوصاً ضمن العملية العسكرية داخل مدينة غزة (31/8/2025).
هناك إجماع في “إسرائيل” لدى الخبراء والمحللين السياسيين والعسكريين، ناهيك عن عدد كبير من القادة العسكريين السابقين، مفاده ما يلي: على الرغم من محاولات إضفاء منطق استراتيجي – سياسي على استمرار الحرب وعلى قرار احتلال غزة، فإنَّ هذه الحرب تخدم هدفاً سياسياً واحداً هو استمرار بقاء نتنياهو في الحكم، فإذا سقطت حكومة الائتلاف اليمينية المتشددة، فإنَّ مصير نتنياهو هو السجن. وأجمل هذا الأمر اللواء احتياط يسرائيل زيف، الرئيس السابق لشعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، الذي كتب يقول إنَّ لرئيس الحكومة استراتيجية واحدة فقط: كسْب الوقت من أجل بقاء حُكْمِهِ، فحتى شهر واحد أو أسابيع معدودة تساوي عنده كل ثمن. إنه يتجاهل تماماً إرهاق جنود الاحتياط، وإنهاك الجنود النظاميين، والضيق من الوضع الصعب الذي يعيش فيه معظم الجمهور، فهذا لا يعنيه حقاً. وفي الوقت نفسه شدّد زيف على أن المسألة تعود بقوة إلى الشعب؛ فهل هو مستعد للاستمرار مع مناورات رئيس الحكومة السياسية على حسابه، ومع مزيد من الأكاذيب والوعود الفارغة من المضمون؟ إن لم يكن كذلك، فهذا هو الوقت لكي يقول الشعب كلمته بوضوح (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 25/8/2025).
الحرب على غزة لبناء نظام إقليمي تهيمن فيه “إسرائيل”
الحرب التي يقودها نتنياهو على غزَّة تأتي ضمن سلسلة حروب أمريكية فاشلة لهندسة النظام الإقليمي الشرق أوسطي بعد هجمات11 أيلول/سبتمبر 2001، (وهي) تتوج حروباً أنجبتها ثورة مضادة مولها وهندسها دعاة الصهيونية العربية من أنظمة خليجية وسواها عقدت “الاتفاقيات الإبراهيمية” مع الكيان الصهيوني سنة 2020، بهدف القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية الداعمة لصمود حركة حماس في قطاع غزَّة. وهو ما نجم عنه، تقويض دول، وتفتيت مجتمعات، وانهيار منظومة الأمن الإقليمي.
“إسرائيل” تملك فائضاً من القوة العسكرية بسبب الدعم الأمريكي المطلق لها، لذا فالعنف الهمجي الإسرائيلي غير المسبوق في الحرب على غزة، لم يكن فقط بدافع الانتقام وإنقاذ صورة الدولة المهانة نتاج عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، بل وأيضاً للتذكير بما لدى هذه القوة الإقليمية من “كفاءة الأذى وأدوات العنف”، وبما يعنيه هذا من قدرتها على فرض نظام الشرق الأوسط الجديد الأمريكي – الصهيوني، الذي لا مكانة فيه للدولة الفلسطينية، ولا مكانة فيه لوجود دولة وطنية عربية أو إسلامية ذات سيادة.
ولذلك، فإنَّ الرئيس الأمريكي يدعم بقوة قائد العصبية الصهيونية نتنياهو من أجل خلق هذا المجال الحيوي للشرق الأوسط الجديد، الذي يشمل بلاد الشام كما مصر والعراق، وتركيا وإيران. أما نتنياهو فهو يخوض هذه الحرب تنفيذاً لسيده الأمريكي، وفي الوقت عينه نتنياهو يريد لهذه الحرب تحقيق ولادة “إسرائيل الكبرى” التي تحقق فيها مشروعها الإمبراطوري. لكن ما يلفت الانتباه أن حرب هذه “القوة الإقليمية الصاعدة” تكتنفها “الهشاشة”؛ إذ بدى واضحا أن إسرائيل بحاجة، طوال الوقت، للحماية والمساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية، على عكس ما تحاول الترويج له. كما ظهر عجزها عن “الإنجاز السريع على الأرض على الرغم من قوتها النارية الهائلة”.
خاتمة: سوف يكون شهر أيلول/سبتمبر شهراً حاسماً على صعيد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. هذا الصراع الذي يعيد اليوم تشكيل منطقة الشرق الأوسط برمتها، كما فعل لعقود خلت. وعلى الرغم من الخلافات الحادة التي تدور داخل القيادات العليا لجيش الاحتلال الصهيوني، بشأن “قضية الأسرى واحتلال مدينة غزة”، وهي خلافات نوّه بها المحلل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، رون بن يشاي، فإنَّ الجيش الصهيوني يدفع قدماً نحو استمرار الحرب، ونحو احتلال مدينة غزة، وترسيخ الحكم العسكري الصهيوني، وذلك خلافاً لرغبة أغلبية واضحة في المجتمع الصهيوني ، وكذلك خلافاً لموقف “المستويات المهنية” في قيادة الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، من خلال تجاهل أن الأثمان ستكون باهظة، وستتمثل، كما يؤكد مثلاً الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”) و”معهد أبحاث الأمن القومي” اللواء احتياط عاموس يدلين، في المزيد من دماء الجنود، ومن زعزعةً مكانة “إسرائيل” في العالم، في وقت تبقى فيه الإنجازات، قياساً على الواقع القائم، موضع شك كبير، ولذلك فهي برأيه “لا تبرر سقوط مزيد من الجنود، ولا التخلي عن الأسرى، ولا عشرات المليارات من أموال دافعي الضرائب (الذين هم أيضاً يرسلون أبناءهم إلى الجيش)، ولا الانهيار الدبلوماسي غير المسبوق الذي بدأ فعلاً، وسيُحطم مكانة إسرائيل في العالم” (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 27/8/2025).
أما الرئيس ترامب لن يوقف الحرب الإسرائيلية على غزَّة، إلا بعد أن يستولي على القطاع، فلا يزال يداعبه تحقيق حلم “ريفيرا الشرق الأوسط”. بينما في زمن العدوان الثلاثي على مصر في الخامس من تشرين ثاني – نوفمبر1956، كانت إسرائيل قد احتلت أغلب شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة والجزيرتين في خليج العقبة القريبتين من مضائق تيران صنيفار وتيران والمنطقة الاستراتيجية المصرية في رأس شرم الشيخ. وأبلغ بن غوريون الكنيست أن حكومته لن تسمح لأي قوة دولية بالتمركز في إسرائيل أو في المناطق التي احتلتها، وخط الهدنة الإسرائيلي – المصري لعام 1949 قضى نحبه ودفن. وقرأ علناً رسالة الانتصار موجهة للقوات المسلحة.
وفي الثالث من شباط – فبراير 1957، طلب الرئيس الأمريكي أيزنهاور مجدداً من “إسرائيل” سحب قواتها من غزة، فقال بن غوريون إنَّ “إسرائيل” لن تفعل ذلك ما لم تعط سلطة الإدارة والبوليس في غزة، وما لم يفتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية، وفي الخامس عشر من شباط – فبراير، رفض الإسرائيليون مرَّة أخرى التزحزح عن موقفهم، وفي تلك الأثناء كانت الولايات المتحدة تحضّر لإطلاق مبدأ أيزنهاور الذي أعلن أخيراً في التاسع من آذار/مارس 1957، والذي خطط وهندس لتأمين الدول العربية الموالية للغرب ضد الراديكاليين من الأنظمة العربية، والذين يدعمهم الاتحاد السوفييتي بالعون الاقتصادي والأسلحة. ولقد شعر دائس إن المشروع لن ينجح ما لم تتخذ الولايات المتحدة موقفاً صارماً من إسرائيل بالنسبة لـ غزة: لقد وصلنا الحد الأقصى في جهودنا لتسهيل انسحاب إسرائيل، ووافق أيزنهاور على ذلك.
أردت من هذه العودة إلى التاريخ، إبراز مسألة في إقليم الشرق الأوسط، أنَّ “إسرائيل” هي أداة في تنفيذ المخطط الأمريكي، والكلمة الأخيرة هي للولايات المتحدة، في تقرير مسائل الحرب، وكذلك الضغط على الكيان الصهيوني للتراجع عن عدوانه، شريطة أن تكون هناك قوى وطنية مقاومة، تستند إلى قوى إقليمية عربية وإسلامية مناهضة للمشروع الأمريكي-الصهيوني.
